محاولةُ “تهريبةٍ” عقاريّةٍ مَشبوهةٍ، سعى بعضُ أعضاءِ المجلسِ البلديِّ في صيدا إلى تمريرِها منذ أيّام، لتعودَ بالفائدةِ المباشرةِ على أحدِ أثرياءِ المدينة، لكنّها لم تَقطَع. هي المحاولةُ الثانيةُ في أقلَّ من شهرٍ، حيثُ رُصِدت مساعٍ مُواربةٌ من قِبَل أحدِ أعضاءِ المجلس، بالتنسيقِ والتناغمِ الواضحِ مع “الرّيس”، لإحداثِ تغييرٍ في الواقعِ الحالي لعددٍ من العقاراتِ في المدينة، وذلك لتحريرِها ورفعِ تصنيفِها بغيةَ زيادةِ قيمتِها الماديّة والاستفادةِ منها. وبحسبِ مصادرٍ مُتابِعة، طَرَح أحدُ الأعضاءِ، ممّن يملكون باعًا طويلًا في الاشتغالِ بالشأنِ العقاري، على طاولةِ المجلس، موضوعَ إزالةِ الإشارةِ عن أحدِ العقاراتِ التي تعودُ ملكيّتُها لأحدِ أغنى أثرياءِ المدينة، في محاولةٍ لتحريرِ العقارِ الواقعِ في منطقةِ الوسطاني، واستفادةِ صاحبِه منه. اللافتُ في الموضوع، بحسبِ المتابعين، أنّ هذا الطرحَ لم يَلقَ قبولًا لدى أعضاءِ المجلس، وجرى رفضُه لأنّه يعودُ بالفائدةِ الفرديّةِ على شخصٍ بعينه، دون استفادةِ غيرِه من أصحابِ العقاراتِ المماثلة. والأكثرُ لَفتًا أنّ هذا الطرحَ جاء من أحدِ الأعضاءِ الذي بات تَقَرُّبُه من هذا “الثريّ”، بالتنسيقِ مع الرئيس، ملاحظًا بقوّةٍ خلال الفترةِ الأخيرة؛ فقد سُجِّلت زيارتان قامَ بهما هذا العضوُ مع الرئيسِ إلى منزلِ هذا الثريّ في الأيّامِ الأخيرة، ما اعتبرَه البعضُ وكأنّه إعادةُ تموضعٍ، حتّى في السياسةِ، على صعيدِ المدينةِ المحلّي.
في الوقتِ الذي يَعِجُّ فيهِ أُفُقُ العاصِمَةِ اللبنانيَّةِ بيروتَ وصيدا، عاصِمَةِ الجنوبِ، بِأَزِيزِ المُسَيَّرَاتِ الإسرائيليةِ الذي لا يَنْقَطِعُ، يَتَصاعَدُ سُؤَالٌ مُزْدَوِجٌ في الأوساطِ الشَّعْبِيَّةِ والعِلْمِيَّةِ على حَدٍّ سَواءٍ: هل تُرَاقَبُ أَجْهِزَتُنا الذَّكِيَّةُ حَقًّا من الأعلى؟ ومَا الذي يُمكِنُ لتِلْكَ الطَّائِرَاتِ أن «تَلْتَقِطَهُ» حَتّى وإنْ لَم نَكُنْ نَحنُ الهَدَفَ المُبَاشِرَ؟ تَسْتَعْرِضُ هذهِ المَقالَةُ التَّحْلِيلِيَّةُ القُدُرَاتِ التِّقَنِيَّةَ للطِّرازَيْنِ الإسرائيليَّيْنِ Elbit Hermes 900 وHermes 450، وهُما مِنْ أَكْثَرِ المُسَيَّرَاتِ اسْتِخْدَامًا في مَهامِّ المراقَبَةِ والاستخباراتِ فَوْقَ لُبْنَانَ وغَزَّةَ ومَناطِقَ أُخرى. كما تُحَلِّلُ المَقالَةُ أَنواعَ البَياناتِ الَّتي يُمكِنُ جَمْعُها، سَوَاءٌ كانت لاسِلْكِيَّةً أم بَصَرِيَّةً، وتُقَدِّمُ تَوْصِيَاتٍ عَمَلِيَّةً لِلْحَدِّ مِنَ الأَثَرِ الأمنِيِّ على المدنيين. عينٌ لا تَنَام تُصَنِّعُ شَرِكَةُ “Elbit Systems” الإسرائيليةُ هاتَيْنِ المُسَيَّرَتَيْنِ، وتُصَنَّفَانِ ضِمْنَ فِئَةِ الطَّائِرَاتِ بِدونِ طَيَّارٍ مُتَوَسِّطَةِ الارتفاعِ طَوِيلَةِ التَّحَلُّقِ (MALE). تَمْتَازُ كِلَاتاهُمَا بالقُدْرَةِ عَلَى البَقَاءِ في الجَوِّ لِفَتَرَاتٍ تَتَجَاوَزُ 20 ساعةً مُتَوَالِيَةً، مَعَ حَمُولَةٍ مُتَعَدِّدَةِ المَهَامِّ تُمَكِّنُهَا مِنْ تَنْفِيذِ عَمَلِيّاتٍ اسْتِخْبَارِيَّةٍ مُعَقَّدَةٍ. الميزةُ التِّقَنِيَّةُ الوَصْفُ والتَّأْثِيرُ كامِيراتُ التَّصْوِيرِ البَصَرِيِّ والوَضوئِيّ-الحَرارِيِّ (EO/IR) تُتيحُ التَّقاطَ صُورٍ ومَقَاطعَ فِيديو عاليَةِ الدِّقَّةِ لَيْلاً ونهارًا، ممّا يُساعِدُ على رَصْدِ الأَفرادِ وتَحْديدِ هُوِيّاتِهِمْ مِنْ ارتفاعاتٍ شاهِقَةٍ. رَاداراتُ التَّصْويرِ المُتَطَوِّرَةُ (SAR/MTI) قادِرَةٌ على كَشْفِ حَرَكَةِ الأَفرادِ والمَرْكَبَاتِ على الأَرْضِ، حَتّى في الظُّروفِ الجَوِّيَّةِ السَّيِّئَةِ، وتَوْلِيدِ خَرائِطَ ثُلاثِيَّةِ الأَبْعادِ للتّضارِيسِ والأَبْنِيَةِ. أنظِمَةُ اعتراضِ الاتِّصالاتِ والبَثِّ اللاسِلْكِيِّ (COMINT/ELINT) تُسْتَخدَمُ لِلتَّجَسُّسِ الإِلِكْترونِيِّ عبرَ اعْتِراضِ إشاراتِ الهَواتِفِ المُتَحَرِّكَةِ وشَبَكاتِ Wi-Fi والبلوتوث، مِمّا يُمكِّنُ مِنْ تَحْديدِ مَواضِعِ الأَجْهِزَةِ وَتَتَبُّعِها. تُتيحُ هذِهِ المُكَوِّناتُ المُتَكامِلَةُ لِلمُسَيَّرَةِ جَمعَ حُزَمٍ ضَخْمَةٍ مِنَ البَياناتِ مِنَ الجَوِّ، وَدَمْجَها لِتَكْوِينِ «صُورَةٍ اسْتِخْبَارِيَّةٍ مُتَكامِلَةٍ» لِلمِنْطَقَةِ المستهدفة. بِعِبَارَةٍ أُخْرَى، هِيَ لَيْسَتْ طائِرَةَ تَصْويرٍ فَحَسْبُ، بَلْ مَنَصَّةُ مُرَاقَبَةٍ مُتَعَدِّدَةِ الطَّبَقَاتِ قادِرَةٌ عَلَى الرَّبْطِ بَيْنَ إشاراتِ الهاتِفِ، وحَرَكَةِ الأَشْخاصِ، والصُّورِ المَيْدانيّةِ. يُمكِنُ لِلمُسَيَّرَةِ تَحْدِيدَ وُجُودِ أَجْهِزَةٍ مُحَدَّدَةٍ وتَتَبُّعِها زَمَنِيًّا ومَكانِيًّا، حَتّى مِنْ دُونِ النُّفاذِ إلى مُحْتَوى الاتِّصالاتِ أو كَسْرِ التَّشْفِيرِ شَبَكاتُ الهاتِفِ الخَلَوِيِّ مِنْ أَبْرَزِ ما يُمكِنُ لِلمُسَيَّرَاتِ التَّقاطُهُ هُوَ بَياناتُ التَّعْرِيفِ الخَاصَّةُ بِالهَواتِفِ المَحمُولَةِ. فَمِنْ خِلالِ أَجْهِزَةٍ صَغِيرَةٍ تُعْرَفُ بِاسْمِ «لاقِطَاتِ IMSI» (IMSI-catchers)، يُمكِنُ للطَّائِرَةِ أنْ تَتَظَاهَرَ بِأَنَّها بُرْجُ اتِّصالاتٍ قَرِيبٍ، فَتُجْبِرُ الهَواتِفَ المُحِيطَةَ على التَّواصُلِ مَعَهَا، مِمّا يُسَمِّحُ لَهَا بِالتَّقاطِ بَياناتٍ حَيَوِيَّةٍ مِثْلَ: رَقَمُ الهُوِيَّةِ الدَّوْلِيَّةِ لِلمُشْتَرِكِ (IMSI) رَقَمُ الجِهازِ الفَرِيدُ (IMEI) المُعَرِّفاتُ المُؤَقَّتَةُ (TMSI) مُسْتوى إشارَةِ البَثِّ وتَوقِيتها بِذلِكَ، يُمكِنُ لِلمُسَيَّرَةِ تَحْدِيدَ وُجُودِ أَجْهِزَةٍ مُحَدَّدَةٍ وتَتَبُّعِها زَمَنِيًّا ومَكانِيًّا، حَتّى مِنْ دُونِ النُّفاذِ إلى مُحْتَوى الاتِّصالاتِ أو كَسْرِ التَّشْفِيرِ. تُسْتَعْمَلُ هذِهِ التِّقْنِيَّةُ عَادَةً فِي عَمَلِيّاتِ الاِسْتِخْباراتِ المَيْدَانِيَّةِ لِرَسمِ خَرائِطِ التَّواجُدِ البَشَرِيِّ أو رَبْطِ الأَشْخاصِ بِالأَجْهِزَةِ الَّتِي يَحْمِلُونَهَا. إنَّ مُجَرَّدَ وُجُودِ هاتِفِكَ في جَيْبِكَ، مُشَغَّلًا لشَبَكَتِهِ الخَلَوِيَّةِ، يَكْفِي لِيُسَجَّلَ في نِطاقِ تَغْطِيَةِ المُسَيَّرَةِ، حَتّى لوْ لَم تَكُنْ «مُسْتَهْدَفًا» بِالمَعْنَى المُباشِرِ. تَسْرِيبَاتٌ مِن حَياتِنا اليَومِيَّةِ لا تَتَوَقَّفُ الهَواتِفُ الذَّكِيَّةُ عن إِرسَالِ إشاراتِ بَحْثٍ تَلقائِيٍّ عَن شَبَكاتِ Wi-Fi وأَجْهِزَةِ Bluetooth القَرِيبَةِ. تِلْكَ الإِشاراتُ، المَعْرُوفَةُ بِاسْمِ «طَلَبَاتِ التَّحَقُّقِ» (probe requests)، تَتَضَمَّنُ أَحْيانًا أَسْماءَ شَبَكاتٍ سَبَقَ أَنْ اتَّصَلَ بِها الجِهازُ (SSIDs)، وَعَنَاوِينَ تَعرِيفِيَّةً يُمكِنُ اسْتِخْدامُها لِتَتَبُّعِ حَرَكَةِ الأَشْخاصِ. إِنْ لَم تُفَعَّلْ خَاصِّيّةُ «عَشوَائِيَّةِ عُنْوانِ MAC» (MAC Randomization)، فَيُمْكِنُ لِلْجِهَةِ المُراقِبَةِ بِنَاءُ «بُصمَةٍ رَقْمِيَّةٍ» لِجِهازِكَ وَتَتَبُّعُهُ فِي الوَقْتِ الحَقِيقِيِّ. وَهذَا ما يُعْتَقَدُ أَنَّ أنْظِمَةَ المُرَاقَبَةِ الجَوِّيَّةِ الإسرائيليةَ تَفْعَلُهُ، حَيْثُ تَدْمُجُ بَياناتِ الوِي-فاي وَالبْلُوتوث مَعَ بَياناتِ الخَلَوِيِّ لِبِنَاءِ خَرائِطَ انْتِشارِ الأَجْهِزَةِ الذَّكِيَّةِ في الأَحْياءِ السَّكَنِيَّةِ، لِتَتَشَكَّلَ شَبَكَةٌ مِنَ النِّقَاطِ الرَّقْمِيَّةِ الَّتِي تَكْشِفُ أمَاكِنَ تَواجُدِ النَّاسِ، ومَنْ يَتَحَرَّكُ مَعَ مَن، ومَتَى. ما الذي لا تَسْتَطِيعُهُ المُسَيَّرَاتُ؟ عَلَى الرَّغْمِ مِنْ تَفَوُّقِها التِّقَنِيِّ، إِلا أَنَّ المُسَيَّرَاتِ لا تَسْتَطِيعُ التَّقاطَ مُحْتَوى الرَّسائِلِ المُشَفَّرَةِ مِنْ تَطْبِيقَاتٍ مِثْلَ Signal أو WhatsApp أو iMessage، فَتَحْمِيها أنْظِمَةُ تَشفِيرٍ مِن طَرَفٍ إلى طَرَفٍ. لَكِنَّها تَسْتَطِيعُ تَقاطُ «البَيَانَاتِ الوَصْفِيَّةَ» (Metadata)، أَيْ مَنْ تَوَاصَلَ مَعَ مَنْ، ومَتَى، ومِنْ أَيِّ مَوقِعٍ تَقْرِيبِيٍّ. كَذلِكَ، فَتَحْدِيدُ الهُوِيَّةِ الدَّقِيقَةِ مِن صُورَةٍ واحِدَةٍ لَيْسَ مُؤَكَّدًا دَائمًا؛ فَهُوَ يَعْتَمِدُ عَلَى زَاوِيَةِ التَّصْوِيرِ ونَقَاوَةِ الصُّورَةِ وَالظُّرُوفِ الجَوِّيَّةِ. إِلّا أَنَّ دَمْجَ الصُّورِ مَعَ إشاراتِ الرَّاديو يَجْعَلُ الاحْتِمالَ أَقْوَى بِكَثِيرٍ، خُصُوصًا فِي بِيئَاتٍ مَكْتَظَّةٍ مِثْلَ بَيْروتَ. كَيْفَ نَحْمِي أَنْفُسَنَا؟ إِنَّ تَحْقِيقَ دَرَجَةٍ مِنَ الأَمْنِ فِي مُوَاجَهَةِ المُرَاقَبَةِ الجَوِّيَّةِ يَتَطَلَّبُ وَعْيًا تِقَنِيًّا وَسُلُوكِيًّا. فَبَدَلًا مِنَ الاسْتِسْلَامِ لِفِكْرَةِ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مُرَاقَبٌ، يُمكِنُ اتِّخَاذُ خُطُواتٍ عَمَلِيَّةٍ لِتَقْلِيلِ البُصمَةِ الرَّقْمِيَّةِ بِشَكْلٍ كَبِيرٍ. إِنَّ تَفْعِيلَ وَضْعِ الطَّيَرَانِ أَوْ إِيقافَ الجِهازِ كُلِّيًّا هُوَ الإِجْرَاءُ الأَكْثَرُ فَعَالِيَّةً، حَيْثُ يُوقِفُ كُلَّ انْبِعاثاتِ الإِشارَةِ مِنَ الهَاتِفِ (خَلَوِيّ، Wi-Fi، Bluetooth). إِذَا احْتَجْتَ أَنْ تَكُونَ غَيْرَ قابِلٍ لِلرَّصْدِ، فَلَا بَدِيلَ عَنْ فَصْلِ الجِهازِ فِعْلِيًّا عَنِ الشَّبَكَةِ. إِضَافَةً إلى ذَلِكَ، يُنْصَحُ بِـتَعْطِيلِ الوِي-فاي والبْلُوتوث يَدَوِيًّا وَمَنْعِ إِعَادَةِ الاتِّصَالِ التَّلْقائِيِّ، حَيْثُ تَمِيلُ الهَواتِفُ الحَدِيثَةُ إِلَى الاتِّصَالِ تِلْقائِيًّا بِالشَّبَكَاتِ المَعْرُوفَةِ، وَهذَا مَا يَكْشِفُ بَيَانَاتٍ قَدِيمَةً. كَذلِكَ، فَتَفْعِيلُ خَاصِّيَّةِ عَشوَائِيَّةِ عُنْوانِ MAC، المَتَاحَةِ فِي مُعْظَمِ أَنْظِمَةِ iOS وَ Android الحَدِيثَةِ، يَجْعَلُ عُنْوانَ جِهازِكَ يَتَغَيَّرُ دَوْرِيًّا، مِمّا يُصَعِّبُ تَتَبُّعَكَ عَبْرَ شَبَكاتِ الوِي-فاي العَامَّةِ. وَلِلحِمَايَةِ القُصْوَى، يُمْكِنُ اسْتِخْدامُ أَكْياسٍ أَو أَغْطِيَةٍ فَاراداي (Faraday Bags)، وهِيَ حاوِيَاتٌ تَمْنَعُ دُخُولَ وخُرُوجَ الإِشَاراتِ الإِلِكْترونِيَّةِ، وتُعْتَبَرُ مُنَاسِبَةً لِلصَّحَفِيِّينَ أَوِ العَامِلِينَ فِي المَيْدانِ عِنْدَ الحَاجَةِ إلى عَزْلِ الأَجْهِزَةِ مُؤَقَّتًا. وَلَكِنَّ يُنْصَحُ بِتَجْرِبَتِها مُسْبَقًا لأَنَّ جَوْدَتَها تَخْتَلِفُ كَثِيرًا. الخُصوصِيَّةُ في زَمَنِ السَّماءِِ الذَّكِيَّةِ لَم تَعُدْ بِيروتُ وَصِيدا مَدِينَتَيْنِ عادِيَّتَيْنِ، بَلْ أَصْبَحَتَا رمْزًا لِلتَّعايُشِ القَسْرِيِّ بَيْنَ المُدَنِيِّ والتِّقَنِيِّ؛ مَدِينَةٌ مَلِيئَةٌ بِالحَيَاةِ، تَعْلُوها أَعْيُنٌ إِلِكْترونِيَّةٌ لا تَنامُ. إِنَّ التَّحَدِّي الحَقِيقِيَّ لَيْسَ فَقَطْ فِي قُدْرَةِ المُسَيَّرَاتِ عَلَى الرَّصْدِ، بَلْ فِي قُدْرَتِنَا كمُجتَمَعٍ مَدَنِيٍّ عَلَى فَهْمِ التِّقْنِيَّةِ وَالتَّكَيُّفِ مَعَهَا. فَالمُسَيَّرَاتُ بِدونِ طَيَّارٍ لا تُميِّزُ بَيْنَ هَدَفٍ عَسْكَرِيٍّ ومُواطِنٍ يَحْمِلُ هاتِفَهُ، والبَياناتُ تُجْمَعُ بالجُمْلَةِ. لَكِنَّ المَعرِفَةَ تَظَلُّ دِرْعًا؛ فَكُلُّ إِجْرَاءٍ تِقَنِيٍّ صَغِيرٍ، مِن تَعطِيلِ البْلُوتوث إلى اسْتِخْدامِ كِيسِ فَاراداي، يُساهِمُ في اسْتِعادَةِ جُزْءٍ مِنَ الخُصوصِيَّةِ المَسلُوبَةِ. لَقَدْ تَحَوَّلَتِ الخُصوصِيَّةُ مِنْ مَسْأَلَةٍ قَانُونِيَّةٍ فَحَسْبُ، إلى مَعْرَكَةِ وَعْيٍ وتِقَنَةٍ في فَضَاءِ أَصْبَحَ مُخْتَبَرًا اسْتِخْبَارِيًّا طائِرًا.
صورتان طغتا بقوّة على المشهد في صيدا خلال اليومين الماضيين.الأولى للنائب غادة أيوب يرافقها رئيس بلدية صيدا وأعضاء من المجلس البلدي في مكتب وزير الأشغال فايز رسامني.أما الصورة الثانية فلرئيس الحكومة نواف سلام مع “زعماء” المدينة على “بسطة” سمك في “الميرة” (سوق السمك).صورتان شغلتا الرأي العام الصيداوي وقيل فيهما الكثير… امرأة ورجال وزفت لنبدأ ممّا انتهوا. حتماً، يحقّ لغادة أيوب كنائبٍ منتخب أن تعمل ما يحلو لها ضمن “اللعبة السياسية” اللبنانية، بحسب تركيبة البلد وتخاريقه.يحقّ لها أن تقوم بما تراه مناسباً من وجهة نظرها، انطلاقاً من حساباتها السياسية والدينية والمناطقيّة والعقديّة… وهي لا تنتظر مساءلة من أحد، خاصةً على شكل كلام في عالمٍ افتراضيّ، لا يعدو مجرّد كونه كلاماً… للمعترضين على ذلك، قوموا بما ترونه مناسباً لمنطقتكم، لمدينتكم، لأهلكم، لأولادكم، لأنفسكم… فقط قوموا بشيءٍ عدا الكلام وعَلك الكلام. كلكم تمرّون يوميّاً عشرات المرّات على البلاط المتشظّي في شوارع السوق التجاريّة الرئيسيّة للمدينة. ماذا فعلتم غير “النقّ” والانتقاد والشكاية؟ هل اعترضتم في الشارع على ألوف بل ملايين الدولارات من المال المهدور على هذا المشروع أو غيره؟ هل اعتصمتم بشكلٍ حضاريّ أمام مكتب متعهّدٍ مشبوه يمصّ دمكم منذ سنين؟ وتبتسمون له خوفاً وخنوعاً؟ الأكيد: لا. بطولات وهميّة على مواقع التواصل الاجتماعي، وفي المقاهي وعلى مجموعات الواتساب. وفي المساء تنتهي الخبرية وكأنّ كلام النهار يمحوه الليل. وغداً يومٌ آخر… من المعارك الدونكشوتيّة. ليس نقيصة بحقّ رمز سياسي أن يزور وزيراً معنيّاً بشأنٍ خدميّ لتحصيل ما يعتبر حقّاً له ولمنطقته وأهله وناسه. والاعتراض على ذلك لا يخفي عجز الآخرين عن القيام بما قامت به أيوب… أو يخفيه. سيُقال إنّ الاعتراض على الشكل لا على المضمون. بمعنى: “كيف تهضم مدينة كصيدا نائباً قواتياً يسحب معه مسؤولين أساسيّين في مجلسها البلدي لطلب ما هو حقّ للمدينة كحصّة من “زفت الدولة” أو خدمات…؟ حتّى لو صحّ ذلك، فالمشكلة هنا ليست في أيوب، بل في نائبي المدينة وقواها السياسية والاقتصادية والاجتماعية الفاعلة الذين أتاحوا لها الفرصة لتطالب بما يُفترض أن يطالبوا به هم. شكراً غادة أيوب، لأنّكِ عرّيتِنا من ورقةِ تينٍ بالية لم تعد حتّى تستر عوراتنا. علّهم يصحون من سباتٍ طال، وبات يضرب أطنابه في سطحيّة عقولٍ لا تمتهن إلّا السفسطة والتفاهات والمناكفات والطاقة السلبيّة. المشكلة ليست في غادة أيوب، بل في نائبي المدينة وقواها السياسية والاقتصادية والاجتماعية الفاعلة الذين أتاحوا لها الفرصة لتطالب بما يُفترض أن يطالبوا به هم نعيش اليوم بيومه. توكّل مطلوب حكماً، لكن للعقل شغله الذي لا تراه في شوارع المدينة. حاج محمد بوجي… كم تُشبهنا أيّها العتيق نواف سلام يكتشف صيدا. لم تنجح الزميلة السابقة سحر بعاصيري (زوجته) في تعريفه بمدينتها. للبيارتة مع السمك علاقة ملتبسة، لا تشجّع على التأصيل. لنعد إلى الصورة الثانية. كم هي جميلة هذه الصورة التي التقطها مجهول، وكم هي معبّرة. فعاليّات المدينة وسياسيوها عند “بسطة سمك” في سوق سمك، لا يزال يبيع بالمزاد كما كان الحال منذ الفينيقيين حتى الإمبراطورية العثمانية.كم تختزل هذه الصورة من أصالة عابرة للتاريخ. لا يعنيني كلّ من في كادرها، أتكلم هنا عن ذلك العجوز في إحدى زواياها يظهر وكأنه يقبل صمت ملح البحر، في سُمرة جلده المصقول بحرارة شمس الخريف. عنيتُ الحاج محمد بوجي، النقيب الحالي لصيّادي الأسماك في صيدا. بحريّ عتيق، قدَم القلعة وحجارة أشمون. هو كلّ الصيداويين في رجل. لم يعرف في حياته التي تربو عن الخامسة والسبعين إلا التوكّل على رزقٍ في بطن الأزرق الكبير، وبساطة تجعله يستفيق كل صباح ليكتشف مع ساعات النهار الأولى ما قد قُسِم لك من قوت يومه. هكذا يعيش العقل الجمعي في صيدا، حتّى في لاوعينا دون أن ندرك. نعيش اليوم بيومه. توكّل مطلوب حكماً، لكن للعقل شغله الذي لا تراه في شوارع المدينة. لم يعرف الحاج بوجي في حياته خياراً آخر عدا التوكّل، والصراع اليومي مع “العملاق”. هكذا يُخلق الصيداويون ويعيشون ويشيخون. لم يعرف تنظيماً دقيقاً لمهنةٍ عمرها من عمر البحر، لكنّها في صيدا لا تزال وكأنّ الزمن متوقّف فيها عند مراكب الآشوريين الوافدين لنهل المعرفة بفنون الملاحة وصناعة المراكب. لم يتطوّر ميناء المدينة، ولا شباك الصيّادين ولا مراكبهم، ولا حتى عقولهم ومقارباتهم.بقيت الأمور على بساطتها باعتبارها الملاذ الآمن والأكثر راحة. لم يتكلف أحد من الزعماء والأثرياء والعباقرة المتعاقبين عناء تطوير الناس والمهنة وتحسين شروط حياتهم، ويومياتهم وتحصيل حقوقهم. تُركوا لمصيرهم، لتوكُلِهم…: كم تُشبهنا يا حاج بوجي، وكم لا يُشبهنا من معك في تلك الصورة، خاصّة ذلك الذي يُرخي بيده متّكئاً على كتفك. على أكتاف أمثالك يصعدون، وحين يصبحون "فوق"، تصبح زيارة بسطة السمك فلكلوراً وصورةً ومرافقين. وتُنسى أيها المسكين مع مشاكلك في عُباب بحرٍ يبتلعك كلّ يوم، كما يبتلع السياسيّون المدينة…