في الزمنِ الذي كانتْ فيه “تِنكةُ الزَّيت” تُزيِّنُ أرففَ البيوتِ اللبنانيّةِ كرمزٍ للبركة، و”كيلو الزَّعْتَر” يجلسُ بجانبِها كقرينٍ للفقرِ الجميل، لم يكنْ أحدٌ يتخيَّلُ أنّ يومًا سيأتي يصبحُ فيه هذا الثنائيُّ الريفيُّ رمزًا للترفِ الاقتصاديّ اليوم، في مدينةِ صيدا، تُسجَّلُ تِنكةُ الزَّيت 200 دولار، وكيلو الزَّعْتَر 25 دولارًا، وكأنَّنا أمامَ عملةٍ رقميّةٍ مُشفَّرة لا تُمسُّ إلّا بشروطِ مصرفِ لبنان. لكنَّ الطرافةَ ليستْ في الأرقامِ وحدَها… بل في الخطابِ العاطفيِّ اللبنانيّ الذي ما زال يعيشُ في زمنِ الرغيفِ الساخن والزَّيت والزَّعْتَر على سطحِ “اللوح”.فما زالتْ بعضُ الأغنيات، وبعضُ القلوبِ أيضًا، تهمسُ ببراءةٍ: “بَعيشْ مَعَك عَالزَّيت والزَّعْتَر.” جميلةٌ العبارةُ، دافئةٌ النغمة… لكن في صيدا 2025، هذه الجملةُ لم تعُدْ وعدًا رومانسيًّا، بل خطّةً استثماريّةً مُغلَّفةً بالحب!فمَن يقولُها اليوم لا يُعلنُ زُهدَه، بل يُلوِّحُ بذكاءٍ اقتصاديّ “أنا مَعِك، بس بشرط… يكون عندِك مَخزون زَيت موسميّ وزَعْتَر بَلدي أصلي!” أصبحَ الزَّيتُ والزَّعْتَر اختبارًا للذاكرة: هل ما زالَ اللبنانيُّ قادرًا أنْ يعيشَ على الرموزِ التي تغنّى بها؟ أم أنَّ كلَّ لقمةٍ صارتْ معادلةً سياسيّةً وماليّة؟ المفارقةُ أنَّ الزَّيت والزَّعْتَر كانا يومًا رمزَ القناعةِ اللبنانيّة؛ طعامَ الفلّاحِ والصيّادِ والموظّفِ آخرَ الشَّهر. أمَّا اليوم، فقد تحوّلا إلى رمزٍ للتضخُّمِ الذهنيِّ والبطونِ الفارغة، وإلى سِلعتَين تتنافسانِ على الدُّخولِ في بورصةِ المشاعر. تسألُ سيّدةٌ خمسينيّةٌ في إحدى أسواق صيدا “يا ابني، تِنكةُ الزَّيت صارت أغلى من برميل نفط… يعني شو منعمل؟”فيجيبُها البائعُ مبتسمًا “ما باكُل زيت… معي كوليسترول! وما بَعبّي بنزين… لأن ما عندي سيارة!” تضحكُ المرأةُ وتمضي، لكنّها تعلمُ أنَّ الضحكَ صار وسيلةَ دفاعٍ نفسيّ في بلدٍ كلّما ارتفعَ فيه سعرُ اللِّتر، ارتفعتْ معه نسبةُ الفلسفةِ الشعبيّة. في الحقيقة، لا يمكنُ فصلُ هذه السخريةِ عن الواقعِ الاقتصاديِّ اللبنانيّ. فالأسعارُ لم تعُدْ مجرَّدَ أرقامٍ، بل مرآةً ساخرةً لخيباتٍ جماعية.أصبحَ الزَّيتُ والزَّعْتَر اختبارًا للذاكرة: هل ما زالَ اللبنانيُّ قادرًا أنْ يعيشَ على الرموزِ التي تغنّى بها؟ أم أنَّ كلَّ لقمةٍ صارتْ معادلةً سياسيّةً وماليّة؟ في صيدا اليوم، “تِنكةُ الزَّيت” لم تعُدْ تِنكة… بل حسابًا مصرفيًّا متحرّكًا، و”كيلو الزَّعْتَر” لم يَعُدْ طعامَ الفطور… بل استثمارًا في الذكريات. ولذلك، إذا سمعتَ مَن يقولُ لك بخجلٍ شاعريّ: "منعيشْ سوا عَالزَّيت والزَّعْتَر…" ابتسمْ بأدب، وقلْ لها: "شكلك فايتي عَ طَمَع… بس أكيد! خلّينا نعملْ دراسة جَدْوى قبل الحُب!"
حين يَختارُ الإنسانُ أن يَرى دون أن يُرى في زمنٍ تتكدّسُ فيه الصُّوَرُ على الشاشاتِ كما تتكدّسُ الوجوهُ في المدن، يُصبِحُ الغيابُ فعلًا صاخبًا بحدِّ ذاتِه. ليس كلُّ مَن لا يظهرُ على المنصّات يعيشُ في الظلّ؛ بعضُهم ببساطةٍ اختارَ أن يحتفِظَ بنورِه لنفسِه. هؤلاء الذين لا ينشُرون صُوَرَهم، لا يشاركون ملامحَهم، لا يطلبون “الإعجابات”، ولا يخوضون سباقَ الظهور، هُم اليوم ظاهرةٌ تستحقُّ قراءةً أعمق من مجرّد “تحفّظ” أو “خجل”.هذا الصمتُ الرقميّ هو، في جوهرِه، لغةٌ جديدة. إنّه حوارٌ بين الذاتِ والعالَم من دون وسطاء. فالإنسانُ الذي يتجنّبُ عرضَ وجهِه لا يهربُ من الوجود، بل يُعيدُ تعريفَ معنى الوجودِ في فضاءٍ بات يختزلُ الكينونةَ في صورةٍ مُربّعةٍ وإضاءةٍ مثالية. التحكُّم في الانكشاف: معركةٌ مع المرآةِ المفتوحة كلُّ صورةٍ تُنشَر هي شكلٌ من أشكالِ “الكشف”؛ انفتاحٌ طوعيّ أمام عيونٍ لا تُحصى، قد لا نعرِفُها ولا نثقُ بها. الصامتون رقميًا يشعرون بثِقل هذا الكشف. إنّهم يُدرِكون أن نشرَ صورةٍ يعني تسليمَ جزءٍ من الذاتِ إلى فضاءٍ عامٍّ لا يمكنُ استرجاعُه، وأنَّ كلَّ لقطةٍ تُصبحُ سجلًّا أبديًا في ذاكرةِ الإنترنت التي لا تنسى. لذلك، يتراجعون خطوةً إلى الوراء، ليس خوفًا من الضوء، بل احترامًا لحرمةِ الظلّ.في التحليل النفسيّ الحديث، يُنظَر إلى هذا الانسحاب على أنّه تعبيرٌ عن رغبةٍ في السيطرةِ على السردِ الشخصي. فمَن ينشُر صورتَه يُسلِّم زمامَ صورتِه لعدساتِ الآخرين، أمّا مَن يصمتُ فهو يكتبُ فصلًا خفيًّا في كتابِ الذات، بلا شهودٍ ولا جمهور. الصمتُ الرقميّ في جوهرِه، لغةٌ جديدة. فالإنسانُ الذي يتجنّبُ عرضَ وجهِه لا يهربُ من الوجود، بل يُعيدُ تعريفَ معنى الوجودِ في فضاءٍ بات يختزلُ الكينونةَ في صورةٍ مُربّعةٍ وإضاءةٍ مثالية بين التقييمِ والنجاةِ من المقارنة ثمة جانبٌ آخر في الصمت الرقميّ أعمقُ من فكرةِ الخصوصية. إنّه رفضٌ للانخراطِ في سوقِ المقارنات التي تحكُم المنصّات. فالعَينُ البشريّة حين تتجوّلُ بين الصور لا ترى وجوهًا بقدر ما تُجري حساباتٍ غير واعية: مَن يبدو أسعد، أجمل، أنجح. هذا الضغطُ الخفيّ هو ما يجعل بعضَ العقولِ الحسّاسة تختارُ الانسحابَ حفاظًا على توازنِها الداخليّ.إنّهم لا يريدون أن تُقاسَ قيمتُهم بعددِ الإعجابات أو جودةِ الإضاءة. هم مَن يُدرِكون أنّ الأنا الرّقميّة تنمو على مائدةِ الجمهور، فتفقدُ شيئًا من صدقِها كلما ازداد نهمُها للظهور. لذلك، يُصبحُ الامتناعُ عن النشرِ فعلًا علاجيًا — رفضًا جماعيًا لمعادلة: “أنا أُشارِك، إذن أنا موجود”. هُويَّةٌ بلا صورة: تمرُّدٌ ناعمٌ على ثقافةِ العرض الذين لا ينشرون صورَهم لا يختفون، بل يختارون شكلًا آخر للوجود: وجودًا ذهنيًا، فكريًا، أو كتابيًا. في عالمٍ يربطُ الحضورَ بالصورة، يُصبحُ الامتناعُ عن الصورةِ تمرّدًا ناعمًا، إعلانًا غير صاخبٍ بأنّ الإنسانَ ليس مجرّد ملامحٍ يمكنُ تجميعُها في إطار.علمُ النفسِ الرمزيّ يقرأُ هذا السلوكَ كبحثٍ عن حرّيةٍ من التشييءِ البصري — عن استعادةِ العلاقةِ الأصليّة بين الذاتِ والعَين. فالذي لا يظهرُ لا يُحاكَم، ولا يُعلَّق عليه، ولا يُختصر. هو يعودُ إلى نقطةِ البدء، حيث يمكنُ للإنسان أن يكون، ببساطة، كما هو، بلا جمهورٍ ولا فلاتر ولا توقيتٍ للنشر. الذاكرةُ الرقميّة والقلقُ من الديمومة يعيشُ جيلُ اليوم داخلَ أرشيفٍ رقميٍّ لا يزول. كلُّ صورةٍ، كلُّ منشورٍ، هو طبقةٌ من الماضي تبقى عالقةً في الحاضر. هذا الوعيُ بالتاريخيّةِ الجديدة للحظة يجعل البعضَ يتردّد قبلَ الضغطةِ على زرِّ “النشر”. إنّهم يخافون أن تُجمَّدَ اللحظةُ إلى الأبد، أن تفقدَ عفويتَها حين تُحفَظ في سحابةٍ إلكترونية، أن تتحوّلَ حياتُهم إلى معرضٍ مُؤرشَف بدلَ أن تكونَ تجربةً حيّة.من منظورٍ نفسيّ، هذا القلقُ من “التثبيت الرقمي” هو شكلٌ من أشكالِ مقاومةِ المستقبل الزائف الذي تصنعُه المنصّات. هو دفاعٌ غريزيّ عن الزمنِ الحقيقيّ، عن اللحظةِ التي لا تُعاد. السكينةُ كاختيارٍ معاصر في نهايةِ التحليل، لا يمكنُنا أن نقرأَ الصمتَ الرقميَّ كعلامةٍ على الانعزالِ فقط. إنّه أيضًا مظهرٌ من مظاهرِ النضج. فأن تختارَ الصمتَ وسطَ ضجيجِ المنصّات، يعني أنك وجدتَ مساحةً أعمقَ للتواصل مع نفسِك. أن تقولَ “لا” للعرض لا يعني رفضَ الحياة، بل رغبةً في عيشِها بعيدًا عن أعينِ العالم.تلك ليست عزلةً، بل هدوءٌ محسوب. ليست انطواءً، بل وعيًا بأنّ الإنسانَ لا يحتاجُ أن يُرى كي يكونَ حقيقيًّا. الحضورُ الذي لا تُلتقَطُه عدسة. قد يبدو الغيابُ في عالمِ الصورِ نوعًا من التلاشي، لكنّه في جوهرِه حضورٌ آخر — حضورٌ لا يعتمدُ على الضوء، بل على العُمق. الصمتُ الرقميُّ ليس فراغًا، بل لغةً جديدة تُعبّرُ بها النفوسُ التي سئمت أن تُقاسَ بمرآةِ الآخرين. في عصرٍ يعجُّ بالصور، مَن يختارُ ألّا يظهر، يُعلِنُ بطريقتِه أنَّ جوهرَ الإنسانِ لا يمكنُ اختزالُه في شاشة. وربما، في النهاية، هؤلاء الصامتون رقميًا هم مَن فهموا المعادلةَ الأعمق: أن أصدقَ صورةٍ للذات، هي تلك التي لم تُنشَر بعد.
تشهد مدينة صيدا منذ نحو أسبوع تحرّكات أمنية متفرّقة لضبط فوضى الدراجات النارية المنتشرة في شوارعها. فقد نفّذت القوى الأمنية حواجز ميدانية أفضت إلى احتجاز عدد من الدراجات، بينها دراجات كانت متوقفة قرب مدارس وجامعات، وذلك على مدى يومين متتاليين خطوات محدودة في موازاة ذلك، رفعت الشرطة البلدية لافتات في محيط الملعب البلدي تُحذّر من توقيف الدراجات النارية على الأرصفة تحت طائلة الحجز.ويشير مصدر مقرّب من الشرطة البلدية إلى أنّ الأخيرة تنتظر تنسيقاً عملياً مع القوى الأمنية لبدء حجز الدراجات المخالفة في المنطقة.وعلى الرغم من أنّ هذا التحرّك يأتي بعد وعود انتخابية أطلقتها اللوائح البلدية بتنظيم سوق الدراجات النارية، فإن المدينة لم تشهد حتى الآن خطة شاملة أو إجراءات جذرية تحدّ من الفوضى التي خلّفت ضحايا وإصابات شبه يومية خلال السنوات الماضية. خلاف قانوني وصلاحيات يتداول ناشطون ومتابعون للشأن العام في صيدا رواية تتعلق بغياب رؤية موحّدة بين السلطات المحلية والمركزية. فبحسب مصادر، يُصرّ محافظ الجنوب منصور ضو على تطبيق قرار صادر عام 1999 يقضي بمنع سير الدراجات النارية داخل صيدا، وهو قرار اتُخذ بعد جريمة اغتيال القضاة الأربعة في قصر العدل.في المقابل، ترى بلدية صيدا أن الحل يكمن في تنفيذ قانون السير، ولا سيما ما يتعلق بتسجيل الدراجات والتزام السائقين بالخوذة واحترام القواعد المرورية. بداية الحل بإلغاء قرار 1999 عضو المجلس البلدي وائل قصب يؤكد لـ”البوست” أنّ الأزمة الاقتصادية دفعت شريحة واسعة من المواطنين لاستخدام الدراجات النارية للتنقّل، فيما اعتمدت شركات تجارية كثيرة عليها في عملها.ويلفت إلى أنّ غياب خطة واضحة وارتفاع كلفة التسجيل جعلا كثيرين يحجمون عن تسجيل دراجاتهم، ما أدى إلى انتشار الدراجات غير القانونية. ويضيف “أرى أن البداية تكون بإلغاء القرار الإداري المتخذ منذ 26 عاماً، والتشدّد في تنفيذ قانون السير الذي يحدّد شروط تسجيل وقيادة الدراجات. القانون يتيح للبلدية، بمؤازرة القوى الأمنية، تطبيق الإجراءات اللازمة أسوة بمناطق أخرى”.ويؤكد أن المشكلة ليست في رفض الناس للقانون، بل في حاجتهم للدراجات في ظل الظروف الاقتصادية القاسية، داعياً محافظ الجنوب إلى إلغاء القرار القديم، ووزير الداخلية أحمد الحجار إلى التدخل لتطبيق القانون. غياب التنسيق من جهته، يرى ناشطون في المجتمع المدني أنّ المشكلة الأساسية تكمن في غياب التنسيق بين الجهات المعنية، ما يساهم في استمرار الفوضى بدل العمل على تنظيمها.ويشدّد هؤلاء على ضرورة اعتماد مقاربة عملية تضمن استمرار حياة الناس وتطبيق القانون تدريجياً، من خلال تسجيل الدراجات والتزام معايير الأمان. أمام هذه الوقائع، تبقى صيدا ومحيطها أسيرة فوضى الدراجات النارية، بانتظار خطة عملية تشارك فيها بلدية صيدا والسلطات المركزية، بما يضمن حماية المواطنين ويؤمّن الحد الأدنى من النظام والسلامة. فهل يبادر وزير الداخلية إلى وضع إطار تنفيذي واضح، أم تبقى الإجراءات شكلية لا تتجاوز البيانات الإعلامية؟