كلّ شيءٍ في تلك المناظر التي بدأت من طائرةِ الرئاسة الأميركية الأولى، مروراً بكنيست تل أبيب وانتهاءً بشرم الشيخ، كان يُوحي بالخفّة. كلّ شيء… ما عدا هولَ ما جرى ويجري في غزّة، بحقّ القضيّة، بحق العرب، والشرق الأوسط، والأمّة، وبحق الإنسانيّة جمعاء.
“نؤمن بتعدّد الزوجات، أمّا تعدّد الثقافات واللغات والديانات والحضارات والحريّات فلا يشملنا!” عبارة تختصر مأساة الوعي في مجتمعاتٍ ترفع شعار المقاومة وتُسقطه عند أوّل اختلافٍ في الرأي.لم يحتجّ جمهور حزب الله في صيدا لأن أحدًا أساء إلى المقاومة، بل لأن النائب أسامة سعد تجرّأ على ممارسة حقّ التفكير النقدي داخل البيت الوطني. تلك الجريمة الكبرى التي لا تُغتفر في زمن “المقدّسات السياسيّة”. العصمة السياسيّة تحوّلت المقاومة في خطاب جمهورها من مشروع تحرير إلى عقيدةٍ مغلقةٍ لا تُمسّ.أيّ نقدٍ يُعتبر مسًّا بالرمز، وأيّ مراجعةٍ تُعدّ خيانة.لكن هل المقاومة، التي انطلقت من وجع الناس وكرامتهم، بحاجةٍ إلى مناعةٍ ضدّ النقد، أم إلى تطعيمٍ بالعقل؟أسامة سعد، ابن البيت الوطني العريق في صيدا، لم يفعل أكثر من محاولة تصويب البوصلة نحو خطابٍ وطنيّ جامع.لكن الردّ لم يأتِ بنقاشٍ فكريّ أو حوارٍ حضاريّ، بل بتخوينٍ علنيّ ووصمٍ جماعيّ، وكأنّ كلّ من لا يهتف مع القطيع هو بالضرورة في معسكر العدو.حين نقبل بتعدّد الزوجات ونرفض تعدّد الثقافات، فنحن لا ندافع عن الدين بل نغتاله بمنطقٍ ذكوريٍّ سياسيٍّ مقنّع. وحين نُجرّم التفكير المستقلّ، نُعلن رسميًّا نهاية المقاومة كفعلٍ تحرّري، ونحوّلها إلى أداة ضبطٍ اجتماعيّ وطاعةٍ سياسيّة.لقد تحوّل الجمهور — لا عن سوء نيّة بل عن غسيل وعيٍ مزمن — إلى حارسٍ على البوابة يمنع الهواء النقيّ من الدخول.كلّ ما لا يُشبهنا عدوّ، وكلّ ما يُخالفنا كفرٌ سياسيّ.بهذا المنطق لا تبقى مقاومة، بل طائفة مقاومة ضدّ الآخرين وضدّ نفسها. حرّيّة واحدة… لا أكثر من يؤمن بتعدّد الزوجات عليه أن يتعلّم أوّلًا كيف يتعامل مع تعدّد الأفكار.فالمجتمعات لا تنهض بكثرة الزوجات، بل بكثرة الأصوات.والمقاومة لا تكتمل بالنصر على العدو، بل بالقدرة على سماع المختلف من دون خوف. صيدا تقول لا في مدينةٍ كصيدا، التي عاشت كلّ وجوه الاحتلال والخذلان، يحقّ لها أن تكون صوت الوعي الأخير. من الطبيعي أن يخرج صوتٌ من داخلها يقول: نعم للمقاومة، لكن لا لعصمة المقاومين. نعم لحماية لبنان، لكن لا لتحويل السلاح إلى هويّة. أسامة سعد لم ينتقد المقاومة، بل أنقذها من التحجّر. قال ما لا يجرؤ كثيرون على قوله: إنّ المقاومة بلا مراجعة تتحوّل إلى سلطة، والسلطة بلا نقد تتحوّل إلى عبوديّة.
كثيرٌ منّا لا يعرفُ صلاحَ خلف، “أبو أحمد”. قد نكونُ صادفناه يومًا في أحدِ شوارعِ صيدا، وقد لا نكون.هو واحدٌ من عشراتٍ، بل مئاتٍ، مرّوا وسيمرّون بصمتٍ. لا نسمعُهم إلّا حين يُحدِثون صخبًا. وغالبًا ما يكونُ هذا الصخب – للأسف – على شكل مأساةٍ أو مُصابٍ، كحادثةٍ أو موتٍ أو فاجعة… منذ أيّامٍ، مات هذا العاملٌ المطمورٌ في بلديّة صيدا بعدما لفظتْه مستشفياتُ المدينة؛ لا لشيء، فقط لأنّه لم يكن يملك مالًا حين أصابَه عارضٌ صحّي. ولم يؤمن له المال حين داهمت قلبَه المتعب أزمةٌ لم يعد باستطاعتِه أن يتحمّل شدّتَها، فاستكان، تاركًا وراءه قصصًا كثيرةً تُشبهه. كلّنا ساهمنا في موتِ خلف. كلّنا قتلناه حين ارتضينا أن تكونَ صيدا وبلديّتُها على ما هي عليه اليوم، ونقف جانبًا متفرّجين ومنتظرين. لم يهتمّ خلف بتحالفاتِ القوى السياسيّة في المدينة، التي ركبت هذا المجلسَ المشوَّه الكئيب. لم يعنِه توزيعُ المهام واللجان والرئاسة وعملُ الصناديق، ولا “ولدنات” الوافدين على ملعبِ الشأن العام المتربّصين ببعضهم حد العداوة والحسد.جلُّ ما كان اهتمامُه أن يكون قادرًا على أخذِ حبّةِ دواءٍ حين يمرض يومًا، أو أن يدخل مستشفى إذا زادت وطأةُ المرض. لكن حتّى هذا الأمر لم تضمنْه له بلديّةُ صيدا، كحقٍّ محسوم. لا يمكنك أن تزرعَ حسًّا في جسدٍ لا يفقه معنى الشعور بالآخر. لا يمكنك أن تُنبِت فكرًا في عقلٍ لا يرى أبعد من سراب ظلِّ كرسي. ومهما تكن الأعذار، وتقاذفُ المسؤوليّات، وتبسيطُ المواضيع، والتسليمُ بقدرِ الله خيرِه وشرِّه، لو كان فيكم رجلٌ لما كانت الروايةُ كما سمعناها عن مأساةِ الفقيد. يجسّد خلف معاناةَ العشراتِ من أقرانِه العاملين في بلديّة صيدا بلا غطاءٍ صحّي، ولا ضمانٍ اجتماعيّ، ولا حتّى حسٍّ إنسانيّ يُذكّر القائمين على صندوق “الشحادة البلديّة” أنّ المال الذي تأخذونه من ميسوري المدينة يجب أن يُوزَّع على فقرائِها، بلا مَنّةٍ منكم ولا جميل… لا على سفراتِكم ونزواتِكم – عاطفيّةً كانت أم شخصيّةً أم مصلحيّة. فلا تستغربوا حين تسألون ولا تجدون أحدًا ليُشارِككم الذهابَ لأداء واجبِ العزاء بالميّت، فقد بتم خزيًا يستعِر منه، ويتجنّبه الناس. ولصندوقِ “التسوّل البلديّ”، الذي لم يُنقِذ خلف وهو مَلآن، قصاصٌ مستطيرٌ في القادم من الأيّام. فترقبوا…