كثيرٌ منّا لا يعرفُ صلاحَ خلف، “أبو أحمد”. قد نكونُ صادفناه يومًا في أحدِ شوارعِ صيدا، وقد لا نكون.هو واحدٌ من عشراتٍ، بل مئاتٍ، مرّوا وسيمرّون بصمتٍ. لا نسمعُهم إلّا حين يُحدِثون صخبًا. وغالبًا ما يكونُ هذا الصخب – للأسف – على شكل مأساةٍ أو مُصابٍ، كحادثةٍ أو موتٍ أو فاجعة… منذ أيّامٍ، مات هذا العاملٌ المطمورٌ في بلديّة صيدا بعدما لفظتْه مستشفياتُ المدينة؛ لا لشيء، فقط لأنّه لم يكن يملك مالًا حين أصابَه عارضٌ صحّي. ولم يؤمن له المال حين داهمت قلبَه المتعب أزمةٌ لم يعد باستطاعتِه أن يتحمّل شدّتَها، فاستكان، تاركًا وراءه قصصًا كثيرةً تُشبهه. كلّنا ساهمنا في موتِ خلف. كلّنا قتلناه حين ارتضينا أن تكونَ صيدا وبلديّتُها على ما هي عليه اليوم، ونقف جانبًا متفرّجين ومنتظرين. لم يهتمّ خلف بتحالفاتِ القوى السياسيّة في المدينة، التي ركبت هذا المجلسَ المشوَّه الكئيب. لم يعنِه توزيعُ المهام واللجان والرئاسة وعملُ الصناديق، ولا “ولدنات” الوافدين على ملعبِ الشأن العام المتربّصين ببعضهم حد العداوة والحسد.جلُّ ما كان اهتمامُه أن يكون قادرًا على أخذِ حبّةِ دواءٍ حين يمرض يومًا، أو أن يدخل مستشفى إذا زادت وطأةُ المرض. لكن حتّى هذا الأمر لم تضمنْه له بلديّةُ صيدا، كحقٍّ محسوم. لا يمكنك أن تزرعَ حسًّا في جسدٍ لا يفقه معنى الشعور بالآخر. لا يمكنك أن تُنبِت فكرًا في عقلٍ لا يرى أبعد من سراب ظلِّ كرسي. ومهما تكن الأعذار، وتقاذفُ المسؤوليّات، وتبسيطُ المواضيع، والتسليمُ بقدرِ الله خيرِه وشرِّه، لو كان فيكم رجلٌ لما كانت الروايةُ كما سمعناها عن مأساةِ الفقيد. يجسّد خلف معاناةَ العشراتِ من أقرانِه العاملين في بلديّة صيدا بلا غطاءٍ صحّي، ولا ضمانٍ اجتماعيّ، ولا حتّى حسٍّ إنسانيّ يُذكّر القائمين على صندوق “الشحادة البلديّة” أنّ المال الذي تأخذونه من ميسوري المدينة يجب أن يُوزَّع على فقرائِها، بلا مَنّةٍ منكم ولا جميل… لا على سفراتِكم ونزواتِكم – عاطفيّةً كانت أم شخصيّةً أم مصلحيّة. فلا تستغربوا حين تسألون ولا تجدون أحدًا ليُشارِككم الذهابَ لأداء واجبِ العزاء بالميّت، فقد بتم خزيًا يستعِر منه، ويتجنّبه الناس. ولصندوقِ “التسوّل البلديّ”، الذي لم يُنقِذ خلف وهو مَلآن، قصاصٌ مستطيرٌ في القادم من الأيّام. فترقبوا…
على الرغمِ من أنَّ الموضوعَ لا يتعدّى كونه مجرّدَ انتخاباتٍ عاديّةٍ لجمعيّةٍ خيريّةٍ، على عراقتِها والتصاقها بعائلات صيدا تاريخيا، باعتبارِ أنَّ الأمرَ برمّتِه لا يُقدِّمُ ولا يُؤخِّرُ في مجموعةِ أزماتٍ متشعِّبةٍ تعيشُها المدينة، إلّا أنَّ مصادرَ صيداويّةً مُتابِعةً توقّفت عند النتائجِ التي أفضت إليها انتخاباتُ هذه الجمعيّة اليوم، والتي جاءت على عكسِ ما كانت تُريدُ فرضَه إحدى القوى السياسيّةِ الأساسيّةِ في المدينة، التي كانت تُفَضِّلُ تغييرًا في منصبِ الرئاسةِ والأعضاء، وهو ما لم يحدث. بحسبِ مُطَّلعين، فقد سعت قوى سياسيّةٌ أساسية في المقلب الآخر لكسرِ هذا القرار في الساعاتِ الأخيرة ما قبلَ الانتخابات، وتثبيتِ الرئيسِ الحالي، لتكريسِ أنَّ ليس كلُّ ما يُقرِّرُه هذا القُطبُ وحدَه سيتمُّ التعاملُ معه باعتبارِه “فرمانًا” مُلزِمًا. ما حصل قد يمر مرور الكرام عند كثيرين من الصيداويين، لكنه مؤشِّرٌ واضحٌ الدلالة على أنَّ الانتخاباتَ النيابيّةَ قد انطلقت بأشكالٍ مُقنَّعةٍ، وحروبٍ صغيرةٍ ستكبرُ تباعًا في القادم من الأيام.
سَلَّطَت حادثةُ وفاةِ العاملِ صلاح في بلديةِ صيدا، التي وقعت قبل أيّامٍ إثرَ أزمةٍ قلبيةٍ حادّة، الضوءَ على إشكاليةٍ خطيرةٍ تتعلّق بامتناعِ عددٍ من مستشفياتِ المدينةِ عن استقبالِه كحالةٍ طارئة. وهذه المأساةُ الفرديةُ كشفت عن نقاطٍ جوهريةٍ تستدعي نقاشًا معمّقًا للوصولِ إلى حلولٍ جذريةٍ لمشكلةٍ صحيةٍ مزمنةٍ يُعاني منها الكثيرُ من المقيمينَ في صيدا. إنَّ وضعَ المرحومِ صلاح لا يختلف كثيرًا عن حالِ العديدِ من العمالِ المياومينَ وغيرِ الدائمينَ في البلدية، الذين يفتقرونَ إلى الرعايةِ الصحيةِ والاستشفائيةِ الأساسية، فضلًا عن عدمِ تسجيلهم في الصندوقِ الوطنيِّ للضمانِ الاجتماعي. وهذا الواقعُ المريرُ يُحَتِّمُ إيجادَ حلولٍ عاجلةٍ ومستدامةٍ لهم، خاصةً في ظلِّ الظروفِ الاقتصاديةِ والاجتماعيةِ الصعبةِ التي تمرُّ بها البلاد. تزايدُ حالاتِ أمراضِ القلب تُعَدُّ مبادرةُ النائبِ عبد الرحمن البزري بالتواصلِ مع وزيرِ الصحة، ركان ناصر الدين، لبحثِ المشكلةِ وإيجادِ حلولٍ لها، خطوةً إيجابيةً تستحقُّ التقدير. وقد تضمّن البيانُ الصادرُ عن مكتبِ النائب الحديثَ عن اتفاقٍ مبدئيٍّ لإقامةِ مركزٍ متخصصٍ لمعالجةِ حالاتِ القلب، وطلبٍ من مجلسِ الإنماءِ والإعمار إعدادَ دراسةٍ بهذا الشأن ومتابعةِ الموضوع. ومع ذلك، فإنَّ العبرةَ الحقيقيةَ لا تكمن في الاتصالاتِ والوعودِ فحسب، بل في سرعةِ التنفيذ، خصوصًا مع التزايدِ الملحوظِ في حالاتِ الإصابةِ بأمراضِ القلب. ويَتَطَلَّبُ تسريعُ هذا التنفيذِ متابعةً دؤوبةً وحثيثةً من نائبي المدينةِ ومجلسِها البلدي، باعتبارِهم الجهاتَ المعنيّةَ والمباشرةَ بهذه القضية. لكنَّ القضيةَ الأهمَّ والأكثرَ تعقيدًا تتصلُ بالأسقفِ الماليةِ المحددةِ لمستشفياتِ صيدا لتغطيةِ حالاتِ أمراضِ القلب. وهنا تبرزُ تساؤلاتٌ مُلِحَّة: مَن يُحَدِّد هذه الأسقف؟ ولماذا تتوقفُ التغطيةُ بعد تسعةِ أشهرٍ فقط؟ وكيف يمكنُ للمواطنِ أن يتدبّرَ أمورَه الصحيةَ خلالَ الأشهرِ المتبقيةِ من العام؟ وهل تُراعى في هذه التحديداتِ أعدادُ المقيمينَ في منطقةِ صيدا، وعددُ الأسرّةِ المتاحة، وكيفيةُ توزيعِها على المناطقِ اللبنانية؟ وهل يُشكّلُ عددُ المقيمينَ المعيارَ الأساسيَّ في تحديدِ هذه الأسقف؟ هذه التساؤلاتُ تستدعي تعاونًا وثيقًا بين المجلسِ البلدي، ممثَّلًا باللجنةِ الصحية، والقوى السياسيةِ في المدينة، لمتابعةِ الموضوعِ بشكلٍ جدّيٍّ مع الوزاراتِ المعنية. أخلاقياتُ المهنةِ الطبية يبقى موضوعٌ بالغُ الأهميةِ يتعلّق بأخلاقياتِ المهنةِ الطبية. فهل يحقُّ لأيِّ مستشفى أن يرفضَ استقبالَ حالاتٍ خطِرةٍ جدًّا بسببِ الوضعِ الماليِّ للمريض، أو بحجّةِ عدمِ توفرِ أسرّةٍ على حسابِ وزارةِ الصحة؟ هذا التساؤلُ يكتسبُ أهميةً خاصةً في ظلِّ وجودِ بروتوكولٍ واضحٍ للحالاتِ الطارئة، ينصُّ صراحةً على واجبِ المستشفى استقبالَ المريضِ المصابِ بحالةٍ طارئة، وتقديمَ الإسعافاتِ الأوليةِ اللازمةِ له. لذا، يَتوجّبُ على الجهاتِ المعنيةِ التوقّفُ مليًّا أمامَ هذا الموضوع لمعالجتِه بجدّية، بدلًا من الاكتفاءِ بنقدِ ما جرى وطَيِّ الصفحةِ دونَ محاسبةٍ أو تغييرٍ حقيقيّ. إنَّ حياةَ المواطنينَ وصحتَهم يجب أن تكونَ فوق كلِّ اعتبارٍ ماديٍّ أو إداريّ.