في خطوةٍ تحمل الكثيرَ من الدلالات في الشكل والمضمون والتوقيت، وتهدف إلى إعادة الدفء للعلاقات الاقتصاديّة بين المملكة العربيّة السعوديّة ولبنان، تمَّ الإعلانُ عن إعادة تشكيل مجلس الأعمال السعودي–اللبناني، وهي خطوةٌ لاقت ترحيبًا واسعًا من الأوساط الاقتصاديّة في كلا البلدين، واعتبرها كثيرون دفعةً جديدةً لمسار التعاون المشترك. تأتي هذه الخطوة لتُعيد تفعيل إطارٍ حيويٍّ للعلاقات التجاريّة بين البلدين، خاصّةً وأنّ الجانب السعودي من المجلس لم يكن مُفعَّلًا منذ أكثر من عقدٍ من الزمن، ممّا يُضفي على هذه المبادرة أهمّيّةً استثنائيّة ويعكس رغبةً جادّةً في طيّ صفحة الجمود التي سادت خلال السنوات الماضية. خلفيّة تاريخيّةتعود فكرةُ إنشاء مجلس أعمالٍ مشترك إلى عام 2001، حيث تمَّ التوقيعُ بالأحرف الأولى على مذكرةِ تفاهمٍ بهذا الخصوص. وقد تبلورت الفكرة بشكلٍ رسمي في عام 2012 مع تشكيل المجلس على هامش ملتقى اقتصادي في بيروت. وعلى الرغم من ذلك، واجه المجلسُ تحدّياتٍ كبيرة حالت دون تمكُّنه من لعب دوره بفعاليّة، أبرزها الأزمات السياسيّة المتعاقبة في لبنان، وجائحة كورونا، وما نتج عنها من فتورٍ في العلاقات مع دول الخليج. شهد عام 2017 محاولةً جادّةً لإعادة إحياء المجلس، حيث عُقد أوّل اجتماعٍ له في غرفة بيروت برئاسة رؤوف أبو زكي، وتمَّ تشكيل لجانٍ متخصّصة للتجارة والاستثمار. إلّا أنّ تلك الجهود لم تكتمل، وبقي الجانب السعودي من المجلس غير مُفعَّل لأكثر من عقد، ممّا جعل من إعادة تشكيله اليوم حدثًا مفصليًّا. قيادة جديدة لمرحلة واعدةاليوم تمَّ تأليفُ تشكيلةٍ جديدةٍ للمجلس، تضمُّ نخبةً من الشخصيّات الاقتصاديّة والدبلوماسيّة البارزة في المملكة، ما اعتُبر أنّه مؤشرٌ سيساهم في تنشيط الاستثمارات المشتركة وتعزيز جسور التعاون بين رجال الأعمال في البلدين، وذلك بالتكامل مع اتحاد غرف التجارة والصناعة والزراعة في لبنان. وقد تمَّ انتخاب القيادة الجديدة على النحو التالي: (رئيس المجلس) عبدالله بن إبراهيم الحبيب (مصرفي معروف) (نائب الرئيس) السفير السابق علي عواض عسيري (أحد أبرز الدبلوماسيّين السعوديين) (نائب الرئيس) مطلق بن حمد المرشد (صناعي معروف) تصحيح المسار وتفعيل التعاون في تصريحٍ لـصحيفة “البوست” عن الموضوع، علّق رئيس مجلس التنفيذيّين اللبنانيّين، ربيع الأمين، على هذه الخطوة قائلًا: “إنّها بدايةٌ ممتازةٌ لصياغة علاقات لبنانيّة–سعوديّة سليمة، وتحديدًا على الصعيد الاقتصادي وعلاقات القطاع الخاص، وهو ما افتقدناه خلال السنوات الماضية التي وصلت فيها العلاقات إلى حدّ الجمود”. وأوضح أنّ “إعادة تفعيل الجانب السعودي من المجلس بعد توقّفٍ دام أكثر من عشر سنوات هي خطوةٌ جوهريّة لإعادة مسار العلاقات إلى طبيعته”. ودعا الجانبَ اللبناني، ممثَّلًا باتحاد الغرف اللبنانيّة، إلى “ملاقاة هذه المبادرة الإيجابيّة عبر الإسراع في انتخاب مجلسٍ جديدٍ من جانبه لتكتمل الصورة”. وأكّد الأمين أنّ مجلس التنفيذيّين اللبنانيّين سيتعاون بشكلٍ كاملٍ مع الجميع لإرساء علاقاتٍ اقتصاديّةٍ سليمةٍ ومستدامة بين البلدين. وحول الآليّات المستقبليّة، أشار إلى أنّ “وضع آليّات واضحة لتفعيل العلاقات التجاريّة ومساعدة المستثمرين سيكون بلا شكّ على رأس جدول أعمال المجلس الجديد”. تفتح هذه الخطوة البابَ أمام مرحلةٍ جديدةٍ من الشراكة الواعدة، وتُنعش الآمال في أن يشهد المستقبلُ القريب تعاونًا اقتصاديًّا أوسع يخدم المصالحَ المشتركة للبلدين الشقيقين، ويُعيد إلى الأذهان الدور التاريخي الذي لعبته المملكة في دعم استقرار وازدهار لبنان منذ استقلاله.
دولةٌ عاجزةٌ تبحث عن مخرج لم تعد صخرةُ الروشة مجرّد صخرةٍ تواجه البحر. في الذكرى السنويّة لوفاة حسن نصرالله، أُضيئت الصخرةُ بصورتِه العملاقة، لتتحوّل إلى منبرٍ سياسيٍّ مفتوحٍ في قلب العاصمة. لكن اللافت لم يكن الحدثَ بحدِّ ذاتِه، بل موقف الحكومة اللبنانيّة التي بدلاً من أن تواجهه كخرقٍ للقانون والنظام العام، لجأت إلى أسلوبها التقليدي: إعطاء رخصةٍ من جمعيّة واجهة تابعةٍ للحزب. هكذا حوّلت الدولةُ نفسَها إلى “مقدِّمة خدمات” لدى القوى النافذة، وباركت ما لا تستطيع منعه. التصوّفُ الحكومي… عبادةُ الأمر الواقع المشهد لم يكن بريئًا ولا فنّيًا. كان إعلانًا واضحًا عن سطوة الحزب على مفاصل القرار، وعن هشاشة الدولة التي لا تملك إلّا التصوّف والانحناء. الحكومة صارت تتصرّف كراهبٍ يبارك الأيقونات، ولو كانت أيقونةً سياسيّةً تُثير الانقسام. لم نرَ دولةً تضع معاييرَ واضحة، بل شاهدنا جهازًا بيروقراطيًا يمنح “بركةً رسميّة” لمشهدٍ سياسيٍّ يكرّس الانقسام بدل أن يوحّد اللبنانيّين. الروشة بين واشنطن والضاحية والمفارقة أنّ صخرةَ الروشة نفسَها وقفت قبل أسابيع خلف صورةٍ أخرى تمامًا: صورةِ وفدٍ أمريكيٍّ رفيعٍ يتناول العشاء في مطعمٍ مطلٍّ على البحر. خلف الوفد، الصخرةُ ذاتُها، لكن هذه المرّة كرمزٍ للسياحة والهدوء والانفتاح. الصورةُ انتشرت بسرعةٍ وكأنّها رسالة: لبنان ما زال قادرًا على استقبال الغرب بابتسامة، ولو كانت تلك الابتسامة باهتة. لكنّ التناقض صار فاضحًا: صخرةٌ واحدة تحمل وجهين، صورةَ نصرالله المضيئةَ ليلًا، وصورةَ الابتسامة الدبلوماسيّة نهارًا. هنا حزبُ الله يكرّس حضورَه الرمزي، وهناك واشنطن تلتقط خلفيّةً “إنستغراميّة” لتسوّق فكرة لبنان الجميل. سياسة “الصخرة المزدوجة” المشكلة ليست في الحزب ولا في الوفد، بل في دولةٍ جعلت من رمزٍ وطنيٍّ مثل الروشة سلعةً معروضةً للتأجير السياسي. أعطت الرخصةَ هنا، وتسامحت بالصورة هناك، وكأنّ الصخرةَ تحوّلت إلى شاشةِ عرضٍ يتناوب عليها اللاعبون المحلّيّون والدوليّون. صخرةُ الروشة اليوم تختصر مأساةَ لبنان: دولةٌ بلا قرار، تعيش بين قوّتَين متناقضتَين، وتحوّل المعالمَ الوطنيّة إلى منصّات صراعٍ رمزي. من رمزٍ للسياحة والحبّ، تحوّلت الروشةُ إلى شاهدٍ على دولةٍ عاجزةٍ تبيع “شرعيّتَها الورقيّة” مقابل تمرير المواقف. فأيُّ بيروتٍ هذه التي لم يبقَ منها سوى صخرة؟ نصفُها للضاحية ونصفُها لواشنطن، وبينهما بحرٌ يغرق فيه ما تبقّى من صورة لبنان كدولةٍ طبيعيّة.
هل كانت صخرةُ الرَّوشة منارةً للأملِ أم شاهدًا على إطفائِه؟ مشهدُ إضاءةِ صخرةِ الرَّوشة مساءَ أمس حمل العديدَ من الرسائل إلى الأطراف الدَّاخليَّة والخارجيَّة، وأعلن عودةَ حزبِ الله إلى ممارسةِ العمل، أو “العربدة” السياسيَّة التي اعتاد عليها قبل حربه الأخيرة مع إسرائيل. بدأ الحزب اليومَ بتطبيق سياسة “إحياء الأموات” التي أطلقها رئيسُ كتلته النيابيَّة محمّد رعد عبر إعادة انتخاب “الأخ الأكبر” لرئاسة مجلس النواب بعد عُمرٍ مديد. الإصبعُ الذي لطالما ارتفع في وجه اللبنانيّين عمومًا، وأهالي بيروت خصوصًا، يوم أُعلن السابع من أيّار “يومًا مجيدًا”، عاد ليطلَّ على العاصمة ليعلن انتكاسةً جديدةً لمدينةٍ منكوبة.وما أشبه الأمسَ باليوم: فالسِّلاحُ غاب عن اجتياح العاصمة هذه المرّة، لكن طيفَه كان حاضرًا بقوّةٍ في المشهد. أراد الحزب أن يُنذر خصومه في الداخل بأن زمنَ الاستثمار بهزيمةِ المحور قد انتهى، وأنَّه بعد عامٍ على اغتيال زعيمِه، وأقلَّ من سنةٍ على اتفاقِ وقفِ الأعمال العدائيّة، استعاد عافيتَه وقدرتَه على فرض شروطه على الدولة.أمّا التمثيل السياسي للحزب في هذا النشاط عبر مختلف المناطق اللبنانيَّة، فحمل الكثيرَ من الدلالات. إذ جاء ظهور “الحاج وفيق”، مُهدِّد القضاة والحاكم بأمرِ الله الجديد في الحزب، برفقة بعض الوجوه الشابّة، ليكشف عن المحرّك الفعلي للذباب الإلكتروني التابع للحزب، ذلك الذي لم يترك له حليفًا من فيصل كرامي إلى أسامة سعد مرورًا بوئام وهاب. لم تقتصر رسائل الحزب على الداخل فحسب، بل سعى أيضًا إلى إبلاغ الخصم السعودي بأن يدَه الممدودة ما زالت قويّةً وقادرةً على التحكّم بالقرار اللبناني. وأخيرًا، وجّه رسالةً إلى العدوّ الإسرائيلي مفادها أنّه بات جاهزًا للجولة الثانية – وربّما الأخيرة – من الحرب، وأنّ إيقاف المواجهات على لبنان والتركيز على إنهاء حماس في قطاع غزّة منحه الوقت الكافي لإعادة ترتيب صفوفه وتحديد أهدافه المستقبليّة. في المُحصّلة، تتعدّد الرسائل التي أراد الحزب إيصالَها عبر إضاءة صخرة الرَّوشة، لكن النتيجة لم تكن سوى إطفاءٍ لروح الأمل والزخم الذي انطلق مع عهدي الرئيسين جوزف عون ونواف سلام. فالمشهد جاء ليُذكِّر اللبنانيين الذين حلموا بولادة “الجمهوريّة الثالثة” بأنّ الطريق ما زال طويلًا ومليئًا بالألغام والأشواك.