مع كلِّ جولةِ تصعيدٍ عسكري على الحدود الجنوبية مع العدوّ الإسرائيلي، يعودُ اسمُ جمعيةِ «القرض الحسن» إلى الواجهة. غير أنّ ما يجري اليوم يتجاوزُ استهدافَ مبانٍ أو مراكز، ليتحوّل إلى معركةٍ مفتوحةٍ على العصب المالي لحزب الله، وعلى مدّخراتِ عشراتِ آلافِ اللبنانيين الذين هربوا من المصارف التقليدية إلى هذه الجمعية منذ انفجارِ الأزمة عام 2019. مؤسسةٌ في مرمى النار تقدّم «القرض الحسن» نفسها كجمعيةٍ اجتماعيةٍ تعمل وفقَ مبدأ القرض الحسن من دون فوائد ربوية، عبر شبكةِ فروعٍ منتشرةٍ في الضاحية الجنوبية لبيروت والجنوب والبقاع. خلال سنوات الانهيار، توسّعت قاعدةُ المودعينَ والمقترضين لديها بشكلٍ كبير، بعد أن فقد الناسُ ثقتهم بالمصارف وعجزوا عن سحب ودائعهم بالدولار. جعل هذا التطوّر من الجمعية مركزَ ثقلٍ مالي حقيقي داخل بيئةٍ واسعة، وأكسبها دوراً يتجاوز تقديم قروض صغيرة إلى إدارةِ كتلٍ نقدية وودائع وذهبٍ مرهون، ما عزّز الاتهامات الأميركية بأنها أداةٌ مالية موازية تابعة لحزب الله تُستخدم لتمويل نشاطه والالتفاف على منظومة العقوبات. في الأسابيع الأخيرة، برز مساران متوازيان:المسار العسكري، حيث استهدفت إسرائيل عدداً من المراكز التي تقول إنها تابعة لـ«القرض الحسن» أو تُستخدم لتخزين الأموال والذهب العائد للحزب ومناصريه في أكثر من منطقة لبنانية. الرسالة واضحة: ضربُ الشبكة المالية الميدانية للحزب تماماً كما تُضرب مخازن السلاح ومراكز القيادة.وعلى المستوى الدبلوماسي، تتحدّث الأوساط السياسية عن أن وفداً أميركياً زار بيروت أخيراً طرح، بشكل مباشر أو غير مباشر، ملف «القرض الحسن» تحت عنوان “تجفيف مصادر تمويل حزب الله”، مع تسريباتٍ عن طلب إقفال الجمعية أو فرض قيود صارمة عليها. يأتي ذلك امتداداً لسلسلة عقوبات طالت المؤسسة ومسؤولين فيها وشركات مرتبطة بها خلال السنوات الماضية. بهذا المعنى، يجد «القرض الحسن» نفسه اليوم في قلب معركةٍ مزدوجة: قصفٍ من الجو، وضغوطٍ مالية وسياسية على الأرض. مدينة تستحق أن تكون مركزًا معرفيًا متطورًا.. تحوّلت إلى حي فقير رقميًا قصفٌ مالي في الخطابِ المحسوب على حزب الله وبيئته، يجري وصف هذه الضغوط بأنها “سَطوٌ أميركي” على أموال اللبنانيين ومحاولة لوضع اليد على مدّخراتهم تحت عنوان مكافحة تمويل الإرهاب.في المقابل، تردّ واشنطن بأن ما تفعله هو تطبيقٌ صارم لمنظومة العقوبات ومنع استخدام الأراضي والمؤسسات اللبنانية كمنصّة لتمويل تنظيم تعتبره الولايات المتحدة منظمةً إرهابية. بين هذين الخطابين المتناقضين، يضيع السؤال الأهم: هل الإجراءاتُ المقترحة تستهدف فعلاً حزب الله وحده، أم تمتدّ عملياً إلى جيوب الناس الذين وجدوا في «القرض الحسن» ملاذاً بعد سقوط المصارف التقليدية؟ إزاء هذا المشهد، تقف الدولة اللبنانية أمام اختبارٍ شديد الحساسية: فإما الاستجابةُ للضغوط الأميركية ولو جزئياً، بما قد يُترجَم بخطواتٍ قانونية أو مصرفية ضد الجمعية (ملاحقات، إقفال فروع، تضييق على التعاملات). هذا المسار يرضي واشنطن وربما يجنّب لبنان عقوبات إضافية على النظام المالي، لكنه يهدّد بصدامٍ سياسي وأمني مع حزب الله وبيئته الشعبية، ويعزّز شعوراً واسعاً بأن الدولة تستهدف «أموال الفقراء» وليس أموال الطبقة السياسية.وإما التجاهل والممانعة، وهو ما يعزّز موقعَ حزب الله داخلياً، لكنه يفتح الباب أمام مزيدٍ من العقوبات والعزلة، وربما إجراءات تطال مصارف ومؤسسات رسمية لبنانية بحجّة “التساهل مع تمويل الحزب”. في الحالتين، يبدو أن ثمن القرار ستدفعه مؤسساتُ الدولة الهشّة واقتصادُ البلد المنهك. المودعون والأسئلة الكبيرة منذ ما بعد 2019، قرّر كثيرٌ من اللبنانيين سحب ودائعهم من المصارف حين سنحت الفرصة، أو بيع جزءٍ منها في السوق، ثم نقلوا ما تبقّى من مدّخرات نقدية أو ذهبية إلى «القرض الحسن» أو خزّنوها في المنازل. بالنسبة لهؤلاء، القضية ليست شعاراتٍ سياسية، بل أسئلةٌ عملية جداً: ماذا لو تعرّضت الجمعيةُ لقرارات إقفال أو ملاحقة قضائية؟ ماذا لو تكرّرت الضرباتُ العسكرية على مراكز تخزين الأموال والذهب؟ كيف يمكن استرداد الحقوق في مؤسسة لا تخضع فعلياً لرقابة مصرف لبنان أو لقواعد الحوكمة والشفافية المعتمَدة نظرياً في القطاع المصرفي؟ النتيجة أن المودعين وجدوا أنفسهم، مرّة جديدة، أمام خطر خسارة مدّخراتهم؛ مرّة عبر الانهيار المصرفي، ومرّة عبر تحويل مؤسسة بديلة إلى هدفٍ في لعبة الأمم. «بنكُ الظل» الصورة في الداخل اللبناني تبدو منقسمة أيضاً. معارضو حزب الله يرون في «القرض الحسن» “بنكَ ظلّ” يتفلّت من القوانين والضرائب والرقابة، ويمنح الحزب أفضليةً هائلة في سوق المال والاقتصاد، ويشكّل منافسة غير متكافئة للمصارف المرخّصة.في المقابل، يعتبره مؤيّدوه شبكةَ أمانٍ اجتماعية قدّمت للناس قروضاً صغيرة ومتوسطة بلا فائدة أو بفوائد رمزية، وساعدتهم على شراء منازل أو تمويل مشاريع أو تغطية نفقات تعليم واستشفاء، في الوقت الذي أغلقت فيه المصارف أبوابها في وجوههم. يعكس هذا الانقسام الشرخَ الأعمق في البلد بين من يرى في الحزب ومؤسساته “دولةً داخل الدولة”، ومن يرى فيها تعويضاً عن دولةٍ غائبة أو منحازة. السيناريوهات المحتملة في ضوء الوقائع الحالية، يمكن رسم ثلاثة مسارات رئيسية لموضوع “القرض الحسن”: تشديدٌ تدريجي من دون إقفالتمضي الولايات المتحدة في سياسة العقوبات واستهداف الأفراد والشركات المتعاملة مع الجمعية، مع تشجيع الدولة على تضييق الخناق التنظيمي، دون الذهاب إلى قرار صدامي بإقفال تام. يبقى «القرض الحسن» يعمل، ولكن ضمن مناخ مخاطر أعلى وعزلة أكبر. مواجهةٌ مفتوحةإصرار أميركي على خطوات حاسمة يقابله رفض قاطع من حزب الله، ما يفتح الباب أمام اشتباكٍ سياسي وربما أمني داخلي، يضيف ملف «القرض الحسن» إلى قائمة أزمات الرئاسة والحكومة واللاجئين وغيرها. تسويةٌ رماديةمقايضة سياسية أوسع، تخفَّف فيها الضغوط المباشرة مقابل ضبط بعض تعاملات الجمعية أو الحدّ من توسّعها، بما يجنّب الجميع الانفجار الكامل. «القرض الحسن» اليوم ليس مجردَ جمعية مالية في مرمى العقوبات، بل مرآةٌ لأزمةٍ أعمق يعيشها لبنان: دولةٌ عاجزة، نظامٌ مصرفي منهار، سلاحٌ في قلب السياسة، وضغوطٌ خارجية تتعامل مع البلد كساحةِ تصفية حسابات. أمّا السؤال الأهم، الذي لم يُجَب عنه بعد، فهو: من سيحمي أموال اللبنانيين في هذه العاصفة، قبل أن تُمحى الحدود نهائياً بين عقابِ حزبٍ وسحقِ مجتمع؟
منذ تولّي دوروثي كلاوس إدارةَ الأونروا في لبنان، تغيَّر وجهُ الوكالة: اللاجئُ صارَ رقمًا، والميدانُ شاشةً، والإغاثةُ إدارةً رقميّةً باردة. خطابٌ ناعمٌ يُخفي مشروعًا يُفرِّغُ العملَ الإنسانيَّ من روحِه الوطنيّة، ليُحوِّله إلى إدارةٍ أمنيّةٍ “ذكيّة” تُراقبُ أكثرَ ممّا تُغيث. ويبقى السؤالُ الأكبر: لِمصلحةِ مَن؟ ثمّة ما يُعادُ هندستُه في الخفاء. توسّعٌ عمرانيٌّ غامض في منطقةِ سبلين في إقليمِ الخروب، وأجهزةُ “حمايةٍ” مريبة، وتوظيفٌ متسارع… وكلُّ ذلك تحتَ لافتةِ “التحديثِ الإداري” و”التحوّلِ الرقميّ”. مَن فوّضَ الأونروا بإعادةِ تشكيلِ المخيّمات؟ وفي إطارِ أيِّ مشروعٍ يصبُّ ذلك؟ ومَن منحها صلاحيّةَ تحويلِ مجتمعٍ بأكملهِ إلى قاعدةِ بياناتٍ تُدارُ من خلفِ الشاشات؟ مَن يريدُ استبدالَ الهُويّةِ بالرَّمز، والحقِّ الإنسانيِّ بخُطّةٍ أمنيّةٍ ناعمةٍ، تمهيدًا لمرحلةِ وصايةٍ جديدةٍ وتلاشي قضية عالمية، وتوطين مكتوم؟
في كُلِّ موسمٍ انتخابيٍّ في لُبنان، يُعادُ فَتحُ الصُّندوقِ ذاتِه: صُندوقُ المالِ السياسيِّ المُتَنَكِّرُ بوجهِ “الدَّعم”، وصُندوقُ الوِصايةِ المُتجدِّدُ بأسماءٍ جديدة.يَتبدَّلُ اللاعبونَ وتَبقى اللُّعبةُ واحدة: مَن يَملِكُ الفَرَسَ، ومَن يَملِكُ حَليبَها. تذكَّرتُ وأنا أُتابِعُ مَشاهدَ الحَراكِ الانتخابيِّ وتصريحاتِ بعضِ الرُّعاةِ الإقليميين، قِصَّةً قديمةً من التُّراثِ العربيّ، عنوانُها “العِرقُ دَسّاس”.قِصَّةُ رجلٍ لم يَكُنْ في الحقيقةِ سوى مِرآةٍ تُعكِسُ طَبائعَ السَّلاطين، وتَفضَحُ وَهمَ النَّسبِ حين يُستبدَلُ الأصلُ بالتَّربية. يُحكى أنَّ رجلًا دخلَ يومًا مملكةً، يطوفُ شوارعَها وهو يُنادِي بثقةٍ:“أنا رجلٌ سياسيٌّ، أُصلِحُ ذاتَ البَيْنِ وأَحلُّ كُلَّ خِلافٍ.”سَمِعَهُ المَلِكُ فاستدعاهُ وقالَ له: إن كُنتَ سياسيًّا فدُلَّني على حِكمتِكَ؛ لديَّ فَرَسٌ عَنيدةٌ لا يُفلِحُ أحدٌ في تَرويضِها، فَكُنْ أنتَ سائسَها. ارتبكَ الرجلُ وقالَ: يا مولاي، أنا سياسيٌّ لا سائسُ خُيولٍ.قالَ المَلِكُ: بل أنتَ سائسٌ إنْ أَمَرتُكَ، وإلَّا قَطعتُ رأسَكَ.وهكذا بدأَ الامتحانُ الأوّل. جَلَسَ الرجلُ في الإسطبلِ، وحاوَلَ التَّعامُلَ مع الفَرَسِ أيّامًا، ثُمَّ فَرَّ هاربًا.لكنَّ حَرَسَ المَلِكِ قَبَضوا عليه، وسألهُ المَلِكُ غاضبًا: لِماذا هربتَ؟ هل في فَرَسي عَيْبٌ؟قالَ الرجلُ وهو يَرتَجِفُ: أَمَنيَ على حياتي يا مولاي؟قالَ المَلِكُ: لكَ الأمان.فقالَ الرجلُ: فَرَسُكَ أصيلةٌ، لكنَّها لَمْ تَرضَعْ مِن حَليبِ أُمِّها. ثارَ المَلِكُ واتَّهَمَهُ بالكَذِبِ وسَجَنَه.لكنَّه ما لَبِثَ أنِ استدعى سائسَ الفَرَسِ القديمَ وسأله: مِن أينَ رَضَعَت فَرَسي؟فقالَ السائسُ خائفًا: يا مولاي، ماتت أُمُّها عند الولادةِ، فأرضَعْتُها بَقَرةَ القصرِ كي لا تَموت. أمَرَ المَلِكُ بإخراجِ الرجلِ مِن السِّجنِ، وسأله مَدهوشًا: كيف عَرَفتَ؟قالَ الرجلُ: الفَرَسُ الأصيلةُ تَرفَعُ رأسَها حين تَبحَثُ عن العُشبِ، أمّا التي رُضِعَتْ مِن ضَرعِ البَقَرِ فَتُطأطِئُ رأسَها. أُعجِبَ المَلِكُ بفِطنَتِه، وقرّرَ أنْ يَجعلهُ مُستشارًا للمَلِكَة.عَمِلَ الرجلُ أيّامًا في القصرِ، ثُمَّ فَرَّ مُجدّدًا. أُعيدَ مُقيَّدًا، وسألهُ المَلِكُ: ما الذي وَجَدتَهُ في زوجتِنا حتّى تَهرُبَ؟قالَ الرجلُ: أمانُكَ يا مولاي؟قالَ المَلِكُ: لكَ الأمان.قالَ الرجلُ: زوجتُكَ مَلِكَةٌ، لكنَّها ليست ابنةَ مُلوكٍ. غَضِبَ المَلِكُ، وزَجَّهُ في السِّجنِ ثانيةً، ثُمَّ شَدَّ رِحالَهُ إلى حَمَاهُ، وقالَ له والسَّيفُ على رَقبَتِه:قُلِ الحقيقةَ، ما نَسَبُ ابنتِكَ؟ ارتجَفَ الرجلُ وأجابَ: ماتتِ ابنتي الحقيقيةُ صغيرةً، فتبنَّيتُ طِفلةً مِن الغَجرِ وربَّيتُها كابنتي. عادَ المَلِكُ إلى مَملكتِه مَصدومًا، وأطلَقَ سَراحَ السجينِ وسأله: كيفَ عَرَفتَ أنَّ زوجتي مِن أصلٍ غَجَريٍّ؟قالَ الرجلُ: الغَجرُ يَغمِزونَ حينَ يَتكلّمون، ومَلِكتُكَ كثيرةُ الغَمزِ في حديثِها. أُعجِبَ المَلِكُ بحِكمتِه، وقرّرَ أنْ يَجعلهُ خادِمًا لأُمِّه. رَفَضَ الرجلُ، لكنَّ السَّيفَ أَقنَعَه. ومعَ كُلِّ وظيفةٍ جديدةٍ كانتِ المائدةُ تَتَّسِعُ: مِن وجبتينِ إلى دَجاجتينِ، ثُمَّ إلى خروفينِ في اليوم. وبَعدَ أيّامٍ، هَرَبَ الرجلُ للمَرّةِ الثالثةِ.قُبِضَ عليه وأُعيدَ إلى القصرِ، وسألهُ المَلِكُ: هذهِ المرّةَ ماذا وَجَدتَ في أُمِّنا؟قالَ الرجلُ: لَستَ ابنَ المَلِكِ. أُصيبَ المَلِكُ بالذُّهولِ، وواجَهَ أُمَّهُ فاعترَفَت: كانَ زوجي عَقيمًا، ومعَ ذلكَ كانَ يَذبَحُ زوجاتِه إنْ لَم يُنجِبنَ. كنتُ مُتزوِّجةً مِن طَبّاخِ القصرِ، وحينَ رآني المَلِكُ أَمَرَ بطلاقي وتزوَّجَني، ولم يَكُن يَعلَمُ أنَّني كنتُ حامِلًا منك.أنتَ ابنُ الطَّبّاخِ، لا ابنُ المَلِكِ. عادَ المَلِكُ إلى الرجلِ في سِجنِه وقالَ له غاضبًا: كيفَ عَرَفتَ هذا السِّرَّ العظيمَ؟فأجابَهُ بابتسامةٍ باردةٍ: لأنَّ الملوكَ لا يُكافِئونَ بالطَّعامِ، وكُلُّ مكافآتِكَ لي كانت أطباقًا مِن اللَّحمِ والدَّجاجِ والخِراف… وهذهِ عادةُ الطَّبّاخينَ لا الملوكِ. العرق دسّاس في تلكَ الحِكايةِ القديمةِ المعرُوفةِ، أكثرُ مِن حِكمةٍ سياسيّةٍ واحدةٍ. فالعِرقُ حقًّا دَسّاس، والذينَ يَرضَعونَ مِن ضَرعٍ أجنبيٍّ لا يُمكنُ أنْ يَسيروا برأسٍ مرفوعةٍ، ولا أنْ يَتصرّفوا كأبناءِ وطنٍ حُرٍّ. هكذا تَفقِدُ الفروسيّةُ معناها، حينَ يُصبِحُ السائسُ غريبًا، والمكافأةُ وجبةً، والمَلِكُ مُجرّدَ طَبّاخٍ يَظنُّ نفسَهُ سيّدًا على المائدة. في لُبنانَ اليومَ، هُناكَ مَن يَلبسُ عَباءةَ “الوِصايةِ الأُخويّةِ” ويُقدِّمُ المالَ السياسيَّ كأنَّهُ حَليبُ حياةٍ، لكنَّهُ في الحقيقةِ يُربّي أجيالًا مِن “الخُيولِ” الّتي نَسيت رائحةَ أُمِّها، تَبحَثُ عن رِزقِها في أيدي المانحينَ لا في عَرَقِها. مَن يَقبَلْ بالمالِ كَهُويّةٍ سياسيّةٍ، يَهبِطْ برأسِه كما فَعَلَت الفَرَسُ الّتي ظنَّها المَلِكُ أصيلةً. ومَن يَبيعْ قرارَهُ الانتخابيَّ مُقابلَ حُفنَةٍ مِن الدّولارات، يَنسَ أنَّهُ في جُمهوريّةٍ لا مَزرعةٍ، وأنَّ الكرامةَ ليست سِلعةً تُشترى في موسمِ صناديقِ الاقتراعِ. السّياسةُ، مِثلُ الفروسيّةِ، لا تُورَّث. إمّا أنْ تُولَدَ مِن رَحِمٍ حُرٍّ، وإمّا أنْ تَبقَى تَتصرّفُ كالبَقَرِ، تُطأطِئُ رأسَها لِمَن يُطعِمُها. فهل يَتعلَّمُ لُبنانُ، قبلَ أنْ يَفوتَهُ الحَليبُ مرّةً أُخرى، أنَّ الأصالةَ لا تُستورد؟ وأنَّ الفَرَسَ الّتي لَمْ تَرضَعْ مِن أُمِّها، قد تَركُضُ سريعًا… لكنَّها لا تَصِلُ أبدًا؟