“مَن ينسى التاريخَ محكومٌ عليه أن يعيشه مرةً أخرى”جورج سانتايانا في عام 1492، لم تكن قطرةُ الماء مجرّد عنصرٍ طبيعيّ في البيوت الأندلسيّة، بل صارت شاهدَ إثباتٍ على الحياة أو الموت. هكذا كانت محاكمُ التفتيش الإسبانيّة تُراقب أدقَّ تفاصيلِ الحياةِ اليوميّة، حيث تحوّل استهلاكُ الماء إلى مؤشّرٍ خطيرٍ يحدّد مصيرَ الأسر المسلمة. من يقتصد في استخدامه يُعتبر مسيحيًّا “مُخلِصًا”، ومن يستهلكه بوفرةٍ ـ للوضوء والغُسل ـ يُشتبَه في كونه مسلمًا متخفّيًا، ليواجه مصيرًا مأساويًّا بين اللهب والسيف.لكن السؤال الذي يطرح نفسَه اليوم: هل انتهت هذه الحقبةُ المظلمة فعلاً، أم أنّها تكرّرت بأشكالٍ أكثر تطوّرًا وقسوة؟ وهل تعلّم العالم من دروس التاريخ، أم أنّه محكومٌ عليه بتكرار الأخطاء نفسها؟ محاكمُ التفتيش التكنولوجيّةالإجابة مؤلمةٌ وصادمة: لم تنتهِ محاكمُ التفتيش، بل تطوّرت وتحدثت. في إقليم شينجيانغ الصيني، يعيش أكثر من 12 مليونًا من مسلمي الإيغور كابوسًا حقيقيًّا يفوق في قسوته ما عاشه أسلافُهم في الأندلس. تحت مسمّى برّاق “معسكرات إعادة التأهيل” ـ وهو الاسمُ المهذّب للجحيم ـ يُحتجَز الملايين في مراكز اعتقالٍ مُصمّمة لمحو الهويّة الإسلاميّة بشكلٍ منهجي.لكن الأمر لا يتوقّف عند الاعتقال. في هذه المعسكرات، يُجبَر المسلم على شرب الخمر وتناول لحم الخنزير، ويُعذَّب بوحشيّة إن رفض. تُزرَع في أجسادهم شرائح إلكترونيّة للتتبّع المستمر، وتُراقب كاميرات التعرّف على الوجوه كلَّ حركةٍ في الشوارع والبيوت، بل وحتى في المساجد القليلة المتبقيّة. النساء يتعرّضنَ للاغتصاب المنهجي، والأطفال يُنتزعون من أحضان أمّهاتهم ليُربَّوا بعيدًا عن دينهم وثقافتهم في دورٍ حكوميّة. لم تنتهِ محاكمُ التفتيش، بل تطوّرت وتحدثت. في إقليم شينجيانغ الصيني، يعيش أكثر من 12 مليونًا من مسلمي الإيغور كابوسًا حقيقيًّا يفوق في قسوته ما عاشه أسلافُهم العالم الإسلامي الذي يضمّ 1.8 مليار مسلم يقف متفرّجًا على هذه الإبادة الجماعيّة، تمامًا كما فعل أسلافُه مع مسلمي الأندلس مقارنةٌ صادمة بين الماضي والحاضر | محاكم التفتيش الإسبانيّة (1478-1834) | القمع الصيني للإيغور (2017-اليوم) || مراقبة استهلاك الماء في المنازل | زرع شرائح إلكترونيّة وتتبّع رقمي شامل || التفتيش اليدوي عن المصاحف والكتب | هدم أكثر من 16,000 مسجد وحرق المصاحف || الإجبار على اعتناق المسيحيّة | فرض أيديولوجيّة الحزب الشيوعي بالقوّة || التعذيب الجسدي والحرق | التعذيب المنهجي والاغتصاب الجماعي || فصل العائلات وتهجير الأطفال | انتزاع مليون طفل من عائلاتهم || محاكم دينيّة للإدانة | معسكرات “إعادة تأهيل” للغسيل الدماغي | المصالحُ أهمّ من الإنسانيةهنا تكمن المأساة الحقيقية: العالم الإسلامي الذي يضمّ 1.8 مليار مسلم يقف متفرّجًا على هذه الإبادة الجماعيّة، تمامًا كما فعل أسلافُه مع مسلمي الأندلس قبل خمسة قرون. بل إنّ الأمر أصبح أكثر إثارةً للسخرية والألم، حيث تتسابق الحكومات الإسلاميّة لتوقيع عقود بمليارات الدولارات مع بكين، بينما تُباد شعوبٌ مسلمة كاملة على بُعد آلاف الكيلومترات.في عام 2019، وقّعت 37 دولة على رسالة تؤيّد سياسات الصين في شينجيانغ، من بينها 16 دولة إسلاميّة تشمل السعوديّة ومصر وباكستان والإمارات. هذا بينما كانت التقارير الدوليّة تكشف عن اعتقال أكثر من مليون إيغوري في معسكرات الاعتقال. إنّها لحظة تاريخيّة مخزية تكشف عن انحطاطٍ أخلاقيّ لم يشهده العالم الإسلامي من قبل.وكما لو أنّ الأمر لا يكفي، تتكرّر المأساة نفسها في غزّة أمام أعيننا، حيث يُقتَل الأطفال والنساء يوميًّا، بينما تكتفي الأنظمة العربيّة والإسلاميّة بالبيانات الاستنكاريّة والمؤتمرات الصحفيّة الفارغة. التاريخ مهزلة إنّ مَن يعتقد أنّ محاكم التفتيش قد أصبحت مجرّد ذكرى من الماضي هو واهمٌ تمامًا. إنّها تتكرّر اليوم بوحشيّة أكبر وأدوات أكثر تطوّرًا وفتكًا: من تكنولوجيا المراقبة والذكاء الاصطناعي إلى المعسكرات المحصّنة والتعقيم القسري. وكما فشل العالم في إنقاذ مسلمي الأندلس، فإنّه اليوم إمّا عاجزٌ أو متواطئ صراحةً في قضيّة الإيغور.لكن المأساة تكتسب بُعدًا هزليًّا مؤلمًا عندما نرى أنّ بعض المسلمين لا يكتفون بالصمت، بل يتعاملون اقتصاديًّا ويتعاطفون سياسيًّا مع جلاديهم، وكأنّ التاريخ لم يكتفِ بتكرار نفسه كمأساة، بل أصرّ على أن يعود كمهزلةٍ سوداء.في الماضي، كان لدى المسلمين عُذر المسافة والجهل بما يحدث. أمّا اليوم، في عصر الإنترنت والأقمار الصناعيّة، فلا عُذر لأحد. كلّ صورة، وكلّ شهادة، وكلّ تقرير متاحٌ بضغطة زر. لكن يبدو أنّ الضمير الجمعي قد مات، وأنّ الكرامة الإنسانيّة صارت سلعةً تُباع وتُشترى في أسواق السياسة والاقتصاد. السؤال الأهم: متى سيستيقظ العالم الإسلامي من غيبوبته؟ ومتى ستعود إليه كرامتُه المفقودة؟ أم أنّنا محكومون بأن نشهد محاكمَ تفتيشٍ جديدةً كلّ بضع قرون، بينما نكتفي بالبكاء على الأطلال؟ الوقتُ ينفد، والتاريخُ لا ينتظر أحدًا.
ما شهده السوق التجاري لمدينة صيدا عصر اليوم، هو مظهر من مظاهر الهيمنة والاحتلال الناعم، الذي لم يعُد ناعمًا أو مُقنِعًا، بل بات على المكشوف. فليس هناك من يُحسَب له حساب في المدينة اليوم. عشرات الأشخاص يُجاء بهم من كل حدب وصوب ليحتلّوا شوارع المدينة تحت عنوان الفن والرسم والإبداع الفكري، تحت علم فلسطين القضية إحياءً لذكرى اغتيال نصر الله وصفِيّ الدين، تحت عنوان: “إنّا على العهد”. أيُّ عهد؟ صيدا لم تُعطِ أيًّا منكما عهدًا ولا وعدًا.
في لبنان، لا شيءَ ينتهي فعلاً، بل يُعاد تدويرُه بأسماءٍ أنيقةٍ ووجوهٍ “نظيفة”.يطلّ علينا نواف سلام اليوم كرجل “الإصلاح” و”الشفافية”، يحمل في جيبه مشروعًا يُشبه بيانًا وزاريًا صاغته السفارة الأميركيّة، ويضع نصب عينيه مهمّة “تاريخيّة”: سحب سلاح حزب الله. أمّا الوعود بالمقابل؟ فسلامٌ سياسيّ شامل، مساعداتٌ ماليّة “محتملة”، وترشيح رمزيّ لجائزة نوبل للسلام، لأنّ العالم يُحبّ دائمًا أن يُكافئ من يُكافئ إسرائيل. منذ الحرب الأهليّة، كان لبنان حقلَ تجاربٍ للتطبيعِ المقنّع.اليوم، المشهدُ نفسُه يُعاد بنسخةٍ أكثر “دبلوماسيّة”: بدل القائد العسكري، لدينا قاضٍ دوليّ يبتسم أمام الكاميرا ويعدنا بـ”عصرٍ جديد بلا سلاح”. الفرق الوحيد أنّ التطبيعَ اليوم يُسوَّق على أنّه “سلامٌ شجاع”، لا “خيانةٌ صريحة”. أميركا تصنع الرموز ولبنان يُصفّق في واشنطن، يبدأ المشروع بجملة: “نريد وجهًا مقبولًا في بيروت”.فيُستخرج أحدُهم من أروقة القضاء الدولي، ويُعطى رتبة “رجل الدولة العاقل”، وتُرسَم له طريقٌ مفروشة بالتصريحات المتزنة. لكن خلف الكواليس، اللعبة أوضح من أن تُخفى: سحب سلاح حزب الله، تفكيك السلاح الفلسطيني في المخيمات، وتهيئة لبنان كمنصّة تطبيعٍ دبلوماسيّ هادئ. وما هو المقابل؟ صورٌ جميلة في نيويورك، تصفيقٌ في مجلس الأمن، وهمُ “الدولة السيّدة” التي لا تملك من السيادة إلّا بيانًا حكوميًا منمّقًا.أمّا الشعب، فله حصّتُه المعتادة من “الوعود الدوليّة”، ودرسٌ جديد في فنّ بيع الوطن بالتقسيط السياسي المريح. من غوتيريش إلى سلامهل يكون نواف سلام المرشّح القادم لخلافة أنطونيو غوتيريش؟ربما. فالغرب يُحبّ الوجوه التي تعرف كيف تتحدّث بلغة “الحقوق الدوليّة” بينما تبتسم للمصالح الأميركيّة.لكن “السلام” الذي يُعَدّ له في بيروت ليس سلامًا بين لبنان وإسرائيل، بل سلامًا بين لبنان ووصايتِه الجديدة.سلامٌ يُنتزع فيه السلاح لا لوقف الحرب، بل لوقف فكرة المقاومة.سلامٌ يُعاد فيه رسم المخيّمات الفلسطينيّة على طريقة “التنظيم المدني”، أي تفكيك آخر جيبٍ يحمل ذاكرة الكفاح.سلامٌ ينتهي بعبارةٍ منمّقة في الأمم المتحدة: “نحن في الشرق الأوسط الجديد”. قد يحصل نواف سلام على جائزة نوبل للسلام، وربما تُعلّق صورتُه في أروقة الأمم المتحدة، لكن لبنان سيبقى بلا كهرباء، بلا عدالة، وبلا كرامة. سيبقى “البلد الذي سلّم سلاحه قبل أن يسلّم فقره”، وصدّق أنّ واشنطن تمنح الجوائز لمن يُحبّ، لا لمن يخضع. والتاريخ، يا دولة الرئيس، لا ينسى مَن سلّم البندقيّة طوعًا ليكسب تصفيقةً عابرةً من عواصم القرار. قد يكتب عنك التاريخ يومًا: “هو الرجل الذي أراد أن يصنع السلام… فخسر البلاد”.