أغمض عينيك… وتخَيَّل معي هذا المشهد الساحر. تقف على ضفاف النيل في القاهرة، والشمس تشرق على مآذن الأزهر. تحمل عصاك وزادك، وتنطلق في رحلة لن تحتاج فيها إلى جواز سفر، أو تأشيرة دخول، أو حتى تصريح مرور. إنها رحلة عبر إمبراطورية واحدة تمتد من المحيط الأطلسي إلى أسوار الصين، ومن سهول آسيا الوسطى إلى صحاري أفريقيا. من أرض الكنانة إلى الأرض المقدسةتعبر سيناء بخطوات واثقة، لا يوقفك حارس حدود، ولا يطالبك أحد بهوية. تصل إلى فلسطين المباركة، حيث تصلي في المسجد الأقصى، ثم تواصل رحلتك شمالاً عبر بلاد الشام الخضراء. في دمشق، تستريح في ظلال الجامع الأموي، وتستمع إلى قصص الفتوحات من شيوخ المدينة. من هناك، تتجه شمالاً نحو إسطنبول العظيمة، عاصمة الخلافة العثمانية، حيث تقف مبهوراً أمام آيا صوفيا والجامع الأزرق، وأنت تدرك أنك في قلب إمبراطورية تحكم ثلث العالم المعروف آنذاك. إلى مهد الحضارة في بلاد الرافدينتنحدر جنوباً عبر الأناضول، وتعبر نهري دجلة والفرات لتصل إلى الموصل الحدباء، ثم إلى بغداد دار السلام، عاصمة الخلافة العباسية التي كانت يوماً منارة العلم والحضارة في العالم. تتجول في أسواقها، وتزور بيت الحكمة حيث تُرجمت علوم الأولين، وتستمع إلى حكايات هارون الرشيد والمأمون. رحلة الروح إلى بيت الله الحراممن بغداد، تنضم إلى قافلة الحج المتجهة إلى مكة المكرمة. تسير عبر الصحراء العربية، محمياً بأمان الخلافة، حتى تصل إلى البيت الحرام. تؤدي مناسك الحج، ثم تزور المدينة المنورة، حيث تقف أمام قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقلبك يفيض بالإيمان والخشوع. عندما كان المسلم في الأندلس يشعر بالانتماء لنفس الوطن الذي ينتمي إليه المسلم في سمرقند. عندما كان العالم الإسلامي أمة واحدة تحت راية واحدة، بقيادة واحدة من اليمن السعيد إلى القرن الإفريقيرحلتك لم تنته بعد. تتجه جنوباً إلى صنعاء العريقة، عاصمة اليمن السعيد، حيث تتأمل عمارتها الفريدة وحدائقها المعلقة. من هناك، تعبر مضيق باب المندب إلى جيبوتي، ثم تواصل رحلتك إلى الصومال الحبيب، حيث تكتشف مدناً إسلامية عريقة على ساحل المحيط الهندي. تركب سفينة تجارية إسلامية، وتعبر المحيط الهندي إلى جزر القمر، ثم إلى ماليزيا وإندونيسيا والفلبين، حيث تشهد كيف وصل الإسلام إلى هذه الجزر النائية عبر التجار والدعاة، وليس بحد السيف كما يدعي المغرضون. جوهرة التاجتصل إلى الهند الإسلامية، حيث تزور دلهي وأغرا وحيدر آباد، وتقف مذهولاً أمام تاج محل، تحفة العمارة الإسلامية الخالدة. تتجول في أسواق التوابل والحرير، وتستمع إلى الموسيقى الصوفية في المساجد والخانقاهات. من الهند، تتجه شمالاً إلى أفغانستان، أرض الجبال الشامخة والمجاهدين الأبطال، ثم إلى أوزبكستان، حيث تقف مبهوراً أمام عظمة بخارى وسمرقند وطشقند وخوارزم. هنا، تترحم على الفاتح العظيم قتيبة بن مسلم الباهلي، الذي فتح هذه البلاد ونشر فيها نور الإسلام. تواصل رحلتك عبر تركمانستان وقيرغيزيا وطاجكستان، حيث ترى كيف امتدت حضارة الإسلام إلى أقاصي آسيا، وكيف ازدهرت العلوم والفنون في هذه البقاع النائية. تعود أدراجك غرباً، عبر البلقان المسلم، حيث تزور سراييفو وبريشتينا وتيرانا، وتشهد كيف وصل الإسلام إلى قلب أوروبا. تصل إلى الأناضول مرة أخرى، وتركب سفينة عبر البحر المتوسط إلى كريت ومالطا وقبرص. المغرب الأقصىتصل إلى المغرب الأقصى، حيث تتجول في أزقة مراكش الضيقة، وتزور الرباط العاصمة. من هناك، تتجه شرقاً إلى الجزائر، حيث تزور العاصمة البيضاء وتلمسان الأندلسية ووهران الساحلية وقسنطينة المعلقة. رحلتك تقودك إلى تونس الخضراء، حيث تزور القيروان، أول عاصمة إسلامية في المغرب، وتترحم على مؤسسها القائد المجاهد عقبة بن نافع. تجلس في جامع الزيتونة العريق، وتستمع إلى دروس العلماء. من تونس، تتجه إلى ليبيا، أرض عمر المختار البطل، ثم تعود إلى القاهرة، حيث بدأت رحلتك. تصلي في الأزهر الشريف، وأنت تحمل في قلبك ذكريات رحلة عبر إمبراطورية عظيمة. هذه ليست مجرد رحلة خيالية بل حقيقة تاريخية عاشها المسلمون لأكثر من 1250 عاماً في ظل الخلافة الإسلامية. تخَيَّل أنك تقطع كل هذه المسافات الشاسعة دون: جواز سفر أو هوية شخصية تأشيرة دخول أو تصريح مرور حراس حدود يوقفونك أو يفتشونك أسلاك شائكة تقطع طريقك رسوم جمركية أو ضرائب حدودية كل ذلك وأنت تحت حماية خلافتك الإسلامية، تأكل وتنام في الخانات الإسلامية على حساب بيت مال المسلمين، وتتنقل بأمان تام عبر قارات ثلاث أيُّ عزٍّ كنا فيه؟ هذا هو العز الذي فقدناه عندما سقطت الخلافة الإسلامية. عندما كان المسلم في الأندلس يشعر بالانتماء لنفس الوطن الذي ينتمي إليه المسلم في سمرقند. عندما كان العالم الإسلامي أمة واحدة تحت راية واحدة، بقيادة واحدة، وبعملة واحدة أحياناً. اليوم، نحتاج إلى عشرات التأشيرات لنزور بلداناً إسلامية، ونقف في طوابير مذلة أمام سفارات دول كانت يوماً جزءاً من إمبراطوريتنا الواحدة. هذه هي الحقيقة التي يجب أن نتذكرها، والحلم الذي يجب أن نسعى لاستعادته، والاضافة عليه…
في تطوّر مفاجئ قد يعيد تشكيل المشهد السياسي في الشرق الأوسط، كشفت صحيفة “الإيكونوميست” البريطانية عن مخطّط دولي طموح لإدارة قطاع غزة، يضع توني بلير، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، في موقع المسؤول الأوّل عن هذا الملف الشائك. “السلطة الانتقالية الدولية” وفقاً للتقرير المثير للجدل، يتضمن المخطّط تشكيل هيئة تحمل اسم “السلطة الانتقالية الدولية في غزة”، على أن يترأسها بلير لمدّة خمس سنوات كاملة. هذه الهيئة، التي يُفترض أن تحصل على تفويض رسمي من الأمم المتحدة، ستعمل جنباً إلى جنب مع قوّة متعددة الجنسيات لضمان تنفيذ مهامها على الأرض. أما التمويل، فبحسب التقرير، ستتكفّل به دول الخليج العربية، في خطوة تهدف إلى تسليم إدارة القطاع تدريجياً إلى السلطة الفلسطينية، بمباركة من عدد من الزعماء العرب. ويضيف التقرير بعداً آخر من خلال الإشارة إلى مشاركة جاريد كوشنر، صهر الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، في هذا المخطّط، ما يثير تساؤلات حول الأبعاد الجيوسياسية للمشروع وعلاقته بالسياسات الأمريكية في المنطقة. سياسي بتاريخ حافل يُعدّ أنطوني تشارلز لينتون “توني” بلير، المولود عام 1953، من أبرز الشخصيات السياسية البريطانية في العقود الأخيرة. تولّى رئاسة الوزراء بين عامي 1997 و2007، وقاد حزب العمال إلى ثلاثة انتصارات انتخابية متتالية. تميّزت فترة حكمه بعلاقة وثيقة مع الولايات المتحدة، إذ طوّر شراكة استراتيجية مع الرئيسين بيل كلينتون وجورج بوش الابن، قادته إلى قرارات مصيرية غيّرت وجه المنطقة والعالم: المشاركة في غزو أفغانستان (2001) بعد أحداث 11 سبتمبر.دعم ومشاركة القوات البريطانية في غزو العراق (2003)، وهو القرار الأكثر إثارة للجدل في مسيرته السياسية. القرار الأخير استند إلى مزاعم امتلاك العراق أسلحة دمار شامل، ثبت لاحقاً عدم صحتها، ما عرّض بلير لانتقادات شديدة وتحقيقات برلمانية مطوّلة لا تزال تلاحقه. من داوننغ ستريت إلى الخليج العربي بعد استقالته عام 2007، انتقل بلير إلى عالم الاستشارات السياسية والاقتصادية، وبنى شبكة علاقات واسعة، خاصة مع حكومات الخليج. تطوّرت علاقته مع الإمارات إلى شراكة استراتيجية عميقة، حيث عمل مستشاراً شخصياً لمحمد بن زايد آل نهيان في ملفات أمنية وسياسية حساسة. ومن أبرز المشاريع المثيرة للجدل التي ارتبط اسمه بها ما يُعرف بـ**”البيت الإبراهيمي”**، وهي مبادرة تُقدَّم كمسعى للحوار بين الأديان، لكن مراقبين اعتبروها غطاءً سياسياً لمشروع التطبيع العربي–الإسرائيلي. دور خفي في إعادة تشكيل المنطقة ينسب كثير من المحللين إلى بلير دوراً محورياً في الدفع نحو موجة التطبيع بين دول عربية وإسرائيل. مكتبه الاستشاري، المموَّل إماراتياً، يُنظر إليه كأحد العقول المدبّرة للسياسات الإقليمية في أبوظبي، بما في ذلك: وضع استراتيجيات لمواجهة الحركات الإسلامية.الترويج لشخصيات سياسية فلسطينية بديلة.تصميم سياسات اقتصادية وأمنية إقليمية.في هذا السياق، لعب بلير دوراً بارزاً في الترويج لمحمد دحلان، القيادي الفلسطيني المقرّب من الإمارات، كخليفة محتمل لمحمود عباس، ما يكشف عمق تدخّله في الشأن الفلسطيني الداخلي. بول بريمر غزة المقارنة بين الدور المحتمل لبلير في غزة ودور بول بريمر في العراق عام 2003 ليست اعتباطية. بريمر، الذي تولّى منصب الحاكم المدني للعراق تحت الاحتلال الأمريكي، أصدر قرارات كارثية مثل حلّ الجيش العراقي وحزب البعث، غيّرت وجه العراق إلى الأبد. التشبيه يثير تساؤلات حول: طبيعة السلطات التي قد تُمنح لبلير. مدى استقلالية “السلطة الانتقالية”. الأثر البعيد على مستقبل القضية الفلسطينية. ردود فعل متباينة المخطّط يثير انقساماً حاداً، المؤيدون يرون فيه فرصة لإعادة إعمار غزة وتحقيق استقرار طويل المدى عبر آلية لتسليم السلطة تدريجياً للفلسطينيين.المعارضون يحذرون من تكرار مأساة العراق، وتهميش الإرادة الفلسطينية، وتحويل غزة إلى “محمية دولية” تحت السيطرة الخارجية. من يراقب المشروع بتفاصيله، يجد أن الخيط الناظم له لا ينفصل عن مسار التطبيع العربي–الإسرائيلي. بلير، الذي نسج علاقاته في المنطقة عبر البوابة الإماراتية، ليس مجرد “وسيط دولي”، بل أحد أبرز مهندسي هذا المسار، حيث يجري تقديم غزة كـ”ملف اختبار” لإعادة ترتيب البيت الفلسطيني بما يتوافق مع خريطة التطبيع الجديدة. سؤال معلّق مع تزايد التسريبات، يبقى السؤال الأهم: هل يمكن لرجل شارك في تدمير العراق أن يكون جزءاً من حلّ أزمة غزة؟ الإجابة ستتوقف على المواقف الفلسطينية أولاً، وعلى طبيعة الصفقة الدولية ثانياً. لكن المؤكد أن اسم توني بلير، كما في كل محطة من تاريخه، سيظل مثقلاً بالجدل، وأقرب إلى صورة “الشيطان” الذي لا يكمن في التفاصيل، بل في كامل المشهد.
لطالما انقَسَمَ المَشهَدُ الفِكريُّ والأكاديميُّ بينَ ما يُمكنُ اعتباره “ثَقافتين” أَساسيتين: الثَّقافةُ “الأدَبيَّةُ” الَّتي تَشمَلُ الفُنونَ والفَلسفةَ والتَّاريخ، والثَّقافةُ “العِلميَّةُ” الَّتي تَقودُ إلى الطِّبِّ والهَندسةِ والعُلومِ البَحتة. تَبدو هذِه الثُّنائيَّةُ، الَّتي شَكَّلَت أَساسَ النُّظُمِ التَّعليميَّةِ الحَديثة، اليَومَ قاصِرَةً بِشَكلٍ مُتَزايدٍ أَمامَ ثَورةٍ مَعرفيَّةٍ جَديدةٍ يَقودُها الذَّكاءُ الاصطناعيُّ. نَحنُ على أَعتابِ ما يُمكنُ تَسميتُه بـ “الثَّقافةِ الرَّابعة”، وهي لَيسَت مُجرَّدَ امتدادٍ لِلثَّقافاتِ السَّابقةِ، بَل هِي بُنيَةٌ جَديدةٌ تُذيبُ الفَواصلَ التَّقليديَّةَ بَينَ المَعارفِ، وتُعيدُ طَرحَ الأَسئِلةِ الوُجوديَّةِ الكُبرى: مَن يَملِكُ المَعرِفَة؟ ومَن يَملِكُ السُّلطةَ في عَصرِ الآلةِ الذَّكيَّة؟ إعادةُ بَناءِ هَندسةِ الوَعيلِفَهمِ عُمقِ التَّحوُّلِ الَّذي نَعيشُه، لا بُدَّ مِن العَودةِ إلى الجُذورِ التَّاريخيَّةِ لِلنِّقاش. في عامَ 1959، أَلقى العالِمُ والرِّوائيُّ البِريطانيُّ سي. بي. سْنو (C.P. Snow) مُحاضَرَتَهُ الشَّهيرةَ بعنوان “الثَّقافتان والثَّورةُ العِلميَّة”، حيثُ حَذَّرَ مِن “هُوَّةٍ مِن سُوءِ الفَهمِ المُتبادَلِ” بَينَ المُثقَّفينَ الأَدَبيِّينَ والعُلَماءِ. رَأى سْنو أنَّ هذا الانقِسامَ يُعيقُ قُدرَةَ المُجتَمَعِ على مُواجَهَةِ التَّحدِّياتِ الكُبرى.“مَرَّاتٍ عَديدة، كُنتُ حاضِراً في تَجَمُّعاتٍ لأَشخاصٍ، بِمَعاييرِ الثَّقافةِ التَّقليديَّةِ، يُعتَبَرونَ على دَرَجَةٍ عالِيَةٍ مِنَ التَّعليمِ، وكانوا يُعَبِّرونَ بِحَماسٍ عن عَدمِ تَصديقِهِم لأُمِّيَّةِ العُلَماءِ. في إحدَى المَرَّاتِ، استفزَزتُ وسَألتُ الحاضِرينَ كَم مِنهُم يَستطيعُ وَصفَ القانونِ الثَّاني لِلدِّيناميكا الحَراريَّة. كانَ الرَّدُّ بارِداً: وكانَ سَلبِيّاً أَيضاً. ومَعَ ذلِكَ، كُنتُ أَسأَلُ شَيئاً يُعادِلُ عِلمِيّاً: هَل قَرأتَ عَمَلاً لِشِكسبير؟”بَعدَ عُقودٍ، وتَحديداً في عامَ 1995، جاءَ جون بروكمان (John Brockman) ليَطرَحَ مَفهومَ “الثَّقافةِ الثَّالِثة” في كِتابِه الَّذي يَحمِلُ نَفسَ الاسم. رَأى بروكمان أنَّ جيلاً جَديداً مِنَ العُلَماءِ والمُفكِّرينَ بَدأوا يَتَجاوَزونَ هذا الانقِسامَ، مِن خِلالِ مُخاطَبَةِ الجُمهورِ مُباشَرَةً وشرحِ أَفكارِهِم العِلميَّةِ بِلُغةٍ مَفهومةٍ، لِيَحُلُّوا مَحلَّ المُثقَّفينَ التَّقليديِّينَ كَصُنَّاعٍ لِلثَّقافة.اليَومَ، يَتَجاوَزُ الذَّكاءُ الاصطناعيُّ دَورَ الأَداةِ المُساعِدةِ أَو حَتَّى مَوضوعَ النِّقاشِ. إنَّهُ يَفرِضُ نَفسَهُ كَبُنيَةٍ تَحتِيَّةٍ سِياسيَّةٍ وثَقافيَّةٍ واقتِصاديَّةٍ مُتكامِلَةٍ، مِمَّا يَجعَلُ “الثَّقافةَ الرَّابعةَ” ضَرورَةً وُجوديَّةً لِمُساءَلةِ هذا التَّحوُّلِ الجَذريِّ وفَهمِ أَبعادِهِ العَميقَة. مدينة تستحق أن تكون مركزًا معرفيًا متطورًا.. تحوّلت إلى حي فقير رقميًا بَينَ بروميثيوس وفاوست: القَرارُ السّياسيُّ في عصرِ الخوارزميّاتِ في نِهايةِ المطافِ، يَعودُ بِنا النِّقاشُ إلى استعاراتٍ كلاسيكيّةٍ تُلخِّصُ المأزِقَ البَشريَّ أمامَ القُوّةِ السّاحِقةِ. هل نَسمَحُ للذّكاءِ الاصطناعيِّ أنْ يكونَ “بروميثيوس” الجديدَ، الّذي يَسرِقُ النّارَ (المَعرِفةَ) مِن الآلِهةِ (الطّبيعةِ) ويَمنَحُها للبشريّةِ، فاتِحاً عصراً جديداً مِن النّورِ والازدهارِ؟ أم أنَّنا سَنُكرِّرُ مَأساةَ “فاوست”، الّذي باعَ رُوحَهُ للشّيطانِ (مفيستوفيليس) مُقابِلَ المَعرِفةِ المُطلَقةِ والسّلطةِ المُؤقّتةِ، ليَكتَشِفَ في النّهايةِ أنَّ الثّمنَ كان باهِظاً؟ هذا السّؤالُ ليس مُجرَّدَ تَرَفٍ فلسفيٍّ، بل هو سُؤالٌ سياسيٌّ بِامتيازٍ. إنَّ المُستقبَلَ لن تُحدِّدَهُ الخوارزميّاتُ وحدَها، بل سَتُحدِّدُهُ الإرادةُ السّياسيّةُ للمُجتمعاتِ والأفرادِ. الخِياراتُ الّتي نَتَّخِذُها اليومَ حولَ كيفيّةِ تَطويرِ الذّكاءِ الاصطناعيِّ، وتنظيمِه، وتَوزيعِه، سَتُشكِّلُ عالَمَ الغَدِ. هل سَنبني أنظِمَةً تُعزِّزُ الكرامةَ الإنسانيّةَ والعدالةَ والحُرّيّةَ، أم أنظِمَةً تُكرِّسُ الهيمنةَ والرّقابةَ وعَدمَ المُساواةِ؟ إنَّ صِياغةَ ثقافةٍ رابعةٍ لا تُدارُ مِن الخارجِ، بل تُنتَجُ مِن الدّاخلِ، وتَخدِمُ الإنسانَ بدلاً مِن أنْ تَستَعبِدَهُ، هو التّحدّي الأكبرُ الّذي يُواجِهُ جيلَنا. إنَّهُ يَتطلَّبُ رُؤيةً بعيدةَ المَدى، وشَجاعةً أخلاقيّةً، وقَراراتٍ سياسيّةً حاسِمةً. تَنويرٌ جَديدٌ أَم سِلاحُ هَيمَنة؟إِنْ كانَتِ الطِّباعةُ قد أَشعَلَت شَرارةَ الحَداثةِ الأُوروبيَّةِ مِن خِلالِ دَمجْرَطَةِ المَعرِفَةِ، فَإِنَّ الذَّكاءَ الاصطناعيَّ يُشعِلُ ثَورةً جَديدةً ذاتَ طَبيعةٍ مُزدَوَجةٍ. إِنَّهُ، في آنٍ واحِدٍ، أَداةُ تَنويرٍ وسِلاحُ سَيطَرَةٍ، مِمَّا يَجعَلُهُ أَكثَرَ تَعقيداً وخُطورَةً مِن أَيِّ تِقنيَّةٍ سابِقَة. يُعيدُ الذَّكاءُ الاصطناعيُّ تَعريفَ حُدودِ الإبداعِ البَشريِّ، ويَفتَحُ آفَاقاً جَديدةً في البَحثِ العِلميِّ، ويُغيِّرُ طَبيعَةَ العَمَلِ والهُويَّةِ الفَرديَّةِ والجَماعيَّة. في المُقابِلِ، يُستَخدَمُ كَأداةٍ في الحُروبِ الحَديثةِ، والرَّقابَةِ الشَّامِلَةِ، وإِعادةِ تَشكيلِ خَرائِطِ النُّفوذِ الدَّوليِّ، مِمَّا يُمَنِّحُ الدُّوَلَ والشَّركاتِ الَّتي تُسيطِرُ عَلَيهِ قُوَّةً غَيرَ مَسبوقَة. تَتَجلَّى هذِه المُفارَقَةُ بِوُضوحٍ في التَّناقُضِ بَينَ الرُّوبوتِ الجَرَّاحِ الَّذي يُنقِذُ الأَراوِحَ بِدِقَّةٍ فائِقَة، والطَّائِرَةِ المُسَيَّرَةِ الَّتي تُدارُ بِخَوارِزميَّاتٍ قِتاليَّةٍ لِاتِّخاذِ قَراراتِ الحَياةِ والمَوتِ بِشَكلٍ مُستَقِلٍّ. هُنا، تَتَجلَّى المَعضِلَةُ الأَساسيَّةُ لِلثَّقافةِ الرَّابعةِ: كَيفَ يُمكِنُ تَسخيرُ قُوَّةِ المَعرِفَةِ لِخِدمةِ الإنسانيَّةِ، مَعَ كَبحِ جِماحِ التِّقنيَّةِ كَوَسيلَةٍ لِلهَيمَنَةِ والدَّمار؟ مِنَ العِيادَةِ إلى البُورصَةِ وساحَةِ المَعرَكَةيَتَغَلغَلُ الذَّكاءُ الاصطناعيُّ في كُلِّ مَفاصِلِ الحَياةِ المُعاصِرَةِ، مُزيلاً الحُدودَ الفاصِلَةَ بَينَ المَجالاتِ الَّتي كانَت تَبدو مُنفَصِلَةً في السّابِق. في الطِّبِّ، تَقومُ أَنظِمَةُ الذَّكاءِ الاصطناعيِّ بِتَشخيصِ الأَمراضِ بِدِقَّةٍ تَفوقُ أَحياناً دِقَّةَ الأَطبَّاءِ البَشرِ، وتَحلِيلِ الصُّوَرِ الطِّبيَّةِ، واقتِراحِ خُطَطٍ عِلاجيَّةٍ مُخصَّصَة. وفي الاقتِصادِ، تَتحكَّمُ الخَوارِزميَّاتُ في أَسواقِ المالِ العالَميَّةِ، وتَتَّخِذُ قَراراتِ بَيعٍ وشِراءٍ في أَجزاءٍ مِنَ الثَّانِيَةِ، مِمَّا يُثيرُ تَساؤُلاتٍ جِدِّيَةً حَولَ سِيادَةِ الدُّوَلِ على اقتِصاداتِها وقُدرَتِها على مُواجَهَةِ الأَزماتِ المَالِيَّةِ الَّتي قَد تُسَبِّبُها هذِه الأَنظِمَة. أَمَّا في السِّياسَةِ الدُّوليَّةِ، فَقَد تَحَوَّلَ الذَّكاءُ الاصطناعيُّ إلى ساحَةِ صِراعٍ جِيُوسياسيٍّ مُحتَدِم. تُخاضُ واشِنطُن وبِكين سِباقاً شَرساً لِلسَّيطَرَةِ على بَراءاتِ الاخترَاعِ، وتَصنيعِ الرَّقائِقِ الإلكتُرونيَّةِ المُتَقَدِّمَةِ، ووَضعِ المَعاييرِ العالَميَّةِ لِهذِه التِّقنيَّة. في غُضونِ ذلِكَ، يُحاوِلُ الاتِّحادُ الأُوروبيُّ فَرضَ أُطُرٍ قانونيَّةٍ وأَخلاقيَّةٍ تَهدِفُ إلى الحَدِّ مِن “تَغَوُّلِ” الشَّركاتِ التِّكنولوجيَّةِ العِملاقَةِ وضَمانِ استِخدامٍ مَسؤولٍ لِلذَّكاءِ الاصطناعيِّ. تَصِلُ هذِه التَّقاطُعاتُ إلى ذِروَتِها في ساحَةِ المَعرَكَة. في النِّزاعاتِ الحَديثَةِ، مِن أُوكرانيا إلى غَزَّة، لَم يَعُدِ القَرارُ العَسكَريُّ مَحصوراً بِالقِياداتِ البَشَريَّة. أَصبَحَتِ القَراراتُ المُتَعَلِّقَةُ بالاستِهدافِ، وتَقييمِ المَخاطِرِ، وتَحديدِ احتِمالاتِ الرِّبحِ والخَسارَةِ، مَشروطَةً بِشَكلٍ مُتَزايدٍ بِما تُقترِحُهُ الخَوارِزميَّات. هَذا الواقِعُ الجَديدُ، الَّذي يُطلِقُ عَلَيهِ البَعضُ “الحَربَ الخَوارِزميَّة” (Algorithmic Warfare)، يُطمِسُ الخُطوطَ الفاصِلَةَ بَينَ الطِّبِّ (إِنقاذِ الأَراوِح) والحَربِ (إِزهاقِها)، وبَينَ الاقتِصادِ (حِساباتِ الرِّبحِ والخَسارَة) والأَمنِ القَوميِّ، وبَينَ الثَّقافَةِ (القِيمِ والأَخلاق) والسُّلطةِ (القَرارِ السِّيادِيِّ). مَن يَكتُبُ الوَعيَ الجَمعيّ؟لعلَّ السّاحةَ الأكثرَ خُطورَةً وتأثيراً في عصرِ الثّقافةِ الرّابعةِ هي الإعلامُ وكيفيّةُ تشكيلِ الوعيِ الجمعيّ. لم تَعُدْ منصّاتُ التّواصُلِ الاجتماعيِّ مُجرَّدَ فضاءاتٍ مُحايدةٍ للتّعبيرِ والنّقاشِ، بل تَحوَّلَتْ إلى بُنى تحتيّةٍ معرفيّةٍ تَهيمنُ عليها خوارزميّاتُ التّوصيةِ (Recommendation Algorithms). هذه الخوارزميّاتُ لا تَعرضُ لنا العالَمَ كما هو، بل نُسخةً مُخصّصةً ومُفلترةً منه، مُصمَّمةً لإبقائِنا مُنخرطينَ لأطوَلِ فترةٍ مُمكنةٍ. هي تُحدِّدُ ما نَعرِفُه وما نَجهَلُه، ما نَراهُ مُهمّاً وما نَتجاهَلُه، وبالتّالي تُشكِّلُ تَصوّراتِنا عن الواقِعِ. يَزدادُ الأمرُ تَعقيداً مع ظُهورِ الذّكاءِ الاصطناعيِّ التّوليديِّ (Generative AI). الأخبارُ والتّحليلاتُ والمُحتوى المرئيُّ والمسموعُ يُمكِنُ الآنَ إنتاجُها بشكلٍ آليٍّ وبتكلفةٍ زهيدةٍ، ممّا يَفتحُ البابَ أمامَ فَيضٍ من المعلوماتِ المُضلِّلةِ والدّعايةِ المُوجّهةِ الّتي يَصعُبُ التَّحقُّقُ منها. النّتيجةُ هي تآكُلُ الثّقةِ في مَصادرِ المعلوماتِ التّقليديّةِ ونُشوءُ “فُقاعاتِ تَصفيةٍ” (Filter Bubbles) و”غُرفِ صدىً” (Echo Chambers) تُعزِلُ الأفرادَ داخِلَ رُؤاهم الخاصّةِ للعالَمِ، مِمّا يُغذّي الاستقطابَ السّياسيَّ والاجتماعيَّ. باتَ الوَعيُ الجَمعيُّ في القَرنِ الحادي والعِشرين خاضعاً لِمِلكيّةٍ غيرِ مُعلَنةٍ، تَتَقاسَمُها شَركاتُ التّكنولوجيا الكُبرى الّتي تُطوِّرُ هذه الخوارزميّاتِ، والدّولُ الّتي تَسعى لاستِغلالِها كأدواتٍ للقُوّةِ النّاعِمةِ والتّأثيرِ الجيوسياسيِّ. السّؤالُ لم يَعُدْ: “مَن يَملِكُ وسائلَ الإعلام؟” بل “مَن يَملِكُ الخوارزميّاتِ الّتي تُديرُ تدفُّقَ المعلوماتِ العالَميّ؟”. الخِيارُ العَربيُّ بَينَ التّبعيّةِ التِّقنيّةِ والسّيادةِ الرَّقميّةفي هذا السّياقِ العالَميِّ المَحمومِ، تَبدو الثّقافةُ الرّابعةُ في العالَمِ العربيِّ ليست تَرَفاً فكريّاً، بل مَسألةَ سيادةٍ ومُستقبَلٍ. الخَياراتُ المطروحةُ أمامَنا تَتجاوزُ مُجرَّدَ استيرادِ التّكنولوجيا؛ إنّها تَتعلَّقُ بتحديدِ مَوقعِنا