بعد مرور شهر على الانتخابات البلدية الأخيرة، تمّ انتخاب رئيس بلدية صيدا، مصطفى حجازي، رئيسًا لاتحاد بلديات صيدا–الزهراني، ورئيس بلدية مغدوشة، رئيف يونان، نائبًا له، وذلك في اجتماعٍ عُقد اليوم في سراي صيدا الحكومي بإشراف محافظ الجنوب منصور ضو. وقد نشرت بعض وسائل الإعلام خبر نتائج الانتخاب، مشيرةً إلى أنّ ما جرى من “توافق” خلال الانتخابات كان ثمرةً للجهد الكبير الذي بذله رجل الأعمال مرعي أبو مرعي، الذي عمل على تذليل العقبات التي وقفت في وجه هذا “التوافق” المهم، والذي أُعلن عنه قبل يومين في دارة أبو مرعي، بحضور رئيسة مؤسسة الحريري للتنمية المستدامة، بهيّة الحريري، ومنسّق حزب القوات اللبنانية في صيدا–الزهراني، عماد روكز، الذي بادر إلى سحب مرشّح “القوات” لمنصب نائب رئيس الاتحاد. قد يظنّ المرء أنّ “التوافق” حصل بين رؤساء البلديات بعد تباينٍ في أساليب مراقبة جمع النفايات ونقلها من بلدات الاتحاد. وقد يظنّ آخر أنّ “التوافق” جاء بعد الاتفاق على آليّة معالجة مشكلة معمل معالجة النفايات المتوقّف عن العمل منذ أعوام، بينما لا يزال اتحاد البلديات يوقّع فواتيره عن “معالجة” نفايات لا تُعالَج أصلاً، أي إنّ الاتحاد يُغطّي سياسة نهب المال العام. وقد يظنّ البعض أنّ “التوافق” توصل إليه المجتمعون لتشغيل محطة تجميع المياه المبتذلة كبديلٍ عن رميها في البحر، الذي بات مياهه ملوّثة، أو أنّهم توافقوا على خطةٍ لتأمين المياه لبلدات الاتحاد التي تشهد انقطاعًا منذ نحو شهر. لكن المؤكّد أنّهم توافقوا على الحصص والمواقع السياسية: فرئيس الاتحاد محسوبٌ على تيّار “المستقبل”، ونائبه محسوبٌ على الرئيس نبيه برّي، أما “القوات اللبنانية” فقد اكتفت بلعب دورٍ سيتزايد يومًا بعد يوم. والأكّيد أنّ الغائب عن كل ذلك هو مصلحة المواطنين المقيمين في مدينة صيدا وبلدات الاتحاد. وعندما يُذكَر “الاتحاد”، فإنّ الحديث يدور عن ستّ عشرة بلدية، أكبرها ذات أكثرية سنيّة بحسب السجلات الرسمية، وثلاث بلديات ذات أكثرية شيعية، واثنتين وعشرين بلدية ذات أكثرية مسيحية. لكن ما يغيب عن البال هو أنّهم جميعًا لبنانيون، لهم نفس الحقوق التي ينتهكها أصحاب “التوافق” المعلَن. فـ”التوافق” الحقيقي يكون على خطّة عملٍ تنموية، لا على محاصصة بين قوى مسؤولة عمّا آلت إليه أوضاع صيدا وبلدات الاتحاد.
باتت “سيروب”، التي يرقد فيها أمواتُ عائلات صيدا، إحدى المناطق الأكثر اكتظاظًا بالحياة وصراعاتها. مظهرُها يعكسُ صورةً مُصغّرةً عن تنوّع الوطن، أي عن لعنة الوطن التي لم ينجح في تحويلها إلى مكسب: أهل لبنان وفلسطين، دين الإسلام والمسيحية، طوائف السنّة والشيعة والموارنة، أحزاب “التنظيم” و”المستقبل” و”حزب الله”، زواريب “منير المقدح” وأقاربه
في سُطورِ التاريخِ العسكريّ، قَلّما نجدُ أُمّةً حافظت على حُضورِها القِتاليّ والسياسيّ كما فَعَلَ الفُرس. منذُ قرابةِ 2500 عام، خاضت فارسُ حُروبًا ضدّ أعظمِ القُوى في زمانِها: من الإغريقِ إلى الرومان، من الخُلفاءِ إلى التتار، ومن الإمبراطورياتِ العثمانيّة إلى حُروبِ الخليجِ الحديثة. تغيّرتِ الحُدود، وتبدّلتِ الأنظمة، لكنّ “عقلَ الحربِ” الفارسيّ ظلَّ فاعلًا ومُتطوّرًا، من سيفِ داريوس الكبير إلى صواريخِ ومُسيّراتِ قاسم سُليماني الأخمينيّون وسِحرُ القوّةِ المُنظّمة بدأت فارسُ التاريخيّةُ مع الإمبراطوريّةِ الأخمينيّة (٥٥٠–٣٣٠ ق.م)، التي أسّسها كورش الكبير، وبلغت ذُروتها مع داريوس الأوّل. امتدّتِ الدولةُ من نهرِ السِّند شرقًا إلى حُدودِ أوروبا غربًا. أبرزُ المعارك: ماراثون (٤٩٠ ق.م): هزيمةُ الفرس على يدِ الإغريق كانت صدمةً استراتيجيّة، رغم تفوّقهم العدديّ. سلاميس (٤٨٠ ق.م): المعركةُ البحريّة التي غيّرت مجرى الحرب. فشلتِ البحريّةُ الفارسيّةُ بسبب ضعفِ خبرتِها مقارنةً بالإغريق. بلاتيا (٤٧٩ ق.م): نهايةُ طُموحِ الفُرس في احتلالِ اليونان. التميُّز: التنظيمُ الإداريُّ المُذهل للجُيوش. الطُّرقُ المُعبّدة لنقلِ الجُنود (“الطريقُ الملكيّ”). أوّلُ تجربةٍ إمبراطوريّةٍ مركزيّةٍ مُتعدّدةِ القوميّات. الساسانيّون والرّومان: صراعُ القُوّتَين العُظميَين مع سقوطِ الإسكندر، عادَ الفُرسُ للظُهورِ بقُوّةٍ مع الدولةِ الساسانيّة (٢٢٤–٦٥١ م). كانت هذه المرحلةُ ذروةَ التنافُسِ مع الإمبراطوريّةِ الرومانيّة. أبرزُ المحطّات: معركةُ إديسا (٢٦٠ م): أَسْرُ الإمبراطور فاليريان كان صفعةً مدوّيةً لروما. الحربُ الساسانيّةُ البيزنطيّة (٦٠٢–٦٢٨): شملت احتلالَ القدس ودمشق ومِصر لفترةٍ محدودة، قبل أن يُجبَرَ كِسرى الثاني على التراجعِ بفعلِ حربِ استنزافٍ بيزنطيّة. السِّلاحُ السِّرّي: استخدامُ الفِيَلةِ في المعارك. تطويرُ سلاحِ الفرسانِ الثقيل (الفرسان المُدرّعين – الكاتافراكت). الزّلزالُ العربيّ: القادسيّة ونهايةُ إمبراطوريّة في القرنِ السابع، قَلَبَ العربُ الطّاولة. اصطدمَ الساسانيّون بالجيشِ الإسلاميّ في معركةِ القادسيّة (٦٣٦ م)، التي انتهت بانهيارِ الدولةِ وفتحِ فارس. رغم الهزيمة، لم تُقبر الثقافةُ العسكريّةُ الفارسيّة، بل أُعيدَ تدويرُها داخلَ الدولةِ الإسلاميّةِ الناشئة، واستُفيدَ من تكتيكاتِهم في التنظيمِ الإداريّ والعسكريّ، ومنها فكرةُ “الدواوين” و”الفرسانِ المُقاتلين”. الفُرسُ والمغول: الصدمةُ ثم التماهِي عندما اجتاحَ المغولُ العالم، لم تَنجُ فارس. دُمِّرت مدنٌ مثل نيسابور وهمَدان وبغداد، وقُتل الملايين. لكنّ الفُرس سرعانَ ما عادوا، فاحتضنوا حُكّامَ الإيلخانيّين وجعلوا من تبريزَ مركزًا علميًّا وثقافيًّا. في هذه المرحلة، ظهر سلاحٌ جديد: “المرونةُ السياسيّة والثقافيّة”، فصارت القُوّةُ الناعمةُ أداةَ بقاء. الصفويّون والعثمانيّون: الدِّينُ كسلاح في القرنِ السادسِ عشر، ظهرت الدولةُ الصفويّة (١٥٠١–١٧٣٦)، وأَسّست المذهبَ الشيعيّ الاثني عشريّ مذهبًا رسميًّا. أبرزُ المعارك: جالديران (١٥١٤): هزيمةُ إسماعيل الصفويّ أمام العثمانيّين بسببِ تفوّقِهم في السِّلاحِ الناريّ. معاركُ مُتكرّرة على العراقِ والقوقاز: سباقُ نُفوذٍ مذهبيٍّ واستراتيجيٍّ بين شيعةِ فارس وسُنّةِ العثمانيّين. الميزة: تحويلُ الدِّين إلى أداةِ تعبئةٍ وتجنيدٍ عبرَ فِرَق “القَزلباش”. ظُهورُ مفهوم “ولايةِ الإمامِ المُجاهد”، الذي ستُبعثُ روحُه لاحقًا في نظامِ “ولايةِ الفقيه”. إيران القاجاريّة والبهلويّة: عصرُ الانحدار في الفترةِ ما بين القرنينِ ١٨ و٢٠، عانت إيران من التدخّلِ الأجنبيّ، فخَسرت أراضيَ شاسعةً للروسِ والبريطانيّين، أبرزُها في معاهدتَي تركمانشاي وجُولستان. انهارَ الجيشُ القاجاريّ، وأُعيد تنظيمُه جزئيًّا على يدِ رضا شاه بهلوي في ثلاثينيّاتِ القرن العشرين. رغمَ ذلك، ظلّت إيران بعيدةً عن الجبهاتِ الكبرى في الحربَينِ العالميّتَين، واقتصرَ دَورُها على كونِها ممرًّا استراتيجيًّا. الحربُ العراقيّة الإيرانيّة: مدرسةُ الدّمِ والموت بعد الثورةِ الإسلاميّة عام ١٩٧٩، دخلت إيران أطولَ حروبِ القرن مع العراق (١٩٨٠–١٩٨٨). مليونُ قتيلٍ وجريح. حربُ خنادقَ ومشاةٍ ومُسيّراتٍ بدائيّة. استَخدمت إيران البُعدَ الدِّينيّ لتجنيدِ المُتطوّعين عبر “بَسيج”. وُلدت أسطورةُ “الشهادة” والانتحارِ ضدَّ الدبّاباتِ والغازاتِ الكيماويّة. هذه الحربُ غيّرت العقيدةَ العسكريّة الإيرانيّة: من الجيوشِ النظاميّة إلى المرونةِ الشعبيّة، والاعتمادِ على الحربِ الطويلة والاستنزاف. إيران الحديثة: حُروبُ الوكالةِ في أربعِ عواصم بعد عام ٢٠٠٣، وعبرَ الحرسِ الثوريّ وفيلقِ القدس، نقلت إيران ساحةَ المعركة من داخلِ حُدودِها إلى العالمِ العربيّ. أسلحتُها: حزبُ الله في لبنان. الحشدُ الشعبيّ في العراق. الحوثيّون في اليمن. التحالفُ مع النظامِ السوريّ. تسليحُ فصائلَ فلسطينيّةٍ كـ”حماس” و”الجهاد الإسلاميّ”. الميزةُ الحديثة: حربٌ سيبرانيّة: مثل الهجماتِ على البُنى التحتيّة الإسرائيليّة والسعوديّة. مُسيّراتٌ دقيقة: استُخدمت في العراق والسعودية وسوريا و”أرعبت” إسرائيل. الحربُ النفسيّة والمعلوماتيّة: تصويرُ سليماني كـ”فاتحِ الشرقِ الجديد”، حتى بعد اغتياله. اليوم، يُخوضُ الصِّراعُ ليس مع روما أو أثينا، بل مع واشنطن وتل أبيب عقلُ فارسَ لم يَمُت من الإمبراطوريّةِ الأخمينيّة إلى الجمهوريّةِ الإسلاميّة، يتكرّر النمطُ ذاتُه: حربٌ طويلةُ النَّفَس، مرنة، عقائديّة، لا تَركُن إلى التكنولوجيا فحسب، بل إلى الإنسانِ العقائديّ. اليوم، يُخوضُ الصِّراعُ ليس مع روما أو أثينا، بل مع واشنطن وتل أبيب والرياض. لكن كما في سلاميس والقادسيّة وجالديران، تبقى النتيجةُ مرهونةً ليس بعددِ الصواريخ فقط، بل بمدى قُدرةِ فارسَ على التكيّف… كما فَعَلَت طوالَ ألفَين وخَمسِمئةِ عام.