امتد عمر الإمبراطورية الرومانية لقرون طويلة، حيث بسطت هيمنتها على مساحات شاسعة شملت ثلاث قارات، وحولت البحر الأبيض المتوسط إلى بحيرة رومانية خالصة، حتى أصبحت جميع الطرق تؤدي إلى روما، في دلالة على مركزيتها المطلقة. فرضت روما سلطتها بقوة عسكرية حاسمة، فلم تكن هناك قوة في ذلك العصر قادرة على تحدي هيمنتها أو الوقوف في وجه نفوذها. وتُعد قرطاجة، المدينة التي كانت تنافسها على السيادة البحرية، مثالاً واضحاً على ذلك. فبعد انتهاء الحروب البونيقية، قامت القوات الرومانية بتدمير المدينة تدميراً شاملاً، حيث قُتل رجالها، واستُعبدت نساؤها وأطفالها، وأُحرقت مبانيها ومعابدها حتى سويت بالأرض. وتذكر بعض الروايات التاريخية أن الرومان قاموا بنثر الملح على أراضيها لمنع الزراعة فيها، في عمل يعكس رغبتهم في محو أي أثر لعدوهم اللدود. أما الشعوب التي خضعت لسيطرتها، فقد تحول الكثير من أفرادها إلى عبيد يتم بيعهم وشراؤهم في الأسواق. وعندما اندلعت ثورة العبيد الشهيرة بقيادة سبارتاكوس، التي طالبت بالحرية والكرامة الإنسانية، كان رد روما قاسياً، حيث تم صلب ستة آلاف من الثوار على طول الطريق الممتد بين مدينتي كابوا وروما، في مشهد يعبر عن مدى قسوة الدولة في التعامل مع من يهدد نظامها. لم تقتصر ممارسات القوة على الحروب والاستعباد، بل امتدت لتشمل أشكالاً من الترفيه العام التي ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بحضارتها، وأبرزها مدرج الكولوسيوم. لم يكن هذا الصرح العظيم مسرحاً للفن أو الفكر، بل كان حلبة للمصارعة والقتال حتى الموت، حيث كان يُلقى بالآلاف من أسرى الحرب والعبيد والمجرمين لمواجهة وحوش ضارية، وسط هتافات الجماهير. لقد كانت هذه المشاهد الدموية جزءاً من الحياة اليومية في روما، ووسيلة لإرضاء العامة وتوجيه انتباههم. وكان مصير كل من حاول مقاومة الإمبراطورية هو الهزيمة والإذلال. فزنوبيا، ملكة تدمر التي تحدت روما، تم اقتيادها كأسيرة في شوارع العاصمة، وهنيبعل، القائد القرطاجي العظيم، أمضى نهاية حياته مطارداً ومنفياً. لقد كانت رسالة روما واضحة: كل من يسعى إلى الاستقلال سيواجه القوة الساحقة للإمبراطورية. كما قامت روما باستغلال موارد الشعوب التي احتلتها، ومصر خير مثال على ذلك. فبعد سقوطها في قبضة الرومان، تحولت إلى “سلة غلال” للإمبراطورية، حيث كان أهلها يزرعون الأرض لتأمين القمح لروما، بينما كانوا يعانون هم أنفسهم من وطأة الضرائب الباهظة التي كانت تُجبى بالقوة. ومن كان يعجز عن الدفع، كان مصيره السجن أو الاستعباد. في خضم هذا الواقع، ظهرت قوة جديدة من شبه الجزيرة العربية مع بزوغ فجر الإسلام. حمل رجال هذا الدين الجديد نظاماً قانونياً وأخلاقياً مختلفاً، وسعوا إلى إرساء مبادئ العدل والمساواة. وفي سلسلة من المعارك الحاسمة، تمكنت الدولة الإسلامية الناشئة من تحقيق انتصارات كبيرة على الإمبراطورية الرومانية الشرقية (البيزنطية)، مما أدى إلى نهاية سيطرتها على أجزاء واسعة من العالم القديم، وبداية عصر جديد أعاد تشكيل خريطة القوى العالمية.
من الفردوس المالي إلى الهامش المنسي لم يكن لقبُ “سويسرا الشرق” مجاملةً شاعريّةً وحسب، بل وصفًا دقيقًا لحقبةٍ عاشها لبنان في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، حين كان يختصرُ الشرقَ الأوسطَ في نسخةٍ مُصغَّرةٍ من أوروبا الليبراليّة.بلدٌ صغيرُ المساحة، كبيرُ الحضور، جمع بين السريّة المصرفيّة والحرّيّة الصحافيّة والتنوّع الثقافيِّ المُترف. كانت بيروت آنذاك أشبهَ بـ“مقهى الشرق”، تجتمع فيها رؤوسُ الأموال من الخليج، والأفكارُ من القاهرة، والمثقفون من دمشق، والسيّاح من باريس.لكنّ هذا المشهد الذي صوّر لبنان كمرفأٍ مفتوحٍ على العالم، بدأ يتداعى حين قرّر الشرقُ أن يُدخِل لبنان في صراعاته، وقرّر لبنان أن يكون مسرحًا لها. بيروت تُنافِسُ جنيف في عام 1956، أقرّ البرلمان اللبنانيُّ قانونَ السريّة المصرفيّة الذي جعل بيروت ملاذًا آمنًا للأموال العربيّة، في زمنٍ كانت فيه الأنظمة القوميّة تُؤمِّم وتُصادِر. ومع انفتاحها الاقتصادي وحيادها النسبي، أصبحت بيروت مركزًا ماليًا وإعلاميًا، ومقرًّا للبعثات الدبلوماسيّة والشركات الدوليّة. الطبيعةُ الجبليّةُ الخلّابة، الحريّاتُ الاجتماعيّة، وتعايشُ الطوائف، جعلت منها سويسرا مُصغّرة على ضفاف المتوسّط.لكن ما لم يُدرِكه اللبنانيّون آنذاك، أنّ سويسرا لم تُبنَ على الجمال ولا على التنوّع، بل على نظامٍ دقيقٍ من الحيادِ والصرامةِ والانضباط. وهي صفاتٌ لم تعرف طريقها إلى لبنان إلّا في المناسبات الخطابيّة. حين نقول اليوم إنّ “لبنان كِذبةُ سويسرا الشرق”، فالمقصود ليس التاريخ بل العِناد في تكرار الوهم. الكِذبة ليست في الماضي، بل في رفض الاعتراف بأنّ الماضي انتهى من المرفأ إلى المتاهة في سبعينات القرن الماضي، كان مرفأُ بيروت بوّابةَ الشرق الأوسط. منه تمرّ التجارة بين أوروبا والعالم العربي، وعبر مطارها الدولي كانت المنطقة تتواصل مع الغرب.ثم جاءت الحربُ الأهليّة عام 1975 لتُغلِق هذه البوّابة، وتحوّل لبنان من ممرٍّ اقتصاديٍّ إلى ميدانِ صراعٍ إقليميٍّ ودوليّ. منذ ذلك التاريخ، فقد لبنان وظيفتَه الجغرافيّة والاقتصاديّة. تحوّل من مركزٍ ماليٍّ إلى ساحةِ نفوذ. صارت أرضُه تُستَخدَم لتصفيةِ الحسابات لا لإبرامها، ومؤسساته رهينةً لمعادلاتٍ تتجاوز حدوده. اتّخذه الفلسطينيّون ساحةَ مواجهة، وجعلهُ السوريّون منطقةَ نفوذ، وأرسى الإيرانيّون فيه مشروعهم العقائدي، أمّا الخليجيّون فغادروه على وقع الدمار والفساد.وبذلك، تراجعت فكرةُ “لبنان المرفأ” لتحلّ محلّها “لبنان المتاهة”. دولةٌ بلا بوصلة في عالمٍ لا يَعترف إلّا بالقوّة والاقتصاد والمعرفة، خسر لبنان موقعه الثلاثي: لا قوّة يمتلكها، بعد تَفكُّك مؤسّسات الجيش والدولة بين المحاور. ولا اقتصادًا مُنتِجًا، بعد انهيار القطاع المصرفي الذي كان يومًا فخرَ الشرق. ولا مشروعًا فكريًّا أو ثقافيًّا جامعًا، بعدما تحوّلت نخبته إلى طوائف فكريّة وسياسيّة متناحرة. الدورُ الإقليميُّ يحتاج إلى قرارٍ سياديٍّ موحّد، وإلى اقتصادٍ مستقلٍّ قادرٍ على التبادل، وإلى رؤيةٍ سياسيّة تُقنِعُ الخارج والداخل معًا. ولبنان اليوم لا يملك أيًّا منها. بنت دولُ المنطقة أدوارَها على ركائز واضحة: تركيا على الصناعة، والإمارات العربيّة المتّحدة على المال، وقطر على الإعلام والغاز، وإيران على قوّة النفوذ، بينما بَنى لبنان مجدَه على الانطباع؛ على الصورةِ الجميلة لا على البنيةِ الصُلبة. تكرارُ الوهم حين نقول اليوم إنّ “لبنان كِذبةُ سويسرا الشرق”، فالمقصود ليس التاريخ بل العِناد في تكرار الوهم.الكِذبة ليست في الماضي، بل في رفض الاعتراف بأنّ الماضي انتهى.لبنان كان يومًا سويسرا الشرق حين كان الشرق بحاجةٍ إلى نموذجٍ مدنيٍّ مُنفتح، لكنه اليوم يحتاج إلى نموذجٍ ناجٍ من الانهيار.البلدُ الذي صدّر الفكرَ والفنَّ والإعلامَ صار يستورد المساعدات والوساطات.والدولةُ التي علّمت جيرانها المصارفَ، لا تمتلك اليوم نظامًا مصرفيًّا.والمجتمعُ الذي قدّم نفسَهُ جسرًا بين الشرق والغرب، أصبح هوّةً في فراغٍ بينهما. مختبرُ الشرق لعلّه آن الأوان أن يتحرّر لبنان من إرثه الرومانسيّ وأن يبحث عن هويّةٍ واقعيّةٍ جديدة.ليس كنسخةٍ شرقيّةٍ من أوروبا، بل كـمختبرٍ عربيٍّ للتجربة الإنسانيّة والفكريّة.فهو البلدُ الذي تُختبَر فيه الديمقراطيّة كما تُختبر الطائفيّة،تُولَدُ فيه الأفكارُ كما تنهار،ويتقاطع فيه الشرقُ والغرب في لحظةٍ واحدة.الدورُ الجديد لا يُبنى على الذهب ولا على السريّة المصرفيّة، بل على الثقافة، والتعليم، والإبداع.فلبنان، حتى في انهياره، ما زال يُنتِجُ فنًّا وأدبًا ومبادراتٍ إنسانيّةً تفوق حجمَه الجغرافيّ والسياسيّ.إنه بلدٌ ينهار واقفًا، لكن ما زال قادرًا على إنتاجِ المعنى في زمنِ اللامعنى. قد يكون “سويسرا الشرق” لقبًا جميلًا، لكنه اليوم يشبه بطاقةَ تعريفٍ قديمة فقدت صلاحيّتها. ومع ذلك، يبقى في لبنان ما يتجاوز الكذبة: روحٌ لا تنكسر بسهولة، ومجتمعٌ يرفضُ الاستسلام مهما كان الخراب. ربما لم يعُد لبنان مرفأ الشرق، لكنه ما زال مرآتَه؛ مرآةَ حضارةٍ تبحث عن ذاتها في زمنِ العواصف.
عَلِمَتْ صحيفةُ “البوست” من مصادرَ سياسيّةٍ مُطَّلِعة، أنّ حزبَ الله تقدَّم، منذ فترة، بعدّة طَلَباتٍ بشكلٍ مباشرٍ وغير مباشر، عبر شخصيّاتٍ صديقة، لطلبِ تحديدِ لقاءٍ بين وفدٍ من الحزب والنائب أُسامة سعد. إلّا أنّ الجواب كان يأتي على الشكلِ الآتي: “الحكيم مَشغول هالفترة”؛ وذلك بعدَ احتدامِ الخلافِ بين الطرفين، عقبَ انسحابِ وفدٍ من الحزب من فعاليّةٍ سياسيّةٍ في صيدا، تناولَ فيها سعدٌ موضوعَ انتقالِ المقاومة “مِن حَوْلِ المقاومةِ إلى فِعلٍ مَذهبيٍّ ضيّق”. وبحسبِ مُتابعين، تأتي هذه المحاولاتُ من قِبَلِ الحزب لإعادةِ الوَصلِ مع نائبِ صيدا في توقيتٍ دقيق، على أعتابِ ترقّبِ تصعيدٍ في العدوانِ الإسرائيلي، من المتوقَّعِ أن يُنتِجَ حالةَ نُزوحٍ “جنوبيّ” باتجاهِ عاصمةِ الجنوب. كما لا يمكنُ قراءةُ الأمرِ إلّا باعتباره مؤشِّرًا دالًّا على مَعالِمِ التحالفاتِ التي منَ المُحتَمَل أن “تِركَب” على خارطةِ المتنافسين في الانتخاباتِ النيابية المقبلة. فهل يُعيدُ سعدٌ تبييضَ صفحةِ الحزب في المدينة بعد كلّ ما جرى؟ في السياسةِ لا شيء ثابت… ولا حتّى مُتحرّك….هي لعبةُ المصالح على حسابِ “القطيع”.