لطالما انقَسَمَ المَشهَدُ الفِكريُّ والأكاديميُّ بينَ ما يُمكنُ اعتباره “ثَقافتين” أَساسيتين: الثَّقافةُ “الأدَبيَّةُ” الَّتي تَشمَلُ الفُنونَ والفَلسفةَ والتَّاريخ، والثَّقافةُ “العِلميَّةُ” الَّتي تَقودُ إلى الطِّبِّ والهَندسةِ والعُلومِ البَحتة. تَبدو هذِه الثُّنائيَّةُ، الَّتي شَكَّلَت أَساسَ النُّظُمِ التَّعليميَّةِ الحَديثة، اليَومَ قاصِرَةً بِشَكلٍ مُتَزايدٍ أَمامَ ثَورةٍ مَعرفيَّةٍ جَديدةٍ يَقودُها الذَّكاءُ الاصطناعيُّ. نَحنُ على أَعتابِ ما يُمكنُ تَسميتُه بـ “الثَّقافةِ الرَّابعة”، وهي لَيسَت مُجرَّدَ امتدادٍ لِلثَّقافاتِ السَّابقةِ، بَل هِي بُنيَةٌ جَديدةٌ تُذيبُ الفَواصلَ التَّقليديَّةَ بَينَ المَعارفِ، وتُعيدُ طَرحَ الأَسئِلةِ الوُجوديَّةِ الكُبرى: مَن يَملِكُ المَعرِفَة؟ ومَن يَملِكُ السُّلطةَ في عَصرِ الآلةِ الذَّكيَّة؟ إعادةُ بَناءِ هَندسةِ الوَعيلِفَهمِ عُمقِ التَّحوُّلِ الَّذي نَعيشُه، لا بُدَّ مِن العَودةِ إلى الجُذورِ التَّاريخيَّةِ لِلنِّقاش. في عامَ 1959، أَلقى العالِمُ والرِّوائيُّ البِريطانيُّ سي. بي. سْنو (C.P. Snow) مُحاضَرَتَهُ الشَّهيرةَ بعنوان “الثَّقافتان والثَّورةُ العِلميَّة”، حيثُ حَذَّرَ مِن “هُوَّةٍ مِن سُوءِ الفَهمِ المُتبادَلِ” بَينَ المُثقَّفينَ الأَدَبيِّينَ والعُلَماءِ. رَأى سْنو أنَّ هذا الانقِسامَ يُعيقُ قُدرَةَ المُجتَمَعِ على مُواجَهَةِ التَّحدِّياتِ الكُبرى.“مَرَّاتٍ عَديدة، كُنتُ حاضِراً في تَجَمُّعاتٍ لأَشخاصٍ، بِمَعاييرِ الثَّقافةِ التَّقليديَّةِ، يُعتَبَرونَ على دَرَجَةٍ عالِيَةٍ مِنَ التَّعليمِ، وكانوا يُعَبِّرونَ بِحَماسٍ عن عَدمِ تَصديقِهِم لأُمِّيَّةِ العُلَماءِ. في إحدَى المَرَّاتِ، استفزَزتُ وسَألتُ الحاضِرينَ كَم مِنهُم يَستطيعُ وَصفَ القانونِ الثَّاني لِلدِّيناميكا الحَراريَّة. كانَ الرَّدُّ بارِداً: وكانَ سَلبِيّاً أَيضاً. ومَعَ ذلِكَ، كُنتُ أَسأَلُ شَيئاً يُعادِلُ عِلمِيّاً: هَل قَرأتَ عَمَلاً لِشِكسبير؟”بَعدَ عُقودٍ، وتَحديداً في عامَ 1995، جاءَ جون بروكمان (John Brockman) ليَطرَحَ مَفهومَ “الثَّقافةِ الثَّالِثة” في كِتابِه الَّذي يَحمِلُ نَفسَ الاسم. رَأى بروكمان أنَّ جيلاً جَديداً مِنَ العُلَماءِ والمُفكِّرينَ بَدأوا يَتَجاوَزونَ هذا الانقِسامَ، مِن خِلالِ مُخاطَبَةِ الجُمهورِ مُباشَرَةً وشرحِ أَفكارِهِم العِلميَّةِ بِلُغةٍ مَفهومةٍ، لِيَحُلُّوا مَحلَّ المُثقَّفينَ التَّقليديِّينَ كَصُنَّاعٍ لِلثَّقافة.اليَومَ، يَتَجاوَزُ الذَّكاءُ الاصطناعيُّ دَورَ الأَداةِ المُساعِدةِ أَو حَتَّى مَوضوعَ النِّقاشِ. إنَّهُ يَفرِضُ نَفسَهُ كَبُنيَةٍ تَحتِيَّةٍ سِياسيَّةٍ وثَقافيَّةٍ واقتِصاديَّةٍ مُتكامِلَةٍ، مِمَّا يَجعَلُ “الثَّقافةَ الرَّابعةَ” ضَرورَةً وُجوديَّةً لِمُساءَلةِ هذا التَّحوُّلِ الجَذريِّ وفَهمِ أَبعادِهِ العَميقَة. مدينة تستحق أن تكون مركزًا معرفيًا متطورًا.. تحوّلت إلى حي فقير رقميًا بَينَ بروميثيوس وفاوست: القَرارُ السّياسيُّ في عصرِ الخوارزميّاتِ في نِهايةِ المطافِ، يَعودُ بِنا النِّقاشُ إلى استعاراتٍ كلاسيكيّةٍ تُلخِّصُ المأزِقَ البَشريَّ أمامَ القُوّةِ السّاحِقةِ. هل نَسمَحُ للذّكاءِ الاصطناعيِّ أنْ يكونَ “بروميثيوس” الجديدَ، الّذي يَسرِقُ النّارَ (المَعرِفةَ) مِن الآلِهةِ (الطّبيعةِ) ويَمنَحُها للبشريّةِ، فاتِحاً عصراً جديداً مِن النّورِ والازدهارِ؟ أم أنَّنا سَنُكرِّرُ مَأساةَ “فاوست”، الّذي باعَ رُوحَهُ للشّيطانِ (مفيستوفيليس) مُقابِلَ المَعرِفةِ المُطلَقةِ والسّلطةِ المُؤقّتةِ، ليَكتَشِفَ في النّهايةِ أنَّ الثّمنَ كان باهِظاً؟ هذا السّؤالُ ليس مُجرَّدَ تَرَفٍ فلسفيٍّ، بل هو سُؤالٌ سياسيٌّ بِامتيازٍ. إنَّ المُستقبَلَ لن تُحدِّدَهُ الخوارزميّاتُ وحدَها، بل سَتُحدِّدُهُ الإرادةُ السّياسيّةُ للمُجتمعاتِ والأفرادِ. الخِياراتُ الّتي نَتَّخِذُها اليومَ حولَ كيفيّةِ تَطويرِ الذّكاءِ الاصطناعيِّ، وتنظيمِه، وتَوزيعِه، سَتُشكِّلُ عالَمَ الغَدِ. هل سَنبني أنظِمَةً تُعزِّزُ الكرامةَ الإنسانيّةَ والعدالةَ والحُرّيّةَ، أم أنظِمَةً تُكرِّسُ الهيمنةَ والرّقابةَ وعَدمَ المُساواةِ؟ إنَّ صِياغةَ ثقافةٍ رابعةٍ لا تُدارُ مِن الخارجِ، بل تُنتَجُ مِن الدّاخلِ، وتَخدِمُ الإنسانَ بدلاً مِن أنْ تَستَعبِدَهُ، هو التّحدّي الأكبرُ الّذي يُواجِهُ جيلَنا. إنَّهُ يَتطلَّبُ رُؤيةً بعيدةَ المَدى، وشَجاعةً أخلاقيّةً، وقَراراتٍ سياسيّةً حاسِمةً. تَنويرٌ جَديدٌ أَم سِلاحُ هَيمَنة؟إِنْ كانَتِ الطِّباعةُ قد أَشعَلَت شَرارةَ الحَداثةِ الأُوروبيَّةِ مِن خِلالِ دَمجْرَطَةِ المَعرِفَةِ، فَإِنَّ الذَّكاءَ الاصطناعيَّ يُشعِلُ ثَورةً جَديدةً ذاتَ طَبيعةٍ مُزدَوَجةٍ. إِنَّهُ، في آنٍ واحِدٍ، أَداةُ تَنويرٍ وسِلاحُ سَيطَرَةٍ، مِمَّا يَجعَلُهُ أَكثَرَ تَعقيداً وخُطورَةً مِن أَيِّ تِقنيَّةٍ سابِقَة. يُعيدُ الذَّكاءُ الاصطناعيُّ تَعريفَ حُدودِ الإبداعِ البَشريِّ، ويَفتَحُ آفَاقاً جَديدةً في البَحثِ العِلميِّ، ويُغيِّرُ طَبيعَةَ العَمَلِ والهُويَّةِ الفَرديَّةِ والجَماعيَّة. في المُقابِلِ، يُستَخدَمُ كَأداةٍ في الحُروبِ الحَديثةِ، والرَّقابَةِ الشَّامِلَةِ، وإِعادةِ تَشكيلِ خَرائِطِ النُّفوذِ الدَّوليِّ، مِمَّا يُمَنِّحُ الدُّوَلَ والشَّركاتِ الَّتي تُسيطِرُ عَلَيهِ قُوَّةً غَيرَ مَسبوقَة. تَتَجلَّى هذِه المُفارَقَةُ بِوُضوحٍ في التَّناقُضِ بَينَ الرُّوبوتِ الجَرَّاحِ الَّذي يُنقِذُ الأَراوِحَ بِدِقَّةٍ فائِقَة، والطَّائِرَةِ المُسَيَّرَةِ الَّتي تُدارُ بِخَوارِزميَّاتٍ قِتاليَّةٍ لِاتِّخاذِ قَراراتِ الحَياةِ والمَوتِ بِشَكلٍ مُستَقِلٍّ. هُنا، تَتَجلَّى المَعضِلَةُ الأَساسيَّةُ لِلثَّقافةِ الرَّابعةِ: كَيفَ يُمكِنُ تَسخيرُ قُوَّةِ المَعرِفَةِ لِخِدمةِ الإنسانيَّةِ، مَعَ كَبحِ جِماحِ التِّقنيَّةِ كَوَسيلَةٍ لِلهَيمَنَةِ والدَّمار؟ مِنَ العِيادَةِ إلى البُورصَةِ وساحَةِ المَعرَكَةيَتَغَلغَلُ الذَّكاءُ الاصطناعيُّ في كُلِّ مَفاصِلِ الحَياةِ المُعاصِرَةِ، مُزيلاً الحُدودَ الفاصِلَةَ بَينَ المَجالاتِ الَّتي كانَت تَبدو مُنفَصِلَةً في السّابِق. في الطِّبِّ، تَقومُ أَنظِمَةُ الذَّكاءِ الاصطناعيِّ بِتَشخيصِ الأَمراضِ بِدِقَّةٍ تَفوقُ أَحياناً دِقَّةَ الأَطبَّاءِ البَشرِ، وتَحلِيلِ الصُّوَرِ الطِّبيَّةِ، واقتِراحِ خُطَطٍ عِلاجيَّةٍ مُخصَّصَة. وفي الاقتِصادِ، تَتحكَّمُ الخَوارِزميَّاتُ في أَسواقِ المالِ العالَميَّةِ، وتَتَّخِذُ قَراراتِ بَيعٍ وشِراءٍ في أَجزاءٍ مِنَ الثَّانِيَةِ، مِمَّا يُثيرُ تَساؤُلاتٍ جِدِّيَةً حَولَ سِيادَةِ الدُّوَلِ على اقتِصاداتِها وقُدرَتِها على مُواجَهَةِ الأَزماتِ المَالِيَّةِ الَّتي قَد تُسَبِّبُها هذِه الأَنظِمَة. أَمَّا في السِّياسَةِ الدُّوليَّةِ، فَقَد تَحَوَّلَ الذَّكاءُ الاصطناعيُّ إلى ساحَةِ صِراعٍ جِيُوسياسيٍّ مُحتَدِم. تُخاضُ واشِنطُن وبِكين سِباقاً شَرساً لِلسَّيطَرَةِ على بَراءاتِ الاخترَاعِ، وتَصنيعِ الرَّقائِقِ الإلكتُرونيَّةِ المُتَقَدِّمَةِ، ووَضعِ المَعاييرِ العالَميَّةِ لِهذِه التِّقنيَّة. في غُضونِ ذلِكَ، يُحاوِلُ الاتِّحادُ الأُوروبيُّ فَرضَ أُطُرٍ قانونيَّةٍ وأَخلاقيَّةٍ تَهدِفُ إلى الحَدِّ مِن “تَغَوُّلِ” الشَّركاتِ التِّكنولوجيَّةِ العِملاقَةِ وضَمانِ استِخدامٍ مَسؤولٍ لِلذَّكاءِ الاصطناعيِّ. تَصِلُ هذِه التَّقاطُعاتُ إلى ذِروَتِها في ساحَةِ المَعرَكَة. في النِّزاعاتِ الحَديثَةِ، مِن أُوكرانيا إلى غَزَّة، لَم يَعُدِ القَرارُ العَسكَريُّ مَحصوراً بِالقِياداتِ البَشَريَّة. أَصبَحَتِ القَراراتُ المُتَعَلِّقَةُ بالاستِهدافِ، وتَقييمِ المَخاطِرِ، وتَحديدِ احتِمالاتِ الرِّبحِ والخَسارَةِ، مَشروطَةً بِشَكلٍ مُتَزايدٍ بِما تُقترِحُهُ الخَوارِزميَّات. هَذا الواقِعُ الجَديدُ، الَّذي يُطلِقُ عَلَيهِ البَعضُ “الحَربَ الخَوارِزميَّة” (Algorithmic Warfare)، يُطمِسُ الخُطوطَ الفاصِلَةَ بَينَ الطِّبِّ (إِنقاذِ الأَراوِح) والحَربِ (إِزهاقِها)، وبَينَ الاقتِصادِ (حِساباتِ الرِّبحِ والخَسارَة) والأَمنِ القَوميِّ، وبَينَ الثَّقافَةِ (القِيمِ والأَخلاق) والسُّلطةِ (القَرارِ السِّيادِيِّ). مَن يَكتُبُ الوَعيَ الجَمعيّ؟لعلَّ السّاحةَ الأكثرَ خُطورَةً وتأثيراً في عصرِ الثّقافةِ الرّابعةِ هي الإعلامُ وكيفيّةُ تشكيلِ الوعيِ الجمعيّ. لم تَعُدْ منصّاتُ التّواصُلِ الاجتماعيِّ مُجرَّدَ فضاءاتٍ مُحايدةٍ للتّعبيرِ والنّقاشِ، بل تَحوَّلَتْ إلى بُنى تحتيّةٍ معرفيّةٍ تَهيمنُ عليها خوارزميّاتُ التّوصيةِ (Recommendation Algorithms). هذه الخوارزميّاتُ لا تَعرضُ لنا العالَمَ كما هو، بل نُسخةً مُخصّصةً ومُفلترةً منه، مُصمَّمةً لإبقائِنا مُنخرطينَ لأطوَلِ فترةٍ مُمكنةٍ. هي تُحدِّدُ ما نَعرِفُه وما نَجهَلُه، ما نَراهُ مُهمّاً وما نَتجاهَلُه، وبالتّالي تُشكِّلُ تَصوّراتِنا عن الواقِعِ. يَزدادُ الأمرُ تَعقيداً مع ظُهورِ الذّكاءِ الاصطناعيِّ التّوليديِّ (Generative AI). الأخبارُ والتّحليلاتُ والمُحتوى المرئيُّ والمسموعُ يُمكِنُ الآنَ إنتاجُها بشكلٍ آليٍّ وبتكلفةٍ زهيدةٍ، ممّا يَفتحُ البابَ أمامَ فَيضٍ من المعلوماتِ المُضلِّلةِ والدّعايةِ المُوجّهةِ الّتي يَصعُبُ التَّحقُّقُ منها. النّتيجةُ هي تآكُلُ الثّقةِ في مَصادرِ المعلوماتِ التّقليديّةِ ونُشوءُ “فُقاعاتِ تَصفيةٍ” (Filter Bubbles) و”غُرفِ صدىً” (Echo Chambers) تُعزِلُ الأفرادَ داخِلَ رُؤاهم الخاصّةِ للعالَمِ، مِمّا يُغذّي الاستقطابَ السّياسيَّ والاجتماعيَّ. باتَ الوَعيُ الجَمعيُّ في القَرنِ الحادي والعِشرين خاضعاً لِمِلكيّةٍ غيرِ مُعلَنةٍ، تَتَقاسَمُها شَركاتُ التّكنولوجيا الكُبرى الّتي تُطوِّرُ هذه الخوارزميّاتِ، والدّولُ الّتي تَسعى لاستِغلالِها كأدواتٍ للقُوّةِ النّاعِمةِ والتّأثيرِ الجيوسياسيِّ. السّؤالُ لم يَعُدْ: “مَن يَملِكُ وسائلَ الإعلام؟” بل “مَن يَملِكُ الخوارزميّاتِ الّتي تُديرُ تدفُّقَ المعلوماتِ العالَميّ؟”. الخِيارُ العَربيُّ بَينَ التّبعيّةِ التِّقنيّةِ والسّيادةِ الرَّقميّةفي هذا السّياقِ العالَميِّ المَحمومِ، تَبدو الثّقافةُ الرّابعةُ في العالَمِ العربيِّ ليست تَرَفاً فكريّاً، بل مَسألةَ سيادةٍ ومُستقبَلٍ. الخَياراتُ المطروحةُ أمامَنا تَتجاوزُ مُجرَّدَ استيرادِ التّكنولوجيا؛ إنّها تَتعلَّقُ بتحديدِ مَوقعِنا
في بلدٍ يُفترض أن تكون فيه المعاملة حقًّا، تحوّلت أبواب الدوائر الحكومية إلى متاهةٍ من الطوابير والوساطات و”بدل تسريع”، تُدار على هامش القانون. من سمسرة الطوابع وافتعال ندرتها، إلى شبكات معقّبي المعاملات والموظفين المرتشين، يعيش المواطن والمقيم ابتزازًا يوميًّا يضرب الثقة بالدولة ويهدر المال العام. ومع أن الحل معروف وقد أُقرّ عنوانه في مجلس الوزراء: المكننة الشاملة والشفافية الرقمية، إلا أنّ السؤال يبقى: لماذا تعطّلت؟ وإلى متى؟ الإشكالات بالدليلمافيات الطوابع واحتكار حاجات الناس لم تعد سرًّا. تقرير ديوان المحاسبة عام 2024 كشف سوقًا سوداء منظّمة للطوابع، متَّهَمة فيها حتى بعض الجهات المخوّلة بالبيع، بتحقيق أرباح غير مشروعة قاربت 20 مليون دولار خلال عامين فقط، بسبب ندرة مُدبَّرة. أصل الحكاية قديم: فوزارة المالية أعلنت أواخر 2022 رسميًّا أنّ الاحتكار واقع يعيشه المواطنون على شبابيك الدولة، ولتفادي التلاعب أقرت تعليق بعض فئات الطوابع. ومن هنا عاد النقاش حول البديل: الطابع الإلكتروني. دهاليز ومغاور المعاملاتفي آب/أغسطس 2025، فكّكت “شعبة المعلومات” في قوى الأمن الداخلي شبكة تزوير أختام لبنانية وسورية، تورّط فيها معقّبو معاملات ومكاتب ترجمة، ما أظهر تداخل “التعقيب” مع تزوير وثائق رسمية. أما القضاء فلاحق بعض معقّبي المعاملات بتهمة التدخل في الإثراء غير المشروع في قضايا السجل العقاري، كاشفًا كيف تحوّلت الخدمة غير النظامية إلى جزء من الجريمة الأصلية.على المقلب الآخر، ارتشى موظفون وعُطِّلت مرافق عامة كالسجل العقاري في صيدا وجبل لبنان (بعبدا) حيث ظهر نموذج فاضح للفساد. التحقيقات طاولت 124 موظفًا، نتج عنها توقيفات بالعشرات، إقفال إدارات لأشهر، وتعطيل عشرات آلاف المعاملات مع خسائر ضخمة للخزينة. في بلدٍ يُفترض أن تكون فيه المعاملة حقًّا، تحوّلت أبواب الدوائر الحكومية إلى متاهةٍ من الطوابير والوساطات و”بدل تسريع”، تُدار على هامش القانون شهادة من الميدانيروي (م.ح) أنّه تقدّم مطلع 2024 إلى السجل العقاري في سراي صيدا بطلب سند ملكية، مع أوراق مكتملة. فجاءه الجواب: “تعى بعد شهرين”، بذريعة أن المعاملة “نازلة على بيروت”. فهم الرسالة: المطلوب رشوة. رفض الابتزاز، لكن بعد أيام تواصل معه معقّب معاملات عارضًا إنجاز الملف مقابل 1500 دولار “لتوفير” أكثر من 4000 دولار يُفترض أن تذهب إلى خزينة الدولة. المشهد ذاته يتكرر في دوائر المالية حيث تُدفع رشى للمراقبين لتسهيل التهرب الضريبي لأصحاب الشركات والمصالح. أين وصلت المكننة؟ ولماذا تعثّرت؟في 12 أيار/مايو 2022، أقرّ مجلس الوزراء «استراتيجية التحوّل الرقمي 2020–2030» كخارطة طريق رسمية. ثم أُقرّ في شباط/فبراير 2024 مرسوم المستندات والتواقيع الإلكترونية، خطوة تمهيدية ضرورية للخدمات الرقمية. لكن التنفيذ ما زال متعثّرًا بفعل عقبات تنسيقية وتمويلية وتشريعية، بحسب تقييمات دولية، رغم نجاح جزئي لتجارب منصّات (IMPACT وDAEM) التي أثبتت أن الرقمنة ممكنة حين تتوافر الإرادة. الحل البنيوي: إطلاق الطابع الإلكتروني (E-Stamp): منصة رقمية مع رصيد مدفوع مسبقًا، مرتبطة مباشرة بوزارة المالية مع كود تحقق، لإنهاء الندرة المصطنعة وإقفال السوق السوداء.هوية رقمية وتوقيع إلكتروني: ربط المواطن والمقيم والمنشآت بخدمات إلكترونية بلا ورق أو حضور.رقمنة مسارات السجل العقاري والدوائر الأساسية: نظام حجز دور وتتبع ملفات مع زمن خدمة مُلزِم (SLA) وسجل تدقيق.الدفع الإلكتروني والتحصيل الموحّد: إلغاء الدفع النقدي على الشبابيك واعتماد بوابات دفع مرخّصة مع إيصالات فورية.توسيع نجاح منصّات IMPACT وDAEM: نقل النماذج الناجحة إلى خدمات يومية مثل إخراج القيد، رخص البناء، والسجل العدلي. كل دقيقة ضياع في طابور ورقي تساوي ليرة فساد إضافية وسلطةً لوسيط على حساب الدولة. توقيف المخالفين واجب آني، لكن المكننة الشاملة وحدها تضمن ألا تعود الشبكات بوجوه جديدة. لدينا استراتيجية مُقرّة، مرسوم للتوقيع الإلكتروني، وتجارب منصّات ناجحة؛ ينقصنا فقط إرادة سياسية، تمويل محكم، وحوكمة تحاسب—حتى يعود المواطن إلى نافذة الدولة الرقمية، لا إلى يد السمسار.
مَرّةً جديدةً، تَتقدَّمُ المُبادَراتُ الفَرديّةُ في صَيدا لسد التقصير المسجل بحق العَملِ البَلديِّ المُؤسَّساتيِّ. ما كانَ المَجلِسُ البَلديُّ السّابِقُ قد باشَرَ العَملَ بِه وأنجَزَهُ بشكلٍ فَعّالٍ، لكنَّهُ تَوَقَّفَ مع وُصولِ المَجلِسِ الجَديدِ لأسبابٍ غير “مَفهومةٍ”، يعود اليَومَ إلى الانطِلاقِ مِن جديدٍ للتَّعاطي مع واحِدةٍ مِن مُشكلاتِ المدينةِ الّتي تَفاقَمَت في الفَترةِ الأخيرةِ وأفرَزَت مَجموعةً مِن الأحداثِ الدامية والمُؤسِفةِ وشَغَلَت بالَ المُواطِنينَ. فقد عَلِمَت “البوست” مِن مَصادِرَ مُطَّلِعةٍ أنَّ أحَدَ “المُبادِرينَ” الّذينَ انخَرَطوا بالعَملِ بِفَعاليّةٍ مؤخَّراً على السّاحةِ الصَّيداويّةِ، والذي للمفارقة المضحكة/المبكية هو عضو بالمجلس الحالي، قد تَكفَّلَ على عاتِقِهِ بتكاليفِ مُعاوَدةِ العَملِ بموضوعِ المأوى المُخصَّصِ للحَجرِ على “الكِلابِ الشّارِدةِ” والّذي يَقَعُ على أرضٍ تابعةٍ للبَلديّةِ قُربَ مَعمَلِ النّفاياتِ. في هذا الإطارِ، يُتَوقَّعُ خِلالَ أيّامٍ قليلةٍ الإعلانُ عن إعادةِ تَنظيمِ العَمليةِ المَطلوبةِ بِرمَّتِها والانتهاءِ مِن بِنَاءِ “الهَنجار” المُخصَّصِ للكِلابِ، وفَريقِ المُتابَعةِ المَعنيِّ بأمورِهِم، ليُشكِّلَ بِذلكَ أَكبَرَ مأوى لحَجرِ الكِلابِ الشّارِدةِ ضِمنَ بَلديّاتِ لُبنانَ كَكُلٍّ. خُطوةٌ مُهمّةٌ تُسجَّلُ لِصاحِبِها، لكن لا تُعفى مِن السّؤالِ: إلى مَتى سَيَتكفَّلُ أفرادٌ بالعَملِ نِيابةً عن هَياكِلَ مُؤسَّسيّةٍ مِن المُفترَضِ أنّهُ تَمَّ انتخابُها لِتَسييرِ شُؤونِ المُواطِنينَ والسَّهرِ على مَصالِحِهِم؟ ويبقى الأمل أن تصبح صيدا قريباً، مدينةً خالية من الكلاب..حتى غير الشاردة.