في خِضَمِّ الأزمة الاقتصادية والمالية غير المسبوقة التي تَعصِف بلبنان منذ عام 2019، والتي أَلقَت بظِلالها القاتمة على مختلف القطاعات والمواطنين، بَزَغَت مؤخراً بارقة أمل طال انتظارها، تَمَثَّلَت في إعادة تفعيل برنامج قروض الإسكان هذه الخطوة، التي طال انتظارها خصوصاً من قِبَل فئة الشباب وذوي الدخل المحدود والمتوسط، تأتي بعد توقف دام لسنوات بسبب الانهيار المالي وتداعياته المُدَمِّرة. فما هي التأثيرات المتوقعة لهذه الخطوة على سوق العقارات؟ ومن هي الجهات التي تقف وراء تمويل هذا المشروع الحيوي؟ وما هي الانعكاسات المباشرة على مستقبل الشباب اللبناني؟ استجابة لحاجة مُلِحَّة تَوَقَّفَت قروض الإسكان بشكل شبه كامل عام 2019، مما حَرَمَ آلاف العائلات اللبنانية، وخاصة الشباب، من حلم امتلاك مسكن لائق. وجاء انهيار سعر صرف الليرة اللبنانية ليُفاقِم المأساة، حيث تآكلت قيمة القروض القديمة بشكل دراماتيكي، وتَكَبَّدَت المؤسسة العامة للإسكان خسائر فادحة، فيما تَوَقَّفَت مصادر التمويل بشكل شبه كامل. تُعَدُّ إعادة تفعيل قروض الإسكان في لبنان خطوة استراتيجية ذات أهمية بالغة في ظل الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الخانقة التي تَعصِف بالبلاد. ومن المُتَوَقَّع أن يكون لهذه المبادرة تأثيرات جوهرية على القطاع العقاري، وبشكل خاص على مستويات الأسعار، من خلال إعادة توازن معادلة العرض والطلب في سوق تَحكُمُه توقعات متقلبة. تأثيرات مُرتَقَبة حد التأثيرات المباشرة المُنتَظَرة هو زيادة الطلب على العقارات السكنية، لا سيما تلك التي تتوافق مع شروط القروض الجديدة. وبحسب مصادر مُطَّلِعة، فإن هذه القروض تستهدف بشكل رئيسي ذوي الدخل المحدود والمتوسط، مع تحديد سقف لمساحة الشقة (150 متراً مربعاً كحد أقصى) وسقف لقيمة القرض. حالياً، يُقَدَّر هذا السقف بنحو 40 ألف دولار لذوي الدخل المحدود و50 ألف دولار لذوي الدخل المتوسط، مع مساعٍ حثيثة لرفعه إلى 100 ألف دولار عبر تمويل إضافي مُحتَمَل من دولة قطر، في خطوة قد تُحدِث نقلة نوعية في آفاق البرنامج. هذا التحديد للشروط يعني أن الطلب سيرتفع بشكل ملحوظ على الشقق الصغيرة والمتوسطة الحجم التي تقع ضمن النطاق السعري الذي يمكن تغطيته جزئياً بهذه القروض، مع الأخذ في الاعتبار ضرورة توفير دفعة أولى بنسبة 20% من قِبَل المقترض. تعتمد عملية إعادة تفعيل قروض الإسكان في لبنان بشكل أساسي على تأمين مصادر تمويل خارجية بالعملة الصعبة، نظرًا للظروف المالية الصعبة التي يمر بها القطاع المصرفي المحلي ومؤسسات الدولة. ويمكن تحديد الجهات الرئيسية التي تمول أو تسعى لتمويل هذا المشروع الحيوي: الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي (AFESD) صندوق قطر للتنمية مصرف الإسكان/ وصندوق أبو ظبي للتنمية من المتوقع أن تؤدي هذه القروض إلى زيادة الطلب على الشقق الصغيرة والمتوسطة، مع احتمال ارتفاع أسعارها بشكل نسبي، ولكن دون توقع فقاعة سعرية شاملة في المدى القصير بسبب محدودية قيمة القروض واستمرار التحديات الاقتصادية ارتفاع محتمل هذه الزيادة المُرَكَّزة في الطلب على شريحة معينة من العقارات قد تُؤدي إلى ارتفاع أسعارها بشكل تدريجي، خاصة في المناطق التي يزداد فيها إقبال الشباب والعائلات الساعية لامتلاك مسكنها الأول. المطورون العقاريون والبائعون قد يستجيبون لهذا الطلب المتزايد برفع الأسعار، خصوصاً مع وجود آلية تمويل جديدة تُسَهِّل عملية الشراء لهذه الفئة المستهدفة. مع ذلك، ثمة عوامل عديدة قد تَحُدُّ من الارتفاع الكبير في الأسعار أو تجعله محصوراً في نطاقات جغرافية وسعرية محددة. أولاً، قيمة القروض الحالية (40-50 ألف دولار) قد لا تكون كافية لتغطية نسبة كبيرة من سعر العقار في العديد من المناطق، خاصة مع “دَولَرة” أسعار العقارات بشكل واسع في أعقاب الأزمة المالية. هذا الواقع يعني أن القدرة الشرائية للمستفيدين المحتملين قد تظل محدودة، مما يُخَفِّف من الضغط التصاعدي الكبير على الأسعار بشكل عام. ثانياً، الوضع الاقتصادي العام في لبنان لا يزال هشاً، ومستوى الثقة لدى المستهلكين والمستثمرين قد لا يكون مرتفعاً بما يكفي لدفع السوق نحو فقاعة سعرية جديدة. تدريجيا وليست فوراً ثالثاً، قد يستغرق الأمر وقتاً حتى تظهر التأثيرات الكاملة لعودة القروض، حيث يعتمد ذلك على سرعة معالجة الطلبات وتوفر السيولة لدى الجهات الممولة واستجابة السوق بشكل عام. بالإضافة إلى ذلك، تُرَكِّز الخطة الجديدة على الشفافية في منح القروض عبر منصة إلكترونية متطورة، مما قد يُقَلِّل من المضاربات غير الصحية التي شهدتها فترات سابقة. كما أن وجود خطط مستقبلية واعدة تشمل الإيجار التملكي وتسهيلات للمطورين قد يُؤثِّر إيجاباً على ديناميكيات السوق على المدى الطويل. إيه في أمل في المحصلة، تُمَثِّل عودة قروض الإسكان بارقة أمل حقيقية للشباب اللبناني الذي طالما حلم بامتلاك سقف يأويه في وطن تتصاعد فيه تحديات الحياة الكريمة يوماً بعد يوم. ورغم أن هذه الخطوة لن تحل جميع مشاكل القطاع العقاري أو الأزمة الاقتصادية الشاملة، إلا أنها تُشَكِّل لبنة أساسية في مسار طويل نحو التعافي، وإشارة إيجابية إلى إمكانية عودة الحياة تدريجياً إلى قطاعات حيوية في الاقتصاد اللبناني. يبقى السؤال: هل ستنجح هذه المبادرة في تحقيق أهدافها المرجوة، أم أنها ستصطدم بتحديات الواقع الاقتصادي القاسي؟ الإجابة رهن بالأشهر القادمة، وبقدرة الجهات المعنية على توفير التمويل المستدام وضمان استمرارية البرنامج بعيداً عن تقلبات السياسة ومتاهات الإدارة.
يُعدّ مفهوم “الدولة البوليسية” (Police State) من أكثر المصطلحات إثارة للقلق في قاموس العلوم السياسية وحياة الناس وحقوق الإنسان. فهو يرسم صورة قاتمة لنظام حكم يتحول فيه “جهاز الأمن”، الذي يُفترض أن يكون أداة لحماية المواطنين وفرض القانون، إلى أداة قمع وسيطرة شاملة بيد السلطة
صيدا، كما بيروت وطرابلس، أو غيرها من مدن لبنان الرئيسة، تتغير بشكل متسارع ودراماتيكي خلال السنوات الماضية. وجاءت الحرب الإسرائيلية الأخيرة لتؤكد ظاهرة تزايد استيطان “الغُرباء” في عاصمة الجنوب تحديدًا، لتؤشر إلى تغيّر ديموغرافي خطير يلوح في الأفق القريب على غير ما اعتادت عليه الخارطة السكانية في لبنان خلال العقود الماضية، حيث كانت الهجرة من القرى إلى المدن سمة أساسية سابقًا، يبدو أن مشهدًا معاكسًا بدأ يتشكل تدريجيًا منذ مدة. أهل المدن، لا سيما من الشباب والشابات والطبقات الوسطى، يتركونها قاصدين الأطراف وحتى القرى النائية، ومناطق ريفية مختارة بحثًا عن نمط حياة جديد، أقل كلفة وتكلفة. لا يقتصر هذا التحول على خيار فردي، ولم يعد يقتصر على مجرد نزوة شخصية أو قرار مؤقت، بل يعكس تحولًا أوسع في المزاج الاجتماعي العام في لبنان. إنه نذير تحول أعمق في نظرة اللبنانيين إلى الحياة، إلى العمل، وإلى معنى الانتماء. في بلد مأزوم ومفتوح على تغيّرات كُبرى، يبدو أن الريف يفتح ذراعيه لأبنائه، لا كملاذ هارب، بل كخيار وبداية جديدة. ويبدو أن القرى والبلدات اليوم لم تعد محصورة بأهلها. الاقتصاد أولًا تتنوع دوافع هذا التحول، لكن الأسباب الاقتصادية تعد أبرزها، فارتفاع تكاليف المعيشة في المدن، لا سيما في بيروت وصيدا تحديدًا، أصبح عائقًا أمام كثيرين لتحقيق استقرارهم المادي والاجتماعي. فالمدن الكبرى تشهد ارتفاعًا متواصلًا في أسعار الإيجارات في المساكن والمحلات، حيث أصبحت معظم الشقق السكنية ضمن إمكانيات محدودة جدًّا. بالإضافة إلى ذلك، ارتفعت أسعار المواد الغذائية والخدمات بشكل غير متناسب مع الدخل، مما زاد العبء المالي على السكان. بعد الأزمات الاقتصادية المتكررة التي شهدها البلد منذ عام 2019، تقلصت فرص العمل في القطاع الخاص بشكل واضح. ومع محدودية الوظائف المتاحة وارتفاع نسب البطالة، أصبح من الصعب على الشباب تأمين دخل ثابت يكفي لتغطية تكاليف الحياة في المدينة. كذلك سمح التطور التكنولوجي وانتشار ثقافة العمل عن بُعد للشباب بالعمل من أي مكان، مما جعل العيش في الريف خيارًا اقتصاديًا منطقيًا يوفر تكاليف كبيرة على المدى الطويل. أرقام مقلقة تستوجب تحركاً سريعاً بحسب إحصاءات دقيقة, غير رسمية لا تتعدى نسبة المتملكين من أهل المدينة في المشاريع العقارية الجديدة أكثر من %38 أكثر من 50% من المتملكين الجدد في صيدا هم من غير أهلها ومن مشرب محدد أكثر من 45% من أهل صيدا لا يستطيعون تأمين بدلات الإيجار الحالية في المدينة، لذا يتوجهون إلى الأطراف أدى العدوان الإسرائيلي الأخير وزيادة الطلب على الشقق السكنية في صيدا إلى ارتفاع المعدل الوسطي لأجرة الشقة السكنية بأكثر من 35% تشكل شريحة الشباب الصيداوي الذين يعملون في الخارج، لا سيما في دول الخليج، النسبة الأعلى التي تشتري الشقق السكنية والمحلات اليوم شهادات منذ سنتين، قرر سامر ز. (29 عامًا)، مهندس برمجيات كان يعمل سابقًا في بيروت، الانتقال إلى إحدى بلدات شرق صيدا، والسبب الأساسي كلفة الإيجار وتوافر التيار الكهربائي (بعض قرى تلك المنطقة كانت تتغذى من معمل توليد الطاقة الكهرومائية بشكل خاص). يضيف: “كنت أعيش في صيدا وأدفع مبلغًا كبيرًا شهريًا للإيجار، وفاتورة المولد الخاص أحيانًا تصل إلى نصف راتبي. بعد الانهيار الاقتصادي، بدأت أفكر بجدية في الانتقال إلى الريف حيث تكاليف المعيشة أقل بكثير. العمل عن بُعد في طبيعة عملي أتاح لي هذه الفرصة. الآن، أعيش حياة أكثر استقرارًا، وأستطيع ادخار جزءًا من دخلي، وهذا لم يكن ممكنًا في المدينة.” أحمد ن. (31 عامًا)، يعمل في مجال التسويق الإلكتروني في بيروت، يشرح: “كنت أدفع نصف راتبي إيجارًا لشقة كنت أسكنها، وأقضي نصف يومي في زحمة السير الخانقة والضجيج. حين قررت الانتقال إلى بلدة في منطقة جبل لبنان، شعرت أنني أتنفس لأول مرة منذ سنوات. حتى زوجتي لم تمانع هذا الأمر مع أنها كانت متخوّفة في البداية، لكننا الآن نعيش بشكل أريح ولا نزور بيروت إلا يومًا أو يومين في الأسبوع للضرورة.” يعمل أحمد الآن عن بُعد من منزله، وقد انخرط في حياة الريف حتى أنه صار يشارك في مبادرات زراعية محلية حيث يعيش. أما ميرا س. (27 عامًا)، وهي خريجة علوم اجتماعية من صيدا، فقد تركت عملها الإداري في المدينة لتنتقل إلى بلدة بكاسين شرق صيدا، وتقول: “لم أعد أتحمل فوضى المدن، وجدت في القرى مساحة نفسية أوسع، وفرصة لعيش أبطأ وأعمق، خصوصًا بعد أن أصبحت معظم الوظائف تتيح العمل من بُعد.” تغيّرات عميقة تُشكّل ظاهرة الهجرة العكسية من المدن إلى الريف في لبنان مؤشرًا على تغيّرات عميقة في النسيج الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، ويترتب عليها العديد من التحديات والفرص التي ستؤثر على مستقبل البلد ككل. مع تنامي هذه الظاهرة، من المتوقع أن تفقد المدن الكبرى، كبيروت وصيدا وطرابلس، بعضًا من مكانتها التقليدية كمراكز حصرية للفرص الاقتصادية والاجتماعية. إذ قد تنخفض كثافة السكان فيها، ما قد يخفف من بعض الضغوط على البنية التحتية والخدمات التي كانت تعاني منها أصلاً. كما سيؤدي تدفق المزيد من السكان إلى الريف لزيادة الطلب على الخدمات الأساسية مثل التعليم، الصحة، المياه، الكهرباء، والإنترنت عالي السرعة. هذا الأمر سيشكّل عنصر ضغط إضافي عليها، ويتطلب من الدولة والبلديات إعداد خطط تنموية مستدامة تستثمر في البنية التحتية الريفية وتوفر فرص عمل حقيقية، ما يساعد على استدامة هذه الهجرة وعدم تحولها إلى نزوح مؤقت. ديموغرافيا وسياسة تعيد الزيادة السكانية في القرى تشكيل الخارطة الديموغرافية في لبنان، مما يؤثر على توزيع الأصوات الانتخابية ومستوى التأثير السياسي للريف. وقد يزداد دور المجالس البلدية والمجتمعات المحلية في صنع القرار، مع ظهور قيادات شبابية جديدة قادرة على تمثيل مصالح السكان المتجددين. كما يمكن أن يؤدي هذا إلى تعزيز المشاركة المجتمعية ودعم مبادرات الحكم المحلي والتشاركي، وسيولد التفاعل بين القادمين من المدن وأهالي القرى مزيجًا ثقافيًا جديدًا يجمع بين الأصالة والحداثة. ردّة فعل تعتبر الدكتورة منى فاضل، خبيرة في علم الاجتماع، أن هذه الظاهرة تعكس تحوّلات عميقة في المجتمع اللبناني: “فهي رد فعل طبيعي للأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي يعيشها لبنان، إذ تعيد تعريف معنى الانتماء والأمان الاجتماعي، وقد تقود هذه الظاهرة إلى إعادة التوازن الديموغرافي والتنمية المحلية بشكل أكثر استدامة.” يحمل مستقبل الهجرة من المدن إلى الريف في طياته فرصًا وتحديات لإعادة التوازن الاجتماعي والاقتصادي في لبنان، لكنه يتطلب تخطيطًا دقيقًا واستجابة حكومية وشعبية جدية وفعالة.