تمر ذكرى رحيل الأمين العام السابق لحزب الله، حسن نصرالله، ليس كحدث عابر، بل كجرس إنذار يعلن نهاية حقبة كاملة. فالرجل الذي احتكر الصورة والكلمة والقرار لعقود، ترك خلفه جسداً تنظيمياً مترهلاً يبحث عن رأس بديل. ومع صعود نائبه، نعيم قاسم، إلى منصب الأمانة العامة، بدا المشهد أشبه بمسرحية انطفأت أضواؤها فجأة؛ فصعد الممثل الاحتياطي إلى خشبة خالية، بلا حماس من الجمهور، وبلا قدرة على إقناع نفسه بالدور الجديد. لغة الأرقام الصادمة بعيداً عن الخطابات الرنانة، تتحدث الأرقام لغة قاسية لا تعرف المجاملة، وترسم صورة قاتمة لمستقبل الحزب:تراجع شعبي حاد: هوى التأييد الشعبي في البيئة الحاضنة للحزب من ذروة بلغت 82% عام 2006 إلى ما يقارب 51% في عام 2025. هذا يعني أن نصف جمهوره تقريباً قد سحب ثقته من المشروع الذي كان يلتف حوله. أزمة مالية خانقة: تقلص التمويل الإيراني بأكثر من 40% خلال السنوات الخمس الماضية، مما أجبر قيادة الحزب على تخفيض رواتب المقاتلين بنسب تتراوح بين 20% و30%. هذه الخطوة دفعت العديد من العناصر إلى البحث عن مصادر رزق بديلة أو حتى الهجرة. جيل جديد بلا أفق: أكثر من 60% من الشباب في البيئة الشيعية لم يعودوا يرون مستقبلهم في “المقاومة”، بل بات حلمهم تذكرة سفر أو عقد عمل في الخارج.هذه الأرقام ليست مجرد إحصاءات جامدة، بل هي بمثابة إعلان إفلاس تدريجي لمنظومة كاملة بُنيت على كاريزما فرد واحد. في ذكرى غياب “السيد”، تتضح المعادلة بلا مواربة: حزب الله اليوم هو جسد ضخم بلا رأس، يقوده رجل لا يملك من القيادة سوى لقبها الرسمي مدير تنفيذي في زمن الانهيار في هذا السياق، يظهر نعيم قاسم. الرجل الذي يُقدَّم كخليفة، يبدو في الواقع أقرب إلى “موظف أرشيف” يقرأ من أوراق صفراء بالية، لا إلى زعيم ملهم. خطابه يفتقر إلى الجاذبية، وإيقاعه بطيء، وعباراته تخرج كمن يقرأ نشرة إدارية مكررة. حتى ملامحه في الصور لا تحمل سمات القائد، بل سمات موظف مرهق في نهاية يوم عمل طويل. الفارق بينه وبين سلفه شاسع. كان نصرالله يملأ الشاشة بحضوره الصوتي والجسدي، بينما يكاد قاسم يملأ القاعة بظله. لقد انتقل الدور من “القائد” إلى “المُلقِّن” الذي يقف خلف الكواليس. حتى طهران، الراعي الإقليمي، لم تعد ترى فيه سوى “مدير تنفيذي” لشركة متعثرة، مهمته إدارة الأزمة لا صنع القرار. من “هيبة السلاح” إلى “عبء الخبز” داخلياً، يعيش الحزب تناقضاً صارخاً: كيف يمكنه رفع رايات “الانتصارات الإلهية” بينما يغرق جمهوره في البحث عن حليب لأطفاله أو دواء لمرضاه؟ لقد فقدت شعارات “القداسة” قيمتها أمام فاتورة الكهرباء، وتحول السلاح الذي كان يوصف بـ”سلاح الكرامة” إلى عبء يفاقم عزلة لبنان وانهياره الاقتصادي. الحزب الذي كان يرعب خصومه، بات اليوم يخشى تململ أنصاره. الهيبة تتآكل من الداخل، لا من الخارج. إقليمياً، لم يعد حزب الله اللاعب الأبرز في “محور الممانعة”. ففي سوريا، يستمر نزيفه البشري والمادي بلا أفق. وفي العراق واليمن، تتقدم أذرع أخرى على حسابه. لقد كشف غياب نصرالله حجم الهشاشة البنيوية، وأثبت أن نعيم قاسم لا يملك القدرة على ترميم صورة أسطورية بدأت بالتلاشي. من الأسطورة إلى التخبط في ذكرى غياب “السيد”، تتضح المعادلة بلا مواربة: حزب الله اليوم هو جسد ضخم بلا رأس، يقوده رجل لا يملك من القيادة سوى لقبها الرسمي. لقد انتقل الحزب من زمن القائد الذي يصنع الأوهام، إلى زمن الموظف الذي يوقّع على أوراق الانهيار.إنه تحول مؤلم من “ذراع إيران الضاربة” إلى شركة خاسرة تبحث عمن يدير إفلاسها، ومن “قداسة المقاومة” إلى حمل ثقيل على جمهور يطالب بالخبز قبل الرصاص. إنه الانتقال الحتمي من زمن الأسطورة إلى زمن الشفقة.
إنها لحظةٌ تاريخية في مجلس الأمن الدولي. في سابقةٍ دبلوماسيةٍ برعايةٍ سعودية–فرنسية، شهد مجلس الأمن الدولي مساء أمس إعلان خطواتٍ متقدّمة لإحياء حلّ الدولتين، ترافق مع اعتراف بريطانيا، كندا وأستراليا بدولة فلسطين. هذا التطوّر، وإن بدا سياسيًا في جوهره، فإنّه يستند إلى تراكمٍ قانوني طويل الأمد: من قرار الجمعية العامة 181 عام 1947 (خطة التقسيم)، مرورًا بالقرار 242 لعام 1967 الذي طالب بانسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة، وصولًا إلى التزامات اتفاقيات جنيف التي تحظر ضمّ الأراضي بالقوّة إعادة الاعتراف بهذه المرجعيات لا يمثّل منحةً سياسية للفلسطينيين، كما يروّج خصوم الخطوة، بل استعادةً متأخّرةً لاستحقاقاتٍ قانونية ظلّت معلّقة لعقود. من الرعاية إلى إعادة صياغة الوساطة دور السعودية وفرنسا لم يكن بروتوكوليًا. الرياض عادت لتضع على الطاولة جوهر مبادرتها العربية للسلام (2002)، في وقتٍ تسعى فيه لترسيخ موقعها كمحور توازنٍ إقليمي أمام تزايد الضغوط الأميركية والإسرائيلية. أمّا باريس، فقد قدّمت الاعتراف كجزءٍ من “رهانٍ أوروبي” على إعادة الشرعية لمسار الدولتين، في ظل انسدادٍ سياسي طويل الأمد. هذه الرعاية المزدوجة تحمل في طيّاتها ما هو أبعد من إعلانٍ سياسي: محاولة لإعادة تشكيل معادلة الوساطة الدولية بعد فشل أوسلو، وتآكل رعاية واشنطن الحصرية للعملية السلمية. ما جرى في مجلس الأمن يفتح نافذةً جديدة، لكنّه يطرح سؤالًا أعمق: هل تتحوّل الاعترافات المتفرّقة إلى مسارٍ مُلزم قانونيًا وسياسيًا، أم تبقى أوراقًا رمزية تُستثمر في لعبة توازنات القوى؟ الصحافة البريطانية: “المغامرة” و”جائزة الإرهاب” ردّ فعل الإعلام البريطاني عكس الانقسام العميق في الرأي العام: The Guardian قدّمت الاعتراف كخطوة نحو ترسيخ السلام. Financial Times أبرزت البُعد الدولي المتعدّد الأطراف. في المقابل، Daily Mail وThe Times اعتبرتا الخطوة “جائزة للإرهاب”، وصاغتا السردية من منظور جراح عائلات الأسرى الإسرائيليين. Metro وصفتها بـ”المقامرة الكبرى”، ما يعكس المخاوف الداخلية من انعكاسات القرار على المشهد السياسي البريطاني. بهذا، تحوّل حدثٌ قانوني–دبلوماسي إلى مادةٍ سجالية داخلية تُستخدم لتثبيت أو تقويض شرعية حكومة ستارمر. الصحافة الفرنسية: بين الأخلاق والسياسة الصحافة الفرنسية أظهرت تمايزًا واضحًا عن نظيرتها البريطانية: La Croix قدّمت الاعتراف كلحظةٍ أخلاقية وإنسانية. Libération احتفت به كخطوةٍ تاريخية تنهي التردّد الفرنسي. Le Monde قدّمت قراءةً تحليلية لمسار التحوّل البطيء لباريس، تحت ضغوطٍ داخلية وخارجية. أمّا Le Parisien فقد صاغت الاعتراف كـ”رهان محفوف بالمخاطر”، مع إشارةٍ واضحة إلى حسابات العلاقة مع واشنطن. هذا التباين يعكس ثنائيةً فرنسية تقليدية: بين خطاب القيم الجمهورية وخطاب المصالح الجيوسياسية. في مواجهة الروايات السياسية في الجوهر، يبقى الاعتراف بدولة فلسطين تفعيلًا لمبدأ حقّ تقرير المصير المنصوص عليه في ميثاق الأمم المتحدة. لكنّه في فضاء الإعلام تحوّل إلى ساحة صراعٍ سردي: هل هو تكريسٌ للشرعية الدولية، أم تنازلٌ استراتيجي يمنح “حماس” مكسبًا غير مستحقّ؟ إنّ ما جرى في مجلس الأمن يفتح نافذةً جديدة، لكنّه يطرح سؤالًا أعمق: هل تتحوّل الاعترافات المتفرّقة إلى مسارٍ مُلزم قانونيًا وسياسيًا، أم تبقى أوراقًا رمزية تُستثمر في لعبة توازنات القوى؟ بين قاعة مجلس الأمن وصفحات الجرائد، يتّضح أنّ معركة الاعتراف بدولة فلسطين ليست فقط قضية سياسية، بل معركة على تعريف الشرعية نفسها: شرعية القانون الدولي من جهة، وشرعية السرديات الإعلامية من جهةٍ أخرى. إذا كان الاعتراف المتعدّد الأطراف يعيد إحياء حلّ الدولتين على الورق، فإنّ ترجمته إلى واقعٍ تفاوضي ستعتمد على ما إذا كان الدور السعودي–الفرنسي قادرًا على تجاوز إرث عقودٍ من فشل الوساطات السابقة، وإقناع الأطراف المتنازعة بأنّ القانون الدولي لم يعد خيارًا مؤجّلًا، بل قاعدة مُلزِمة لمسارٍ جديد.
يقولُ “الصّحافيُّ” عليّ بَرّو: «أسامةُ سعد، فيصلُ كرامي، والشيخُ حسنُ مرعِب قبضوا من الحزب».وكأنّكَ استحضَرتَ لنا الغيبَ، وأخرجتَ منه العَجَبَ. حتّى أطفالُ الحضانةِ يَعلَمونَ أنّ حزبَ الله مرتبطٌ بحلفائِه الذين أنكَرْتَهم على أساسِ المصلحةِ المادِّيّة. لكنّ المُستَغرَبَ هو تِلكَ العَنَجَهيّةُ التي باتتْ أَكبَرَ ممّا يُسكَتُ عنها، وأصبحتْ واضحةً للجميعِ حتى صَارَتْ تُحرِقُ حلفاءَكم قبلَ أعدائِكم.ليسَ هذا المقالُ شِماتةً بالذين قبضوا أو استفادوا؛ فالكلُّ يعرفُ أنّ الحزبَ في أوجهِه كانَ المصدرَ الأوّلَ للمالِ لكثيرٍ من حلفائِه، بل وحتى للشركاءِ في الوطن (الذين لا يوافقونَه). إنّما هُوَ تنبيهٌ ووقفةُ حقٍّ. أسامةُ سعد: المَعاركُ والمَواقفُأمّا فيما يَخصُّ النائبَ الصيداويّ أسامةَ سعد، فكمْ مرّةً أَحرقْتُموه وكانَ أوْعى من أنْ يَحتَرِق؟ من مَعرَكةِ نَزلَةِ صِيدون إلى مَعرَكةِ أبو ربيع، إلى مَعرَكةِ الأسير، إلى الثّورةِ و”بوسَطَتها”، وغيرِها من المواقفِ. وليسَ آخِرَها رئاسةُ الحكومةِ واستقبالُهُ للمعارضةِ والقوى “المدنيّة” (مع تحفّظي طبعًا)، أو حتّى الوفودِ الأميركيّةِ التي استقبلها. مواقِفُه كانت دائمًا مبنيّةً على العلمانيّةِ في مواجهةِ المذهبيّةِ والدينِ.فما لكم كيفَ تحكُمون؟لقد عملتُ في المركزِ الإعلاميّ والاستشاريّ للدكتورِ أسامةَ أكثرَ من سنتينَ كمقدّمٍ لخدمةِ الإعلامِ والاستشاراتِ والعملِ الاجتماعيّ، وأعلَمُ تلكَ الانقساماتِ التي كانَ الحزبُ يُبثّها في صيدا: «بوابةُ الجنوب»، «عاصمةُ الجنوب»، و«المدينةُ السّنّيّةُ الاستراتيجيّة». وأعلَمُ أيضًا سياسةَ “فَرِّق تَسُدّ”، والدعمَ المادّيّ للأطرافِ المتفرّقةِ التابعةِ للحزبِ أو المقَرَّبَةِ منه والمُناصرَةِ لسياساته، ومنها المكتبُ الإعلاميُّ الذي كان يُموَّلُ مُباشرةً من الحزبِ بإشرافِ بسّامَ القنطارِ. وكم احتدّ النقاشُ بينه وبينَ الراحلِ المناضلِ عصمتِ القواصِ مديرِ المكتبِ الإعلاميّ حولَ سياسةِ النشرِ ورسمِ خطوطٍ حمراء.التّنظيمُ الشّعبيُّ النّاصريُّ وُجِدَ قَبلَ وُجودِ حزبِ الله وأدواتِه وحَركاتِه، وإنْ كانَ “النّصرُ عملٌ”. ورغمَ كلِّ الجِراحِ، ظلَّ التّنظيمُ يبتلعُ الموسَ ويقفُ بجانبِ الحزبِ في مواقفَ وطنية.وأنا لستُ هنا لأشمَتَ، ولا لأدافعَ عن التّنظيم؛ فهو حزبٌ لا يُمثّلُني سياسيًا، لكنّه يُمثّلُ كلَّ صيداويٍّ يَعرِفُ تاريخَ هذه المدينةِ. كرامي والمرعبي: التاريخُ والمَواقفُأمّا عن شراءِ الذّمَمِ، فليسَ كلُّ إنسانٍ من ذلكَ الطّراز. فيصلُ ليسَ عمرَ كرامي من حيثُ السّياسةِ والاستقلاليّة؛ فهذا الإنسانُ ليسْ كذلكَ الأسدُ. وكلُّنا يتذكّرُ موقفَ عمرَ كرامي حينَ فاجأَ الجميعَ، حتى حليفهُ حزبُ الله، عندما استقالَ.دَعَمَ الحزبُ عمرَ كرامي قبلَ فيصل. وإن لم يَكتشفِ الحزبُ أنّ معظمَ حلفائِه مُنتَفِعونَ أو مستفيدونَ، فالمشكلةُ في المُعطِي لا في الآخذِ “المُنتَفِع” كما ذَكَرَ بْرو.وعندَنا مثلٌ صيداويٌّ يقول: «اللي بيفتح زنبيليو كلّ الناس بتعبّيليو».أمّا عن الشيخِ المرعبي، فالقارئُ لتاريخهِ يعلَمُ أنّه لم يُنقِلِ البندقيّةَ من كتفٍ إلى كتفٍ، ولم يُبَدلِ “الشنكاش”. بَل تحدّثَ بوطنيةٍ وقتَ الحربِ وقال: «اليومَ لن أهاجمَ الحزبَ، فكلّنا في مَعرَكةٍ ضدّ العدوّ الصهيونيّ».لكنّكم تَعَوَّدتم أنّ لا يخالفَكم أحدٌ، وأنّي “أُريكم ما أرى”. وفي الوقتِ الذي اعترضَ فيه الجميعُ على “شِبهَ الحربِ” التي أطلَقْتُمُوها (فإمّا حربٌ كاملةٌ أو دعاء)، بدأتم تُوزّعون اتهاماتِ العَمالَةِ على الناسِ. وكانَ أكثرُ مَن قادَ حملاتِكُم هذه عملاءٌ… لكنّكم تَعَوَّدتم أنّ لا يخالفَكم أحدٌ، وأنّي “أُريكم ما أرى”. وفي الوقتِ الذي اعترضَ فيه الجميعُ على “شِبهَ الحربِ” التي أطلَقْتُمُوها، بدأتم تُوزّعون اتهاماتِ العَمالَةِ على الناسِ تَمَهَّلْ… تَمَهَّلْ يا “بَرّو”أسامةُ سعدُ المعروفُ بمواقِفِه الوطنيّةِ أبًا عن جدٍّ، أو من تريدُ أن تَستخدمَهم كأمثلةَ، هم لبنانيّونَ، ليسوا أطفالًا في السّياسةِ. قد أختَلِفُ معهم، وقد تكونُ زواياهم ضيّقةً، لكنَّ لديهمَ الحدَّ الأدنى من القُدرةِ على التّفريقِ بين النارِ والماء، بين ما يُحَرِّقُ البلدَ وما قد يُخدِمُ مصلحتَهُم الشّخصيّةَ أو مصلحةَ الوطن. تَمَهَّلْ… فالحربُ مع العدوّ الصهيونيّ لَم تَنتهِ. بيوتُ أهلِنا في طرابلسَ، الطّريقِ الجديدةِ، الجبلِ، وصيدا ما زالتْ مفتوحةً رغمَ الجِراحِ.وصيدا المَجروحةُ بشبابِها وعائلاتِها من الاستفزازاتِ — أو أقلّها معركتُكم مع الشيخِ أحمدِ الأسير — ستبقى مدينةً تَتعاملُ بأَصلِها، لا بالعَنجهيّةِ والاسْتكبارِ وفرضِ أمرٍ واقِعٍ تَبَيّنَ أنّه مجرّدُ وَهْمٍ. لمشاهدة المقابلة إضغط على الزر أدناه: Click here