في بلدٍ يُفترض أن تكون فيه المعاملة حقًّا، تحوّلت أبواب الدوائر الحكومية إلى متاهةٍ من الطوابير والوساطات و”بدل تسريع”، تُدار على هامش القانون. من سمسرة الطوابع وافتعال ندرتها، إلى شبكات معقّبي المعاملات والموظفين المرتشين، يعيش المواطن والمقيم ابتزازًا يوميًّا يضرب الثقة بالدولة ويهدر المال العام. ومع أن الحل معروف وقد أُقرّ عنوانه في مجلس الوزراء: المكننة الشاملة والشفافية الرقمية، إلا أنّ السؤال يبقى: لماذا تعطّلت؟ وإلى متى؟ الإشكالات بالدليلمافيات الطوابع واحتكار حاجات الناس لم تعد سرًّا. تقرير ديوان المحاسبة عام 2024 كشف سوقًا سوداء منظّمة للطوابع، متَّهَمة فيها حتى بعض الجهات المخوّلة بالبيع، بتحقيق أرباح غير مشروعة قاربت 20 مليون دولار خلال عامين فقط، بسبب ندرة مُدبَّرة. أصل الحكاية قديم: فوزارة المالية أعلنت أواخر 2022 رسميًّا أنّ الاحتكار واقع يعيشه المواطنون على شبابيك الدولة، ولتفادي التلاعب أقرت تعليق بعض فئات الطوابع. ومن هنا عاد النقاش حول البديل: الطابع الإلكتروني. دهاليز ومغاور المعاملاتفي آب/أغسطس 2025، فكّكت “شعبة المعلومات” في قوى الأمن الداخلي شبكة تزوير أختام لبنانية وسورية، تورّط فيها معقّبو معاملات ومكاتب ترجمة، ما أظهر تداخل “التعقيب” مع تزوير وثائق رسمية. أما القضاء فلاحق بعض معقّبي المعاملات بتهمة التدخل في الإثراء غير المشروع في قضايا السجل العقاري، كاشفًا كيف تحوّلت الخدمة غير النظامية إلى جزء من الجريمة الأصلية.على المقلب الآخر، ارتشى موظفون وعُطِّلت مرافق عامة كالسجل العقاري في صيدا وجبل لبنان (بعبدا) حيث ظهر نموذج فاضح للفساد. التحقيقات طاولت 124 موظفًا، نتج عنها توقيفات بالعشرات، إقفال إدارات لأشهر، وتعطيل عشرات آلاف المعاملات مع خسائر ضخمة للخزينة. في بلدٍ يُفترض أن تكون فيه المعاملة حقًّا، تحوّلت أبواب الدوائر الحكومية إلى متاهةٍ من الطوابير والوساطات و”بدل تسريع”، تُدار على هامش القانون شهادة من الميدانيروي (م.ح) أنّه تقدّم مطلع 2024 إلى السجل العقاري في سراي صيدا بطلب سند ملكية، مع أوراق مكتملة. فجاءه الجواب: “تعى بعد شهرين”، بذريعة أن المعاملة “نازلة على بيروت”. فهم الرسالة: المطلوب رشوة. رفض الابتزاز، لكن بعد أيام تواصل معه معقّب معاملات عارضًا إنجاز الملف مقابل 1500 دولار “لتوفير” أكثر من 4000 دولار يُفترض أن تذهب إلى خزينة الدولة. المشهد ذاته يتكرر في دوائر المالية حيث تُدفع رشى للمراقبين لتسهيل التهرب الضريبي لأصحاب الشركات والمصالح. أين وصلت المكننة؟ ولماذا تعثّرت؟في 12 أيار/مايو 2022، أقرّ مجلس الوزراء «استراتيجية التحوّل الرقمي 2020–2030» كخارطة طريق رسمية. ثم أُقرّ في شباط/فبراير 2024 مرسوم المستندات والتواقيع الإلكترونية، خطوة تمهيدية ضرورية للخدمات الرقمية. لكن التنفيذ ما زال متعثّرًا بفعل عقبات تنسيقية وتمويلية وتشريعية، بحسب تقييمات دولية، رغم نجاح جزئي لتجارب منصّات (IMPACT وDAEM) التي أثبتت أن الرقمنة ممكنة حين تتوافر الإرادة. الحل البنيوي: إطلاق الطابع الإلكتروني (E-Stamp): منصة رقمية مع رصيد مدفوع مسبقًا، مرتبطة مباشرة بوزارة المالية مع كود تحقق، لإنهاء الندرة المصطنعة وإقفال السوق السوداء.هوية رقمية وتوقيع إلكتروني: ربط المواطن والمقيم والمنشآت بخدمات إلكترونية بلا ورق أو حضور.رقمنة مسارات السجل العقاري والدوائر الأساسية: نظام حجز دور وتتبع ملفات مع زمن خدمة مُلزِم (SLA) وسجل تدقيق.الدفع الإلكتروني والتحصيل الموحّد: إلغاء الدفع النقدي على الشبابيك واعتماد بوابات دفع مرخّصة مع إيصالات فورية.توسيع نجاح منصّات IMPACT وDAEM: نقل النماذج الناجحة إلى خدمات يومية مثل إخراج القيد، رخص البناء، والسجل العدلي. كل دقيقة ضياع في طابور ورقي تساوي ليرة فساد إضافية وسلطةً لوسيط على حساب الدولة. توقيف المخالفين واجب آني، لكن المكننة الشاملة وحدها تضمن ألا تعود الشبكات بوجوه جديدة. لدينا استراتيجية مُقرّة، مرسوم للتوقيع الإلكتروني، وتجارب منصّات ناجحة؛ ينقصنا فقط إرادة سياسية، تمويل محكم، وحوكمة تحاسب—حتى يعود المواطن إلى نافذة الدولة الرقمية، لا إلى يد السمسار.
إنْ كانتِ الضوضاءُ قد حصلتْ على صَخرةِ الروشة، فالحدثُ كان في صيدا. ليسَ من بابِ المصادفةِ أنْ يظهرَ “محمّد مهدي” نجلُ الأمينِ العامِّ السابقِ لـ”حزب الله” حسن نصر الله عندَ الطرفِ الجنوبيِّ للمدينة، مُحاطًا بجُمْهرةٍ من المؤيّدين والمناصرين، وهو الذي يَعتبره كثيرون شبيهَ أبيه ووَريثَه المحتمل في احتفالٍ بذكرى والده. علْمًا أنّ المسافةَ بينَ الحدثين تَبعُدُ عشراتِ الكيلومترات، ولا ترابطَ بينهما بأيٍّ من الأشكال. وفي هذا الإطار توقّفت مصادرُ سياسيةٌ صيداويةٌ متابعةٌ عند هذه المشهدية، التي بعثتْ برسائلَ في مختلفِ الاتجاهات، خاصّةً على صعيد المدينة بوابة الجنوب. أبرزُها موجَّهٌ ضدّ النائب أسامة سعد، لاسيّما بعد الإشكال الأخير الذي حصل بينه وبين ممثّلي “الحزب” في ذكرى انطلاق “حركة المقاومة الوطنية”، برسالةٍ واضحة مفادُها: “نحن على الأرض وفي الشارع”. أمّا الثاني فكان بحقّ النائب عبد الرحمن البَزري، المقرَّب حاليًّا من الجوّ السعودي، بأنّ حساباتِ المرحلة المقبلة ستكون مختلفة عمّا كانت. بالإضافة طبعًا إلى مسعى تثبيتِ وجودٍ طاغٍ للحزب يُبنى عليه في مَهدِ والمعقل الأقوى ل “الحريرية السياسية”. ماذا يعني ذلك؟ يعني أنّ صيدا في عين الحدث، ولو كان أهلُها “نائمين”، وستكون في القادم من الأيام على موعد مع محطات كثيرة مشابهة. ولا تأتي مظاهرُ الاحتفالات والمسيرات والعراضات التي تشهدها المدينةُ بشكلٍ يستفزُّ الكثيرَ من أهلها وناسها، إلا لتؤكّد أنَّ العينَ على صيدا اليومَ أكثرُ من قبل، خاصّةً بعدما أفرزتْه وقائعُ الحرب الإسرائيلية الأخيرة على جنوب لبنان تحديدًا. فَتَحَضَّروا… محمد مهدي خلال الاحتفال مع أنصار حزب الله في صيدا
إنَّه زمنُ الكلِّ شيء. كلّو على كلّو، على حدِّ قول المطرب الراحل أحمد عدوية. الغسيلُ، النظيفُ والوسخ، بات منشورًا على صفحات السوشيال ميديا علَّه يجذب انتباهَ المارّة في الشوارع الرقميّة، الذين يبصقون عليه أحيانًا أو يقذفونه بقاذوراتِ الشارع، فيُلمّ ويُنشر مكانَه غسيلٌ آخر، وهكذا…