ومضى اليوم الثالث على رحيل الحاج عدنان علي البيومي. نعته صيدا ودفنته بين رجالها الطيبين. رحل ومعه ذكريات ثقيلة لا يعرفها إلا من فقد ابنًا ظل موته معلّقًا بين الصبر والكثير من الوجع والرجاء.رحمك الله يا حاج أبو علي. قد يتساءل البعض: لماذا أنعي هذا الرجل؟ أهو حرفي مشهور أم فنان أو سياسي معروف؟ هو أعظم من كل ذلك… هو أبٌ مفجوع لشاب مظلوم، اسمه نادر البيومي، أو كما عُرف بين رفاقه: “قمر الشهداء” نادر البيومي… ذاك الشاب الوسيم، أزرق العينين كزرقة بحر صيدا. أبيض البشرة، يعلوها أحيانًا أثر شحمٍ من عمله كميكانيكي، يجهد في إزالته ليقف بين المصلين بهندامٍ نظيف ورائحة طيبة.شابٌ قوي البنية، بشوش الوجه، حنون القلب. كنتُ في الخامسة عشرة من عمري حين عرفته، يعلّمنا مع مجموعة من الشباب، في مسجد القرآن الكريم عند محلة البوابة الفوقا، كيف نصلي ونتوضأ، وكيف نحافظ على طهارة القلب قبل طهارة الجسد. كان يمازحنا بعد الدرس، ويمنحنا وقتًا كافيًا من اللعب المباح داخل المسجد، كأنه أخٌ كبير يعرف أن الدين رحمة لا قسوة. دخل برجليه وعاد في نعشثم جاءت الأيام الصعبة… نادر لم يكن في “معركة عبرا”، ولم يُعتقل في ساحة المعركة كما زُعم، لكنه، ككثير من شباب صيدا الملتزمين بالصلاة في المساجد، أصبح اسمه ضمن لوائح الملاحقة، وخاصةً أنه كان يرتاد مسجد بلال بن رباح.والروايتان متقاربتان: واحدة تقول إنه سلّم نفسه لأحد حواجز الجيش في صيدا، ليُحال بعدها إلى الثكنة، ثم إلى التحقيق في وزارة الدفاع. وأخرى تقول إنه قصد الثكنة بنفسه طوعًا، بعد أن أخذ عهدًا بعدم التعرض له وأن التحقيق معه لن يطول كثيرًا. لكنه عاد بنعشٍ وجسدٍ مسجّى يكشف الكثير من علامات التعذيب والتنكيل. تعرّض، كما أكدت تقارير “هيومن رايتس ووتش”، لأشد أنواع التعذيب خلال التحقيق، حتى فقد حياته. وبعد أسابيع، اعترف الجيش اللبناني رسميًا بحدوث حالات تعذيب أثناء التحقيقات، دون أن يذكره بالاسم، وكأنه اعترافٌ خافت، يحمل بين سطوره شيئًا من الحقيقة وكثيرًا من الأسف. مدينة تستحق أن تكون مركزًا معرفيًا متطورًا.. تحوّلت إلى حي فقير رقميًا لم يكن نادر إرهابيًا، ولا حتى مناصرًا من “الصف الأول”. كان أبًا لابنة صغيرة، عريسًا جديدًا، يحلم ببيتٍ بسيط يملؤه الإيمان وضحك طفلته وذكريات الأسرة السعيدة. لكنّ القدر شاء أن يُطفأ نوره في بلدٍ يرفع شعار الحرية وحقوق الإنسان، بينما تُكسر تحت سقوفه أجساد المظلومين وتُطحن آمالهم وتُحارب أفكارهم… لن أخوض في تفاصيل السياسة اللبنانية، ولا في الاتهامات، ولا حتى في نقد مؤسسة عسكرية سيطر عليها في هذه المعركة “حزب الله” وكان يديرها بحذافيرها. الحقيقة يعرفها كل من عاش تلك المرحلة: في عبرا، لم يكن كل من صلى في مسجد بلال بن رباح مذنبًا، بل كان معظمهم رمزًا للنقاء والمساعدة والخوف على المدينة. ونادر كان واحدًا منهم، بل كان وجههم الأجمل. هو لم يُعذّب لأنه صلى، بل لأنه يشبه جامع بلال: بسيطًا، صادقًا، مضيئًا رغم الظلام. كان التعذيب على جسده لونًا أسود يشبه الدخان الذي صعد من مئذنة المسجد حين استُهدف بالقذائف المباشرة من التلال المجاورة، معروفة الانتماء. نادر كان يشبه معظم شباب صيدا الملتزم الرافض للغطرسة والعنجهية، المؤمن بالله. قصته تشبه قصة المسجد حين تضامن مع ثورة مباركة في الشام، وحين وقف في وجه مشروع الموت والكبتاغون والمتاجرة بفلسطين. ويبقى السؤال…اليوم، حين رحل والده الحاج عدنان، شعرت المدينة أن الجرح القديم قد فُتح من جديد. كأن الأب التحق بابنه ليكتمل المشهد، مشهد الرحيل الموجع الذي لا يعرفه إلا من فقد من يحب، ظلمًا وقهرًا.رحم الله الحاج عدنان علي البيومي، الرجل الصابر، ورحم الله ابنه نادر البيومي وتقبّله من الشهداء، ذلك الشاب الحنون البشوش الذي صار اسمه رمزًا للإنسان البريء الذي دفع ثمن الصلاة والإيمان والنقاء في زمنٍ غابت فيه العدالة. ويبقى السؤال: هل ستنتصر العدالة يومًا، كما انتصرت سوريا على أنقاض الحرب؟ لم أكن لأكتب هذا المقال، لو لم تنتصر هذه الصورة. لكنني فقط أترحم عليه وأذكّر بقصته لفضله عليّ. فهل سيُعاد الاعتبار لكل شابٍ مثل نادر، عُذّب أو سُجن أو غاب اسمه في زوايا النسيان في أقبية السجون بلا محاكمات؟ لعل رحيل الحاج عدنان يكون تذكرةً، لا نهايةً، لقصة ما زال فيها الكثير ليُقال، وتنتظر العدل والإنصاف…
لم يمرّ “يوم” نواف سلام في صيدا على خير. فقد انفجر آخر الليل بين رئيس بلدية صيدا “المفترض” مصطفى حجازي وأعضاءٍ من المجلس البلدي، على خلفية “التخبيصات” والتجاوزات التي شابت زيارة رئيس الحكومة لعاصمة الجنوب أمس. بحسب مطّلعين، احتدم النقاش بقوّة على مجموعة “الواتس آب” الرسمية للبلدية بين حجازي وأكثرية الأعضاء، بسبب ما اعتبره البعض “تجاوزاً للأصول والأعراف المؤسساتية في تنظيم الزيارة”، وتجاهلاً متعمّداً لدور المجلس البلدي في التحضير للفعالية وعدم إطلاعه على برنامجها… وصولاً إلى حدّ الاعتراض على تقسيم جلوس الحاضرين على الكراسي. وعلمت صحيفة “البوست” أنّ اعتراضاً شديداً سُجّل من قبل الأعضاء على كلمةٍ ألقاها شخصٌ من خارج المجلس بدا وكأنّه يتحدّث باسم البلدية من دون تفويضٍ منها. كما سُجّلت مداخلات محتدّة بين المجلس ورئيسه على العرض الذي قدّمته “مؤسسة الحريري” حول ما أسمته “إنجازاتها” على المجالس السابقة، بحيث اعتبره البعض “يستوجب التحقّق من دقّته ومصداقيته نظراً لما تضمّنه من مغالطات”، بدل الإضاءة على حاجات المدينة الأساسية المحرومة منها. كل هذا التوتّر والنبرة العالية في الكلام أدّى إلى انسحاب رئيس البلدية من مجموعة “الواتس آب” علماً أنّه مديرها ومنشِئها. يُشار إلى أنّ هناك توجّهاً جدياً لدى قوى نافذة لتصحيح الوضع “الشاذ” القائم والمتمادي في البلدية، عبر توجيه مساءلة قانونية وإحالة الموضوع إلى اللجنة القانونية في المجلس لدرسه وإبداء الرأي القانوني اللازم، ورفع تقريرٍ مفصّل إلى المجلس في أول جلسةٍ مقبلة لاتخاذ القرار المناسب بهذا الشأن. فهل نحن أمام بداية النهاية لمهزلةٍ يتحمّل مسؤوليتها الأولى مَن أوصل هكذا أشخاص إلى هكذا مناصب؟يبدو ذلك…
لَم نَعُد نَفهَمُ ما يَحصُلُ في مَدينَتِنا صَيدا.مُنذُ فَترَةٍ، فَقَدنَا بوصَلَتَنا وإحساسَنا، بَل أَصبَحنا نَنزَعِجُ مِمَّن لَم يَفقِد إحساسَهُ بَعدُ، حتّى نَكونَ جَميعًا شُركاءَ في هذا الخُسرانِ. فَرِحنَا كَثيرًا بِأَنَّ المَهرجاناتِ والمُناسَباتِ والاحتفالاتِ، وسِواها مِنَ الأَعمالِ والنَّشاطاتِ الظرفيَّةِ الَّتي لا تَدعَمُ حَلًّا جِدِّيًّا لِمُشكِلاتِنا الكَثيرةِ في المَدينَةِ، والَّتي لا تُؤدِّي إِلى خُروجٍ فِعليٍّ مِنَ الأَزماتِ الكَثيرةِ الَّتي نَتخبَّطُ بِها، قَدِ انتَهَت. استَبشرنَا خَيرًا أَنَّ المُشكِلاتِ سَلَكَت طَريقَها إِلى الحُلولِ الصَّحيحةِ، وأَنَّ الأَزماتِ الَّتي عِشنَاها كَصَيداويِّينَ أَصبَحَت خَلفَنا، وتَوَقَّعنَا، بَل وتأمَّلنَا، أَنَّ المُعنيِّينَ سَيُبادِرونَ بِالتَّخطيطِ لإِنقاذِ البَلَدِ، والتَّحضيرِ لِبَلسَمَةِ الأَوجاعِ. وأَقَلُّها أَن نَبدَأَ بِتَنظيفِ شَوارِعِنا كَجُهدٍ مَحلِّيٍّ وَفقًا لِأبسَطِ أُصولِ الحَياةِ الإنسانيَّةِ الحَضاريَّةِ، لكِن سُرعانَ ما فُوجِئنَا بِإعادَةِ استِئنافِ الوَلائمِ والمآدِبِ، بِسَببٍ وبِدونِه. نَختَرِعُ المُناسَباتِ لِنَجمَعَ عَددًا، ويَتَجمهرُ عَلَيها كِبارُ السّاسةِ والشَّخصيّاتِ والفَاعليّاتِ، ومِن حَولِهِم بَطانَتُهُم والمُجامِلونَ ومَن يُحسَبونَ عَلَيهِم، ومِثلُهُم. لِتَعودَ “حَليمَةُ لِعادَتِها القَديمَةِ”، ويُنسَى النّاسُ والمَشاكِلُ والتَّحدّياتُ. فَتُنصَبُ الوَلائمُ مِن جَديدٍ في البَذخِ والتَّبذيرِ بِما لا يَنفَعُ المَدينَةَ وبِما لا يَخدِمُ أَهلَها. يَبدو وكَأَنَّ واقِعَنا المَرِيرَ الَّذي نَحنُ فيهِ أَصبَحَ مُتعمَّدًا أَن يَبقَى بِهذا الشَّكلِ. صِرتُ مُوقِنًا بِأَنَّ مُشكِلاتِنا هِيَ مِن صُنعِ أَنفُسِنا، والأَغرَبُ أَنَّ هُناكَ مَن يُدافِعُ عَن هذا الواقِعِ حتّى المَوتِ، ولا يَسمَحُ بِالمَساسِ بِه. أَمُحرَّمَةٌ هذِهِ الأَموالُ عَلى تَحقيقِ المَشاريعِ المُنتِجَةِ والتَّنمِيَةِ المُستَدامَةِ لِصَيدا والصَّيداويِّينَ؟ بارَكَ اللهُ لَكُم بِأَموالِكُم، ولكِن مِن حَقِّ المَدينَةِ وأَهلِها أَن يَسأَلوا: أَمُحرَّمَةٌ هذِهِ الأَموالُ عَلى تَحقيقِ المَشاريعِ المُنتِجَةِ والتَّنمِيَةِ المُستَدامَةِ لِصَيدا والصَّيداويِّينَ؟ أَهِيَ حَلالٌ عَلى بُطونٍ مُتخَمَةٍ، وحَرامٌ عَلى البُطونِ الجائِعَةِ، المُتعطِّشَةِ لِليسيرِ لِتَغييرِ مَجرَى حَياةِ الآلافِ؟ فَكِّروا بِأَنفُسِكُم وبِغَيرِكُم، فَكُلُّنَا نَتشارَكُ الكَثيرَ لِنُعطِيَهُ. كُلُّ ما تَقَدَّمَ هُوَ نَصيحَةٌ لي ولِلجَميعٍ. اتَّقوا اللهَ، وأَنفِقوا بَعضًا مِن هذا المالِ، أَقَلَّه لِتَنظيفِ بَلدِكُم والشوارع، وتَعاوَنوا عَلَى البِرِّ مَعَ كُلِّ قادِرٍ لِتَرفَعوا مِن شَأنِ مَدينَتِكُم بِما يَليقُ بِماضيها وحاضِرِها ومُستَقبَلِها، وفَعِّلوا أَيَّ مَشروعٍ يَعودُ بِالمَنفَعَةِ عَلَيها طالَما عِندَكُم المالُ الَّذي لا يَظهَرُ إِلّا عَلى أَطباقِ المَوائدِ وصُوَرِ المَلابِسِ وتَزيينِ المُناسَباتِ… وهُنا يَخطُرُني سُؤالٌ مُبرَّرٌ، ونَحنُ عَلى أَبوابِ شَهرِ رَمَضانَ المُبارَكِ: هَل يَحِقُّ لِلقَطاعاتِ أَن تَطلُبَ التَّبرّعاتِ بَعدَ هذا الإِنفاقِ غَيرِ الضَّروريِّ؟ فَاعلَموا أَنَّهُ عِندَما تَكسَبونَ مَرضاةَ اللهِ تَعالى، تَتحصَّلونَ عَلى رِضاهُ ورِضى عِبادِه. فاعمَلوا لِكَسبِ مَرضاتِه لا مَرضاةَ مَن لا يَنفَعُ ولا يَضُرُّ إِلّا بِإذنِه. مِن حَقِّكُم عَلى كُلِّ مَسؤولٍ أَن يُؤدِّيَ دَورَهُ ووَاجِبَهُ عَلى أَحسَنِ وَجهٍ في مَوقعِه وإِدارتِه لِبَلدِنا، وتَوفيرِ العَيشِ الكَريمِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنَّا طالَما قَبِلَ بِتَحمُّلِ هذِهِ المَسؤوليَّةِ وهذِهِ المُهِمَّةِ. وخِتامًا، لا داعيَ لِلإِكثارِ مِنَ الكَلامِ، ولكِنَّها النَّصيحَةُ: سَيَأتي قَريبًا اليَومُ الَّذي سَيَسأَلُنا فيهِ رَبُّنا سُبحانَهُ وتَعالى عَن أَحوالِنا وأَعمالِنا… ونَصيحَتي – وأُذكِّرُ أَيضًا – لِكُلِّ مَن لَبِسَ أَجمَلَ ما عِندَهُ في هذِهِ اللِّقاءاتِ، أَن يَكونَ لِباسُهُ جَميلًا أَيضًا عِندَ دُخولِهِ المَساجِدَ، حَيثُ يَكونُ في ضِيافَةِ اللهِ، ولاسِيَّما وَقتَ صَلاةِ الجُمُعَةِ. يبدو وكأنّ واقعنا الذي نحن فيه أصبح مُتعمَّدًا أن يكون بهذا الشكل المأساوي والمنحرف. مشاكلنا هي من صنع أنفسنا لا مجرد ابتلاء من الله تعالى، والأغرب أننا ندافع عنها حتى الموت، ولا نسمح بمسّها أحيانا كثيرة… * رئيس مجموعة الكيلاني