في تَمامِ السّاعَةِ ١٨:٠٨ مِن مساءِ الرّابعِ مِن آب (أغسطس) ٢٠٢٠، لم تَهتزَّ أَرضُ بيروتَ فَحسب، بل اهتزّت مَعها أُسُسُ العَدالةِ والمُساءَلَةِ في لبنان. الانفِجارُ الذي أُطلِقَ عليهِ اللّبنانيّونَ “بيروتشيما” تيمُّنًا بانفجارِ هيروشيما النوويّ، لم يَكن مُجرّدَ كارِثَةٍ طبيعيةٍ أو حادثٍ عابرٍ، بل كان تَجسيدًا مَأسويًّا لِعُقودٍ من الفَسادِ والإهمالِ والإفلاتِ من العِقابِ التي طبعت النِّظامَ السّياسيَّ اللّبنانيَّ بَعدَ خَمسِ سَنواتٍ من الانفجارِ الذي قَتَلَ ٢١٨ شَخصًا وجَرَحَ أَكثَرَ مِن ٧٠٠٠ آخَرينَ، وشَرَّدَ أَكثَرَ مِن ٣٠٠ أَلْفِ مُواطِنٍ، وتَسَبَّبَ بِأَضرارٍ مَاديّةٍ تُقدَّرُ بِـ ٤.٦ مِليارِ دُولار، لا تَزال العَدالةُ تَراوحُ مَكانَها في مَتاهةٍ مِن التَّعقيداتِ السّياسيةِ والقانونيةِ. لَكنّ العَامَ ٢٠٢٥ شَهِدَ تَطوُّرًا قَد يُغَيِّرُ مَجرى الأَحداثِ: استِئنافُ التّحقيقاتِ القضائيّةِ بَعدَ تَوقُّفٍ دامَ عامَينِ، في ظِلِّ تَغييراتٍ سياسيّةٍ جذريةٍ شَهِدها لبنان. تشريحُ الكارثة لِفَهمِ حَجمِ الإهمالِ الذي أَدّى إلى كارِثةِ ٤ آب، يَجِبُ العَودةُ إلى نوفمبر ٢٠١٣، عندما وَصلت السَّفينةُ “إم في روسوس” (MV Rhosus) التي تَحمِلُ عَلمَ مُولدوفا إلى مَرفأ بيروت حامِلةً شُحنةً مِن ٢٧٥٠ طُنًّا من نتراتِ الأَمونِيوم. هذه المادّةُ الكيميائيّةُ، التي تُستخدَمُ عادَةً كَسَمادٍ زِراعيٍّ وَلَكِنَّها قابِلَةٌ للانفجارِ في ظُروفٍ مُعيَّنة، كانت مُخصَّصةً نَظريًّا لموزمبيق، لكنَّ الأدِلّةَ تَشيرُ إلى أنَّ بيروتَ قد تَكونُ الوَجهةَ الحَقيقيّةَ مُنذُ البِدايةِ. في أكتوبر ٢٠١٤، تَمَّ تَفريغُ الشُحنةِ وتَخزينُها في المُستودَعِ رَقْم ١٢ في مَرفأ بيروت، في ظُروفِ تَخزينٍ تُخالِفُ جَميعَ المَعاييرِ الدّوليةِ لِلسَّلامةِ. وَفقًا لِتقريرِ هيومن رايتس ووتش الصّادرِ في أغسطس ٢٠٢١، فإنَّ المَسؤولينَ في وَزارَتي المالِيةِ والأشغالِ العامةِ والنقلِ “فَشلوا في التَّواصُلِ بِشَكلٍ صحيحٍ أو التّحقيقِ بِشَكلٍ كافٍ مِن الطَّبيعةِ المُتفجِّرةِ والقابِلةِ للاشتِعالِ لِشُحنةِ السَّفينةِ، والخَطرِ الذي تُشكِّلهِ”. عندما تُصبِحُ المَعرِفةُ جريمةً ما يَجعَلُ هذهِ الكارثةَ أَكثَرَ إيلامًا هو أنَّ العَديدَ مِن كبارِ المَسؤولينَ اللّبنانيينَ كانوا على عِلمٍ بِوُجودِ هذه المَوادّ الخطِرةِ ومَخاطِرِها المُحتَمَلةِ. وَفقًا للوثائِقِ الرَّسميةِ فإنَّ قائِمةَ المُطلِعينَ تَشمَلُ شَخصياتٍ في أَعلى هَرَمِ السّلطةِ اللّبنانيةِ: الرّئيس ميشال عون رئيسُ الوُزراءِ السّابق حَسّان دياب مديرُ عامّ أمن الدّولةِ اللواء طوني صليبا قائدُ الجيشِ السّابق العماد جان قهوجي وزيرُ الماليّةِ السّابق علي حسن خليل وزيرُ الأشغالِ السّابق غازي زعيتر وزيرُ الأشغالِ السّابق يوسف فنيانوس هؤلاءِ المَسؤولونَ، وَفقًا للأدلّةِ المُتاحةِ، “كانوا مُطلِعينَ على المَخاطِرِ التي تُشكِّلها نتراتُ الأَمونيوم وفَشلوا في اتّخاذِ الإجراءَاتِ اللاّزِمةِ لِحِمايةِ الجمهورِ”. هذا الفَشلُ لا يَقتَصِرُ على الإهمالِ البسيطِ، بل يَرقى، حَسبَ التّقييمِ القانونيِّ لِهيومن رايتس ووتش، إلى مَستوى “الإهمالِ الجِنائيِّ” وربّما “القَتلِ بالقَصدِ المُحتَمَلِ”. خمسُ سنواتٍ من التعطيل في السّاعاتِ الأولى التي تَلَتِ الانفِجارَ، بَدَتِ الاستجابةُ الرّسميّةُ اللّبنانيّةُ سريعةً وحازمةً.في ٦ أغسطس ٢٠٢٠، بَدَأتِ الاعتقالاتُ الأولى لمسؤولين في المرفأ وموظفين آخرين بتُهم الإهمال والتقصير في أمن الدولة. هذه الخطواتُ الأوليّةُ أعطت انطباعًا بأنّ السلطاتِ اللّبنانيّةَ جادّةٌ في كشف الحقيقة ومحاسبة المسؤولين، لكنّ هذا الانطباعَ سرعان ما تبدّد مع مرور الوقت.في ديسمبر ٢٠٢٠، تولّى القاضي فادي صوان ملفّ التّحقيق في انفجار المرفأ، وبدأ بخطواتٍ جريئةٍ لمحاسبة كبار المسؤولين. في نوفمبر ٢٠٢٠، وجّه صوان اتهاماتٍ رسميّةً لرئيس الوزراء السابق حسان دياب ووزراء سابقين بتهمة الإهمال والتسبب في الوفيات. كانت هذه المرة الأولى في تاريخ لبنان الحديث التي يتم فيها توجيه اتهاماتٍ جنائيّةٍ لرئيس وزراءٍ في منصبه.لكن محاولة صوان لكسر حاجز الحصانة السياسية واجهت مقاومةً شرسةً. رفض دياب والوزراء المتهمون الحضور للاستجواب، محتجين بعدم دستورية الإجراءات وادعاء التحيز السياسي. الأهم من ذلك، أن النظام السياسي اللبناني بدأ يحرك آلياته لحماية نفسه من المساءلة.في فبراير ٢٠٢١، تم عزل القاضي صوان من القضية بناءً على طلب من وزيرين سابقين متهمين، علي حسن خليل وغازي زعيتر، اللذين ادّعيا أن صوان متحيز ضدهما لأنه كان قد حقق معهما في قضايا أخرى. أثار هذا القرار غضبًا شعبيًا واسعًا، حيث اعتبره كثيرون محاولة لإجهاض التحقيق وحماية المسؤولين الفاسدين. مدينة تستحق أن تكون مركزًا معرفيًا متطورًا.. تحوّلت إلى حي فقير رقميًا طارق بيطار ومعركة الإرادات في فبراير ٢٠٢١، تولّى القاضي طارق بيطار ملفّ التحقيق، وسرعان ما أثبت أنه أكثر إصرارًا وجرأةً من سلفه. بيطار، الذي وُصف لاحقًا بـ”الفارس الأبيض”، استأنف التحقيقات بقوة وبدأ في استدعاء كبار المسؤولين للاستجواب، بما في ذلك شخصيات لم يجرؤ أحد على المساس بها من قبل.في مايو ٢٠٢١، استدعى بيطار مدير عام أمن الدولة اللواء طوني صليبا للاستجواب، وهو أول مسؤول أمني رفيع المستوى يتم استدعاؤه في القضية. كما وجّه اتهاماتٍ لقاضي التحقيق الأول في جبل لبنان غسان عويدات، الذي كان قد أفرج عن جميع المعتقلين في قضية الانفجار.لكن الخطوة الأكثر جرأة كانت في يوليو ٢٠٢١، عندما طلب بيطار رفع الحصانة عن النائب السابق ووزير المالية الأسبق علي حسن خليل والنائب السابق ووزير الأشغال الأسبق غازي زعيتر لاستجوابهما. أثار هذا الطلب عاصفةً سياسيةً، حيث رفض البرلمان اللبناني رفع الحصانة، مما وضع التحقيق في مأزقٍ قانونيّ.في أكتوبر ٢٠٢١، دخل حزب الله بقوة على خط التحقيق عندما هاجم أمينه العام السابق حسن نصر الله القاضي بيطار علنًا، واتهمه بالتحيز السياسي وطالب بإقالته. كان هذا التدخل المباشر من أقوى قوةٍ عسكريةٍ وسياسيةٍ في لبنان بمثابة تهديدٍ واضحٍ للقاضي وللتحقيق برمّته. التعطيل الكامل تصاعد الضغطُ على القاضي بيطار من جهاتٍ متعددة. رُفعت ضده دعاوى قضائية من قبل سياسيين متهمين، وتم الطعن في قراراته أمام محاكم مختلفة، واستُخدمت ادعاءات الحصانة البرلمانية لمنع استجواب المسؤولين. في ديسمبر ٢٠٢١، توقّف التحقيق عمليًا بعد أن منعت محكمة الاستئناف في بيروت بيطار من متابعة التحقيق بناءً على شكوى من أحد المتهمين.هذا التوقّف استمرّ لمدة عامين كاملين، من ديسمبر ٢٠٢١ إلى يناير ٢٠٢٥، في ما اعتبره مراقبون انتصارًا لقوى الفساد والإفلات من العقاب على حساب العدالة وحقوق الضحايا. خلال هذه الفترة، حاول بيطار مرةً واحدةً استئناف التحقيق في يناير ٢٠٢٣، لكن المدعي العام غسان عويدات، الذي كان متهماً في القضية نفسها، أحبط هذه المحاولة.مع تعطل التحقيق المحلي، لجأت عائلات الضحايا إلى المحافل الدولية طلبًا للعدالة. في ٢٠٢٣، فتحت عدة دول، بما في ذلك فرنسا وألمانيا، تحقيقات في وفاة مواطنيها في الانفجار. كما عبرت ٣٨ دولة في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، بالإضافة إلى الاتحاد الأوروبي، عن قلقها من فشل لبنان في إجراء تحقيق موثوق، مع اقتراح بعض النقاد فرض عقوبات مستهدفة ضد أولئك الذين يعرقلون العدالة. خمسُ سنواتٍ من الإحباط بحلول نهاية عام ٢٠٢٤، كان التحقيق في انفجار مرفأ بيروت قد أصبح رمزًا لفشل النظام القضائي اللبناني وهيمنة السياسة على العدالة. رغم وجود أدلة دامغة على إهمال وتقصير كبار المسؤولين، ورغم وضوح سلسلة الأخطاء التي أدت إلى الكارثة، لم يتم محاكمة أي مسؤول رفيع المستوى أو إصدار أحكام نهائية في القضية.هذا الفشل في تحقيق العدالة لم يكن مجرد إخفاق قضائي، بل كان انعكاسًا لأزمة أعمق في النظام السياسي اللبناني،
تشهدُ قضيّةُ معالجةِ النفاياتِ في مدينةِ صيدا فصلًا جديدًا من التطورات، حيثُ يستعدُّ المجلسُ البلديُّ لمناقشةِ ملفٍّ شائكٍ في جلستِه المقرّرة يومَ الخميسِ السابعِ من آب الجاري، وذلك في حالِ انعقادِها. تكتسبُ هذه الجلسةُ أهميّةً خاصّة، كونَها الثالثةَ فقط منذ الانتخاباتِ البلديّةِ الأخيرة، ما يضعُها تحتَ المجهرِ كاختبارٍ حقيقيٍّ لجدّيّةِ المجلسِ الجديدِ في التعاملِ مع الملفاتِ الحيويّة. على جدولِ أعمالِ هذه الجلسةِ الحسّاسة، يبرزُ موضوعٌ محوريٌّ يتعلّقُ بكيفيّةِ التواصلِ مع اختصاصيّينَ ومستشارينَ تقنيّينَ دوليّين مؤهّلينَ لمراقبةِ أداءِ معملِ معالجةِ النفاياتِ من الناحيتينِ التقنيّةِ والعلميّة. هذا المعملُ الذي وُصف بأنّه “علامةٌ فارقةٌ في معالجةِ النفاياتِ عبرَ اللامعالجة”. مطالبُ المديرِ العامّ جاءت هذه المبادرةُ بناءً على “تمنٍّ” للمديرِ العامِّ للمعملِ أحمد السيّد، وفقًا لما تضمّنَه البيانُ الصادرُ يومَ الجمعةِ الأوّلِ من آب 2025. هذا البيانُ، الذي صدرَ بعد مرورِ تسعةِ أيّامٍ كاملةٍ على انعقادِ اجتماعَين مهمَّين – أحدُهما في بلديّةِ صيدا والآخر في إدارةِ معملِ المعالجة – يطرحُ تساؤلاتٍ جدّيّةً حولَ التوقيتِ والدوافع. لكنّ ما يثيرُ الانتباهَ أكثر هو التفسيرُ المحتملُ لهذا “التمنّي” الذي قد يكشفُ عن حقيقةٍ مؤلمة: أنَّ أعضاءَ اللجنةِ من الجانبِ البلديِّ قد لا يملكونَ المستوى المطلوبَ من الخبرةِ التقنيّةِ لمواكبةِ ومتابعةِ خططِ “التطويرِ والتحديثِ” التي تدّعي إدارةُ المعملِ تنفيذَها، والتي تبدو حتى الآن مجرّدَ حبرٍ على ورق. دوّامةُ الاجتماعاتِ والوعودِ المتكرّرة تكشفُ الوثائقُ الرسميّةُ عن نمطٍ متكرّرٍ من الاجتماعاتِ والاستماعِ إلى خططِ التطويرِ دونَ تحقيقِ نتائجَ ملموسة. فبحسبِ بيانِ المكتبِ الإعلاميِّ لبلديّةِ صيدا، “استمعَ المجتمعونَ من إدارةِ المعملِ على مراحلِ تنفيذِ خطةِ التطوير”. لكنّ هذه ليستِ المرّةَ الأولى، وبالتأكيدِ لن تكونَ الأخيرة، التي يجدُ فيها أعضاءُ المجلسِ البلديِّ أنفسَهم في موقفِ المستمعِ لمثلِ هذه “المحاضرات”. يستمرُّ المجلسُ البلديُّ في مطالبِه المشروعة: جداولُ زمنيّةٌ واضحةٌ لحالةِ المعملِ وتشغيلُه بالقدرةِ الاستيعابيّةِ الكاملة، وخطةٌ محدّدةٌ لإزالةِ جبلِ النفاياتِ المتراكم، وتقاريرُ دوريّةٌ خاضعةٌ للرقابةِ والمساءلة. مطالبُ منطقيّةٌ وضروريّة، لكنها تبدو وكأنّها تصطدمُ بجدارٍ من المماطلةِ والوعودِ الفارغة. هذا الواقعُ يضعُنا أمامَ تفسيرَين لا ثالثَ لهما: إمّا أنّنا نتعاملُ مع أضغاثِ أحلامٍ من ذوي النيّاتِ الحسنةِ الذين يؤمنونَ بإمكانيّةِ التغييرِ رغمَ كلِّ الإخفاقاتِ السابقة، أو أنّنا أمامَ سياسةٍ محكمةٍ لكسبِ الوقتِ تُخفي وراءَها نهبًا منظّمًا للمالِ العامِّ من قِبَلِ ذوي النيّاتِ السيّئة. عامانِ من التوقّفِ وخططٌ لم تُنفّذ تكشفُ الأرقامُ والوقائعُ عن حجمِ الأزمةِ الحقيقيّ. فمنذُ بدايةِ العامِ 2024، وبعدَ توقّفِ المعملِ عن المعالجةِ لمدةِ عامَينِ كاملَين – كما أقرَّ مديرُه العامُّ نفسُه – نشهدُ تتابعًا لخططِ التطويرِ التي لم تُنفّذ بالكامل. والأخطرُ من ذلك أنَّ إدارةَ المعملِ تواصلُ قبضَ الأموالِ العامّةِ دونَ القيامِ بأيِّ عملٍ فعليّ، باستثناءِ نشاطٍ واحدٍ تبرعَت فيه: بناءُ جبالِ نفاياتٍ جديدةٍ تُضافُ إلى المشهدِ البيئيِّ المأساويِّ في المدينة. هذا الواقعُ المريرُ يطرحُ أسئلةً صعبةً حولَ المساءلةِ والشفافيّةِ في استخدامِ المالِ العام، خاصّةً في ظلِّ استمرارِ تدفّقِ الأموالِ إلى جهةٍ لا تُقدّمُ الخدمةَ المطلوبةَ منها، بل تُساهمُ في تفاقمِ المشكلةِ التي من المُفترَضِ أن تحلَّها. يكشفُ تصريح وزير المالية عن وجودِ ضغوطٍ سياسية ومحاولاتٍ للحصولِ على أموالٍ إضافيّةٍ، في الوقتِ الذي يُشكّكُ فيه أعلى مسؤولٍ ماليٍّ في البلاد بأداءِ المعملِ نفسِه يُثيرُ البيانُ الرسميُّ نقطةً مهمّةً غابتْ عن معظمِ المتابعين، وهي طبيعةُ دورِ وزارةِ البيئةِ في مراقبةِ أداءِ المعمل. فرغمَ الإشاراتِ المتكرّرةِ إلى دورِ الوزارةِ في المراقبة، إلا أنّ الحقيقةَ أنَّ دورَها استشاريٌّ محض، يقتصرُ على إعطاءِ الرأيِ والمشورةِ دونَ أيِّ صلاحيّاتٍ تنفيذيّةٍ حقيقيّة. هذا التوضيحُ يكشفُ عن فجوةٍ في المساءلةِ قد تُفسّرُ استمرارَ الوضعِ المتردّي دونَ تدخّلٍ فعّال. الماليّة وتساؤلاتٌ حولَ الرقابة في السياقِ ذاتِه، شهدَ تاريخُ 26 تمّوز 2025 اجتماعًا مهمًّا عقدَه اتحادُ بلديّاتِ صيدا – الزهراني مع وزيرِ الماليّةِ ياسين جابر، لبحثِ المستحقّاتِ الماليّةِ للشركةِ المتعهّدةِ جمعَ ونقلَ النفايات NTCC. وبحسبِ البيانِ الصادرِ عن المكتبِ الإعلاميِّ للبلديّة، تطرّقَ الاجتماعُ إلى وضعِ معملِ معالجةِ النفاياتِ وخطةِ التطويرِ المزعومةِ لتحسينِ الأداءِ وإزالةِ جبلِ النفايات. لكنَّ ما يلفتُ الانتباهَ هو غيابُ أيِّ إشارةٍ إلى دورِ اتحادِ البلديّاتِ في مراقبةِ أعمالِ الشركةِ المتعهّدةِ نفسِها. فأين الرقابةُ على التزامِ NTCC بشروطِ عقدِ التلزيم؟ وأين المتابعةُ لأوقاتِ الجمعِ وطرقِ النقلِ وصيانةِ الشاحناتِ والمعدّات؟ هذا الصمتُ حولَ الرقابةِ على المتعهّدِ يُثيرُ تساؤلاتٍ حولَ شموليّةِ النظرةِ إلى منظومةِ إدارةِ النفاياتِ في المدينة. موقفٌ حاسم جاءَ الردُّ الحاسمُ من وزيرِ الماليّةِ ياسين جابر في بيانٍ صادرٍ عن مكتبِه يومَ الثاني من آب 2025، حيثُ نفى بشكلٍ قاطعٍ موافقةَ وزارةِ الماليّةِ على صرفِ أموالٍ لمصلحةِ معملِ النفاياتِ في صيدا. وأكّد البيانُ أنَّ الوزيرَ جابر أبلغَ جميعَ المعنيّينَ في المدينة – من نوّابٍ وفعاليّاتٍ والمجلسِ البلدي – بقرارِه الواضح. الأمرُ الأكثرُ إثارةً للاهتمام هو إشارةُ الوزيرِ جابر إلى اتصالاتٍ تلقّاها من جهاتٍ في المدينة تطلبُ منه دفعَ مبالغَ ماليّةٍ إلى إدارةِ معملِ المعالجة، مؤكّدًا أنَّ لديه “ملاحظاتٍ عدّةً على أداءِ المعمل”. هذا التصريحُ يكشفُ عن وجودِ ضغوطٍ ماليّةٍ ومحاولاتٍ للحصولِ على أموالٍ إضافيّةٍ، في الوقتِ الذي يُشكّكُ فيه أعلى مسؤولٍ ماليٍّ في البلاد بأداءِ المعملِ نفسِه. بين النقدِ والإشادةِ المشبوهة على الرغمِ من كلّ هذه الملاحظاتِ والانتقاداتِ الموثّقة، يبقى الوضعُ في المجلسِ البلديِّ لمدينةِ صيدا مُحيّرًا ومثيرًا للجدل. فعلى الرغمِ من الأدلةِ الدامغةِ على فشلِ إدارةِ المعملِ في تحقيقِ أهدافِها، ما زالَ بعضُ أعضاءِ المجلسِ يُشيد بـ”إيجابيّةِ” إدارةِ المعملِ وما قد تُقدّمه من خدمات. هذه الإشادةُ، في ظلِّ الواقعِ المريرِ والأرقامِ الصادمة، لا يمكنُ وصفُها إلا بأنّها نوعٌ من “الرُّشى” المعنويّةِ أو الماديّةِ التي تهدفُ إلى تغطيةِ عمليّةِ نهبٍ منظّمةٍ للمالِ العام. فكيفَ يمكنُ الإشادةُ بأداءِ جهةٍ توقّفتْ عن العملِ لعامَينِ كاملَين وتواصلُ قبضَ الأموالِ العامّةِ دونَ مقابل؟ ما هو البديل؟ في خضمِّ هذا الواقعِ المعقّدِ والمُحبِط، قد يسألُ البعضُ بحقّ: “وماذا تريدون؟ وما هو البديل؟” هذا سؤالٌ مشروعٌ ومهمّ، والجوابُ عليه ليس معقّدًا كما قد يبدو للوهلةِ الأولى. الجوابُ جاهزٌ وواضح: دعونا نستخدمْ عقولَنا ونجدُ البديلَ الذي يُحافظُ على ثلاثةِ عناصرَ أساسيّةٍ لا يمكنُ التفريطُ بها: الصحّةُ العامّة، والبيئةُ السليمة، والمالُ العام. هذه ليستْ مطالبَ مستحيلةً أو خياليّة، بل هي حقوقٌ أساسيّةٌ لكلِّ مواطنٍ في صيدا وحولَها. البديلُ يبدأُ بالشفافيّةِ الكاملةِ في الأرقامِ والميزانيّات، ويَمرُّ بالمساءلةِ الحقيقيّةِ للمسؤولين، ويَصلُ إلى وضعِ خططٍ واقعيّةٍ قابلةٍ للتنفيذِ والقياس. البديلُ يتطلّبُ أيضًا إشراكًا حقيقيًّا للخبراءِ المستقلّين – محلّيًّا ودوليًّا – في تقييمِ الوضعِ ووضعِ الحلول، بعيدًا عن المصالحِ الضيّقةِ والحساباتِ السياسيّة. نقطةُ تحوّلٍ أم استمرارٌ للمأساة؟ تقفُ مدينةُ صيدا اليومَ أمامَ نقطةِ تحوّلٍ حقيقيّةٍ في ملفِّ معالجةِ النفايات. الجلسةُ المقرّرةُ للمجلسِ البلديِّ يومَ الخميسِ السابعِ من آب قد تكونُ فرصةً ذهبيّةً لوضعِ حدٍّ لسنواتٍ من الإهمالِ والمماطلة، أو قد تكونُ مجرّدَ حلقةٍ جديدةٍ في مسلسلِ الوعودِ الفارغة. الكرةُ الآن في ملعبِ المجلسِ البلديِّ الجديد، والمواطنونَ ينتظرونَ أفعالًا حقيقيّةً وليسَ مجرّدَ كلمات. فهل سيكونُ هذا المجلسُ على مستوى التحدّي؟ أم أنّه سيكتفي بدورِ المتفرّجِ على مأساةٍ بيئيّةٍ واقتصاديّةٍ تتفاقمُ يومًا بعد يوم؟ الوقتُ وحده كفيلٌ بالإجابة، لكنَّ المؤكّدَ أنَّ صبرَ المواطنينَ بدأ ينفد، وأنَّ الحلولَ الجذريّةَ باتتْ ضرورةً حتميّةً لا يمكنُ تأجيلُها أكثرَ من ذلك.
سُجِّلت حركة اعتراضيّة في أوساط عدد من المشايخ ورجال الدين، لا سيّما الشباب منهم، في مدينة صيدا، على قرار إعادة تكليف مفتي صيدا الشيخ سليم سوسان بمهام رئيس دائرة الأوقاف لمدة سنة إضافيّة، معتبرين أنّ “الأمر زاد عن حدّه”، لا سيّما وأنّ الجمع بين المنصبين من قِبَل الشيخ سوسان هو في الأصل مخالفٌ للأصول القانونيّة، لكنه مفروض منذ سنوات. ويُشير مطّلعون في الشأن الشرعي والإداري إلى أنّ الجمع بين منصبَي المفتي ورئيس دائرة الأوقاف يُخالف الأصول الإداريّة المُعتمدة في هيكليّة دار الفتوى، إذ إنّ لكل منصب مهامه وصلاحيّاته، وهو ما يُفترض أن يُكرّس مبدأ الفصل بين المرجعيّة الدينيّة الإفتائيّة والمرجعيّة الإداريّة والتنظيميّة للأوقاف.كما يرى هؤلاء أن الاستمرار في هذا الجمع يُضعف المؤسسات، ويكرّس مبدأ “الاستثناء الدائم”، ويُعرّض هيبة المرجعيّات الدينيّة لمساءلة غير مستحبّة، خصوصًا في ظلّ التحوّلات المتسارعة داخل الطائفة السنيّة في لبنان وارتفاع منسوب الاعتراضات من الجيل الدينيّ الشاب.