توزيع الأصوات على المتنافسين في بلدية صيدا بحسب “AI” في وقت تجهد فيه مراكز استطلاعات الرأي، كما الماكينات الانتخابية للمرشحين لتزويد كل لائحة متنافسة في انتخابات بلدية صيدا التي ستجرى غدا، بالأرقام والتحديثات والمتغيرات. وحده نجم هذا الزمن "الذكاء الاصطناعي" يقرأ ويحلل النتائج بدون حسابات ضيقة ولا محسوبيات أو مواربات. لذلك كانت رؤيته للنتائج التي لا تتبناها جريدة "البوست" حتى ظهر هذا اليوم حسب التوزيع المنشور أعلاه
في مدينةٍ تنامُ على بحرٍ وتستيقظُ على عتمةٍ، لم يعُد المواطنُ الصيداوي يُعاني فقط من الأزمات الكبرى، من الكهرباء إلى النفايات والماء، بل باتت التفاصيلُ اليومية، من ركنِ السيارة إلى دخولِ مقهى أو مطعمٍ أو دكّان، تتحوّلُ إلى ميدانٍ قهريٍّ آخر يُضافُ إلى سجلِّ الإذلالِ اليومي، تحت عنوان: “الفاليت باركينغ” فاليت؟ لا بأس. لكن أن تُحوَّل هذه الخدمةُ إلى وسيلةِ هيمنة، إلى “تشبيحٍ مُقنَّن”، إلى زعرناتٍ تعمُّ المدينةَ من دونِ حسيبٍ ولا رقيب؟ هنا تبدأُ المأساة، لا من بابِ السيارات، بل من بابِ الدولةِ الغائبة، والبلديةِ الصامتة، وأصحابِ المصالحِ المتواطئين. سلطة أمر واقع في شارع القناية مثلاً، يتحدث المواطن خالد ق. عن تجربته في هذا الموضوع، ويقول:“ذهبتُ لتناولِ وجبةٍ سريعةٍ في أحدِ المطاعم. لا مناسبة، لا زحمة. ومع ذلك، شابٌّ يحمل مفتاحًا ويرتدي سترةً يطلب مني تسليمَ السيارة مقابل مئة ألف ليرة، وإلّا فأرضُ الله واسعة. والمفارقة أنّ موقفَ الرصيف كان فارغًا!” هكذا تحوّلت الأرصفةُ العامةُ والمواقفُ المجانيةُ إلى مزارعَ خاصّةٍ يُمنع المواطنُ من استخدامها، تحت سطوةِ مَن يدّعون “التنظيم”، وهم في الحقيقةِ شركاءُ في عمليةِ خطفِ المدينة. لا يختلف اثنان على أنّ هذه الممارسة، حتى وإن لبستْ ثوبَ الخدمة، باتت تُملَى على الناسِ دونَ خيار. حالة إنكار أين البلدية؟ هل تراقب؟ هل تمنح التراخيص؟ وهل تُلزِم هذه الجهات بأسعارٍ محدّدة، بحدودٍ جغرافية، بشروطِ السلامة؟أم أنّ الصمتَ سيّدُ الموقف؟ بل أسوأ: في بعضِ مناطق صيدا – تحديدًا في حارةِ صيدا ومحيطها – تُفرض هذه “الخدمة” من خلال ما يُعرف بـ”الحركة”، وهي تسميةٌ يستخدمها البعضُ للإشارةِ إلى جهاتٍ سياسيةٍ أو أمنيةٍ نافذة، ما يجعل من الاعتراضِ فعلًا محفوفًا بالخطر. بل أكثر، هناك من يتحدث عن شبكاتٍ تعمل تحت غطاءِ أحزابٍ أو مرجعياتٍ سياسيةٍ محلية، تفرض “الفاليت” كـ”حقٍّ مكتسب”، وتُوظِّف شبّانًا يُشكّلون نوعًا من الحرسِ الخاص على المالِ العام. لا تستحقُّ صيدا أن تُدار بهذه الطريقة. لا تستحق أن تصبح رهينة “فاليت باركينغ” تحكمه المصالح والبلطجة، بينما مؤسساتها تصمت، وسكانها يئنّون المطاعم: شركاء في الجريمة؟ وإن كان التعدّي على الأرصفةِ مأساة، فإن تواطؤَ بعضِ المؤسساتِ الخاصة هو الفضيحة. في مطاعمَ راقيةٍ كـ”سموكة”، حيث تتجاوزُ الفاتورة ملايينَ الليرات بسهولة، يُفرَض على الزبونِ خدمةُ “الفاليت” رَغْمًا عنه، حتى لو أراد ركنَ سيارته بنفسه على بعدِ أمتار. والمبرر؟ “هكذا هو النظام”. أحدُ أصحابِ المطاعم، طلب عدمَ ذكر اسمه، قال:”نُجبَر على التعاقدِ مع هذه الشركات. وإلا يُمنَع علينا تنظيمُ السير أمامَ المطعم أو تُقطَع الطرق”. والسؤال: من أعطى هؤلاء سلطةَ فرضِ عقوبات؟ من يملك القرارَ في مدينةِ صيدا؟ الدولة؟ البلدية؟ أم جهاتٌ خارجةٌ عن أيِّ رقابة؟ قانونيًّا، هل من شرعيّة؟ بموجب القانون اللبناني، لا يجوز لأي جهةٍ خاصة أن تحتلَّ الملكَ العام أو تُنظّم خدماتٍ عليه دون ترخيصٍ رسمي من البلدية ووزارة الداخلية، وفقًا للمادة 18 من قانون البلديات. كما أن أي تسعيرةٍ تُفرَض على المواطن يجب أن تكون صادرةً بقرارٍ رسمي ومُعلنةً بوضوح. ما يحصل في صيدا يتناقض مع هذا تمامًا. لا شفافية، لا تراخيص علنية، لا رقابة على الأسعار، ولا خريطة واضحة تُحدّد أين يُسمَح وأين يُمنع. أي أن المواطن يخضعُ لمنطقِ الغلبة لا لميزانِ القانون. البلدية الجديدة… أول اختبار صيدا الآن على مفترقِ طرق. انتخاباتٌ بلديةٌ جديدة، وجوهٌ جديدة تُقسِم على “خدمة الناس”، فأين هم من هذه الكارثة اليومية؟ هل سيتصدّى المجلسُ الجديد لهذه الظاهرة؟هل سيضع خطةً لتحريرِ الشوارع من “البلطجة المُرخّصة”؟ أم أن المصالحَ السياسية ستبقى تحكم القرار البلدي؟ المطلوب ليس كثيرًا: إجراءُ مسحٍ شامل لكافةِ خدمات “الفاليت” في المدينة. إعلانُ موقفٍ واضحٍ من الظاهرة ومحاسبةُ الجهات غير المرخّصة. وقفُ استخدامِ الشارع العام كمصدر ابتزازٍ للمواطنين. تفعيلُ الشرطةِ البلدية لمراقبة أيِّ اعتداءٍ على الأملاك العامة. ديوان خدمات من يستلم إدارة صيدا يجب أن يدرك أن المسؤولية لا تقتصر على تنظيم المهرجانات وزراعة الزهور. المطلوب شخصية قيادية لا تهابُ الاتصالات السياسية ولا تخضعُ لضغوطِ النواب والوجهاءِ. رئيسُ بلديةٍ حقيقي لا يردُّ على اتصالٍ من أيِّ جهةٍ سياسية أو أمنية إذا تعارض الطلب مع مصلحةِ المدينة. فلا قيمة لأيّ سلطةٍ إن لم تمتلك الجرأة على كسر يدِ من يمدُّها على المدينة. كرامة المدينة والمواطن ربما يرى البعضُ أن هذه القضية “تفصيل صغير”، لكنها في الحقيقة تمسُّ كرامةَ المدينةِ والمواطنِ معًا.لأن من لا يستطيع ركنَ سيارته بحرية، لن يجرؤ لاحقًا على المطالبةِ بكهرباء أو ماء أو تعليم أو حتى أبسط حقوقه المدنية. ومن لا يحمي الشارعَ العام، لن يحمي المدرسةَ ولا المستشفى ولا السوق. صيدا، بتاريخها وحضارتها ورجالها، لا تستحقُّ أن تُدار بهذه الطريقة. لا تستحق أن تصبح رهينة “فاليت باركينغ” تحكمه المصالح والبلطجة، بينما مؤسساتها تصمت، وسكانها يئنّون. صيدا تستحقُّ أن تستعيد شوارعها، وأن تعود مدينةً حقيقية… لا موقفَ سياراتٍ مدفوعٍ تحت الاحتلال. في العدد المقبل الشركاتُ المُهيمِنةُ على قطاعِ “الفاليت باركينغ”، والمَحميّاتُ السياسيّة، ومَن يقفُ وراءَها كيف تُوزَّعُ الأموالُ المُستباحةُ من جيوبِ الناس، باستغلالِ المرافِقِ العامّة المُتورِّطونَ بالأسماء، وتوزيعُ الولاءات، وتقاسُمُ الشوارعِ والأرصفةِ بين زُعماءِ الأحياءِ والمُتنفِّذين
قرّر أحدهم أن يأخذ المبادرة، ويحدّد موعداً مع السفير الياباني أو النروجي في بيروت، ليُبلغه بأنّ صيادي صيدا لا يزالون يمارسون الصيد البحري على نسق ما قام به الأجداد منذ مئات، إن لم نقل آلاف السنين؟ وأنّه آن الأوان، في عصر الذكاء الاصطناعي، لتغيير هذا الواقع المرير؟ منذ أن كانت صيدا مدينة فينيقية تجوب أساطيلها البحار، لم يتغيّر حال الصياد الصيداوي كثيرًا. قد تكون الأسطورة تبدّلت، لكن الواقع بقي جامدًا، كشبكة علقت في صخرة. مشهد المراكب الخشبية الصغيرة، والشباك المهترئة الملقاة على الأرصفة، ما زال هو ذاته. تتناقله الأجيال كما تتوارث المهن، لا على قاعدة التطوير، بل على قاعدة: “هكذا وجدنا آباءنا” صيادو صيدا اليوم لا يزالون على هامش الحداثة. مراكبهم لا تغوص في العمق، شباكهم لا تميّز بين سمكة صغيرة وأخرى نادرة، وعلوم البحار بالنسبة إليهم لا تزال ضربًا من الترف الأكاديمي. الصيد بالنسبة لهم هو رزق اليوم بيومه، لا مشروع اقتصادي ولا رؤية تنموية. لكن، ماذا لو تغيّر هذا النمط؟ كسر حلقة الجمود لنفترض أنّ أحد الصيادين أو الجمعيات المحلية قرّر أن يتخطى النمطية السائدة والشكوى إلى الفعل، ونسّق مع السفارة اليابانية في بيروت أو النروجية على سبيل المثال لا الحصر، باعتبار أن اليابان إمبراطورية بحرية بكل ما للكلمة من معنى. هناك، لا يُنظر إلى الصياد كعامل مياوم، بل كخبير في اقتصاد الغذاء الأزرق. ماذا لو استُقدم خبراء يابانيون لتدريب الصيادين في صيدا؟ ماذا لو أُطلقت ورشات تعليمية في علوم المحيطات، آليات الصيد المستدام، وتحديد مواسم التكاثر البيولوجي؟ ماذا لو منحت الوكالة اليابانية للتعاون الدولي (JICA) قروضاً ميسّرة أو هبات، لشراء مراكب أكثر تطورًا تدخل العمق وتأتي بالوفير دون أن تدمّر البيئة البحرية؟ التحوّل الاقتصادي والاجتماعي يُعَدّ الصيد البحري من أقدم الأنشطة الاقتصادية التي مارسها الإنسان، ولا يزال مصدر رزق رئيسي لملايين الناس حول العالم. غير أنّ التحديات البيئية وتغيّر المناخ وتراجع المخزون السمكي، فرضت على هذا القطاع ضرورة التحوّل إلى استخدام الوسائل الحديثة، بما يضمن زيادة الإنتاج من دون الإضرار بالثروات البحرية. حين تتغيّر أدوات الصيد، يتغيّر نوع السمك، وبالتالي يتبدّل المردود المالي. لن يعود الصياد بحاجة إلى انتظار زبائن الرصيف، بل سيقع إنتاجه ضمن سلاسل التوزيع الأوسع: فنادق، مطاعم بحرية، أو حتى أسواق التصدير. وقد لا يحتاج أولاده إلى الهجرة أو إلى ترك البحر نهائيًا. وسيحدث هذا التحوّل أيضًا حراكًا اجتماعيًا. تخيّل أن يتحوّل المرفأ القديم إلى نقطة جذب سياحية، تعرض تجربة الصياد الحديث جنبًا إلى جنب مع تراثه القديم. من قال إن صيدا لا يمكنها أن تمتلك نموذج “قرية الصياد الذكي”، حيث تلتقي البيئة، والتاريخ، والسياحة، والغذاء في بوتقة واحدة؟ أمثلة على وسائل حديثة يمكن إدخالها تقنيات تحديد المواقع والبحث عن الأسماك (GPS وSonar) تحديد أماكن تجمعات الأسماك بدقة. تقليص الوقت الضائع في البحث،ما يقلّل من استهلاك الوقود. تقليل الأثر البيئي على المناطق الفارغة. القوارب الذكية تتبّع حالة البحر والطقس لتفادي الحوادث. حفظ الأسماك في ظروف مثالية تحافظ على جودتها. تقليل الفاقد وتحسين الإنتاجية. أنظمة المراقبة عن بُعد مراقبة مناطق الصيد عبر الأقمار الصناعية. تقديم إنذارات مبكرة في حالات الخطر. مراقبة الالتزام بمواسم الصيد. الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات التنبؤ بمواسم وفرة الأسماك. إدارة الأسطول وفق الطلب وحركة السوق. تطوير خطط استدامة طويلة الأمد. شباك الصيد المتطورة انتقاء حجم ونوع الأسماك المستهدفة. تقليل الصيد العشوائي أو العرضي. المحافظة على التوازن البيئي البحري. الزراعة البحرية دعم الإنتاج من خلال الاستزراع السمكي. تخفيف الضغط عن المصائد الطبيعية. إنتاج دائم للأسواق المحلية والتصدير. الأمن الغذائي المستدام في زمن ترتفع فيه كلفة الاستيراد وينهار فيه سعر صرف العملة المحلية، يصبح الصيد البحري فرصة ذهبية لتحقيق جزء من الأمن الغذائي المحلي. مع أدوات حديثة، يمكن لصيدا أن تكون سلة السمك للجنوب، تغذي السوق اللبناني، بل وتتجاوز ذلك إلى أسواق المتوسط. ليست فرضية “ماذا لو” ليست مجرد فرضية، بل دعوة لأن نحلم بجرأة ونُخطط بذكاء. صيادو صيدا لا يحتاجون إلى شفقة، بل إلى شراكة. لا إلى صدقات، بل إلى أدوات. لا إلى الحنين، بل إلى الخروج من الشاطئ نحو العمق… حرفيًا ومعنويًا. فهل نملك شجاعة كسر الحلقة؟ وهل نخرج من دائرة البدائية نحو اقتصاد بحري حقيقي؟ ربما، حين يكفّ البحر عن أن يكون قَدَرًا، ويصبح أفقًا.