في وطن يصارع من أجل البقاء على حافة الانهيار، لم يعد الفن مجرد ترفيه، بل أصبح ضرورة أخلاقية ومرآة للوجدان العام. لكن ما نشهده اليوم في برنامج “مرحبا دولة” يتجاوز حدود النقد الساخر المشروع، ليتحول إلى تلاعب خطير بالرموز الوطنية وتعدٍّ ممنهج على هيبة الدولة ومؤسساته ابتذال الرموز الوطنيةإن تحويل مؤسسات الدولة، من قوى أمن ورموز سيادية، إلى مادة خام لنكات تستهين بالعلم والنشيد والزي الرسمي، ليس إبداعاً فنياً، بل هو ابتذال يفرّغ الرسالة من معناها ويسقط الاحترام عن الشاشة.نعم، الفن الساخر هو ركن أساسي في أي ديمقراطية حية، لكن هناك خيط رفيع يفصل بين نقد الأداء العام البنّاء، وبين التحريض على الازدراء وتقويض الثقة المجتمعية. عندما تُداس الرموز التي توحدنا، تتوقف حرية التعبير لتبدأ مسؤولية التعبير. إن الانتقال من “الكوميديا السياسية” الهادفة إلى “التحقير الاجتماعي” هو انزلاق نحو فوضى لا تخدم إلا خصوم الوطن. من يشارك في تآكل الثقة؟لا يمكن إلقاء اللوم على جهة واحدة، فالمسؤولية هنا مشتركة وتتوزع على أطراف عدة:صنّاع العمل: الكتّاب والمخرجون والممثلون يدركون أكثر من غيرهم أن الموهبة الحقيقية لا تقاس بالجرأة على كسر المحرمات، بل بالقدرة على قول الحقيقة دون سحق الكرامات أو تسطيح الواقع. ما يقدمونه اليوم ليس نقداً للواقع، بل هو تشويه له.القناة المنتجة: الشاشة ليست مجرد مرآة، بل هي منبر يصنع الذوق العام ويوجه الرأي. عندما تتحول إلى مصنع للتهكم على هيبة القانون، فإنها تصبح شريكاً أساسياً في تآكل الثقة التي يحتاجها أي مجتمع للنجاة من أزماته.الجهات الرقابية والقضائية: قد نختلف حول التكييف القانوني لما يُعرَض، لكن هذا لا يلغي الواجب الوطني في رسم حدود واضحة بين النقد والإهانة. إن ترك الأمور تمر تحت حجة “متطلبات السوق” و”رغبة الجمهور” هو تشريع للانحدار وتثبيت له. إن تحويل مؤسسات الدولة، من قوى أمن ورموز سيادية، إلى مادة خام لنكات تستهين بالعلم والنشيد والزي الرسمي، ليس إبداعاً فنياً، بل هو ابتذال شهرة على أنقاض الوحدة الوطنية من المؤسف أن أسرع طريق للشهرة في لبنان أصبح يمر عبر إثارة النعرات الطائفية. ليس صعباً أن تصنع “الترند” حين تتحدث بلغة الطائفية، وتغمد سكين النكتة في خاصرة “الآخر”، فيصفق لك من يبحث عن فتنة سريعة. هذا ليس فناً، بل تجارة صريحة بالشرخ الأهلي. من يعتاش على تأجيج الغرائز، أياً كان موقعه، يلعب بالنار فوق برميل بارود، ومن يوفر له المنصة والتمويل يشارك في تغذية دوامة الانحلال الوطني. كن ناقداً لا مجرد رقمإلى المشاهد الكريم، ارتقِ بوعيك ولا تكن مجرد رقم في عداد المشاهدات. أنت صاحب ذائقة ومسؤولية. لا تضحك على حساب وطنك أو مجتمعك، فسقوط هيبة القانون يعني أنك ستكون أول الخاسرين. كن ناقداً، واسأل دائماً: ما الفكرة؟ ما القيمة؟ ومن المستفيد الحقيقي من تحويل غضبنا المشروع إلى نكات سطحية؟ ابحث عن البديل وادعمه، فهناك فنانون يصنعون نقداً شجاعاً وراقياً دون إهانة أو تسخيف. قد نختلف على تفاصيل القوانين والأحكام، لكننا لا يجب أن نختلف على حقيقة أن الوطن ليس "إيفيهًا" عابرًا في مشهد كوميدي. من أراد أن ينتقد الدولة بصدق، فليوجه سهامه إلى مكمن الخلل: السياسات الفاشلة، القرارات الخاطئة، ومنظومات الفساد. أما من يختار الطريق الأسهل عبر تحطيم ما تبقى من قواسمنا المشتركة، فليعلم أنه لا يبني سوى شهرة زائفة على ركام وطننا.
صيدا في قلب الحدث. قد لا يَعلَمُ كثيرون بحقيقةِ ما يَجري في كواليسِ السياسةِ المحليّة والإقليميّة، لكنَّ المؤكَّد أنَّ المدينةَ في قلبِ الحساباتِ الكبرى، وإنْ لم يَستشعرْ أهلُها حجمَ المعركةِ “التأسيسيّةِ” المُقبلةِ عليها في القادمِ من الأيام، والتي ستتسارعُ وتيرتُها بشكلٍ جدّيٍّ وواضح. مصادر سياسية مطلعة تؤكد أنّه ليس تفصيلاً عابراً أن تختار دولة إقليمية كبرى، ذات ثقل سياسي وتأثير دولي عظيم، قطباً صيداوياً دون غيره من الشخصيات السُنية على امتداد المساحة اللبنانية الكبرى. فالرسالة واضحة لمن يهمه الأمر: هذا الرجل هو “رجلنا الأول” سُنياً في لبنان اليوم، ومعركته النيابية في صيدا لن تكون مجرّد استحقاق محلي عادي، بل مواجهة مفتوحة لن يُسمح فيها بخسارته، مهما بلغت الأثمان، فزينوا حساباتكم وفق هذه المعايير. وبحسب متابعين، فإنّ هذه المعركة تتجاوز حدود الصندوق الانتخابي، إذ تحمل في طياتها إشارات ورسائل سياسية على أكثر من مستوى. نجاح هذا القُطب في فرض نفسه لاعباً أساسياً في مدينته سيكون بمثابة نقطة انطلاق على طريق أوسع، قد توصله بعد الانتخابات إلى السرايا الحكومية. وبالفعل بدأت “المحرّكات” بالدوران لهذه الغاية…
في بلدٍ اعتاد أن يقدّم نفسه كمنارةٍ للعلم والثقافة، تتحوّل الجامعةُ اللبنانية، الجامعةُ الوطنية الوحيدة، إلى صورةٍ مُصغَّرة عن انهيار الدولة. القاعاتُ تضيق بطلابها، والأساتذةُ يُهانون بتأخير مستحقاتهم، والمناهجُ لا تزال أسيرةَ عقودٍ مضت. كلُّ ذلك يجري تحت أنظار سلطةٍ سياسية تتعامل مع المؤسسة الأكاديمية الأهم في لبنان وكأنها عبءٌ زائد، لا رافعة وطنية صفوف كالمخيماتيكفي أن يزور المرءُ كليةَ العلوم أو الحقوق أو الإعلام ليكتشف المأساة: قاعاتٌ تستوعب مئةَ طالبٍ تضم أحياناً أكثر من مئتين. المقاعدُ غيرُ كافية، والطلابُ يقفون أو يجلسون على الأرض ليستمعوا إلى محاضرةٍ تُلقى على عجل.بحسب الأرقام الرسمية، بلغ عددُ طلابِ الجامعة اللبنانية نحو 80 ألفَ طالبٍ قبل الأزمة المالية، ليتراجع العددُ المُسجَّل عام 2024–2025 إلى 50 ألفاً فقط من أصل 65 ألفاً مُؤهَّلين للتسجيل.هذا الانخفاضُ لا يعود إلى تحسّن الظروف، بل إلى تسرّب عشرات الآلاف نحو الجامعات الخاصة أو الهجرة القسرية، بعد أن عجزت الجامعةُ عن فتح صفوفٍ إضافية أو توفير مقاعدَ تليق بأبنائها. أساتذة على قارعة الطريقالأستاذُ الجامعي، الذي يُفترض أن يكون قدوةً علمية، تحوّل إلى موظفٍ مُهان. رواتبه فقدت أكثر من 90% من قيمتها بفعل انهيار العملة. بدلُ الإنتاجية، الذي يُفترض أن يُعوّض جزءاً من الخسارة، أصبح مجرد فتات. عقودُ التفرّغ تُؤجَّل، والمتعاقدون بالساعة يعيشون على قلقٍ دائم: هل تُدفع مستحقاتهم هذا الشهر أم بعد سنة؟لا عجب إذن أن نشهد إضراباتٍ متكرّرة تهدّد العام الجامعي بالشلل. فكيف يُنتظر من أستاذٍ لم يقبض حقَّه أن يُقدّم تعليماً نوعياً أو أن يُواكب التطور البحثي العالمي؟ بلغ عددُ طلابِ الجامعة اللبنانية نحو 80 ألفَ طالبٍ قبل الأزمة المالية، ليتراجع العددُ المُسجَّل عام 2024–2025 إلى 50 ألفاً فقط من أصل 65 ألفاً مُؤهَّلين للتسجيل مناهج جامدة في زمن متسارعبينما تتسابق الجامعاتُ الإقليمية على تحديث برامجها وربطها بسوق العمل، لا تزال الجامعةُ اللبنانية تتخبّط في تطبيق نظام LMD. في بعض الكليات، تُفرض مبارياتُ دخولٍ غيرُ مبرّرة لشهادة الماستر، ما يحوّل التعليمَ إلى امتحانٍ إضافي بدل أن يكون امتداداً للتعلّم.المختبراتُ تعاني نقصاً في المعدات، والمكتباتُ ما زالت تعتمد على كتبٍ متقادمة، في حين يغيب الاستثمارُ في التكنولوجيا التعليمية. في زمن الذكاء الاصطناعي والاقتصاد الرقمي، ما زال طلابُ الجامعة اللبنانية يدرسون بوسائل ثمانينيات القرن الماضي. 21,958 طالباً خسرتهم الجامعةُ بين عامي 2021 و2023، أي ما يُعادل رُبع طلابها نسبةُ طلاب الجامعة من مجمل التعليم العالي في لبنان انخفضت من 60% في التسعينيات إلى نحو 35% فقط اليوم عشراتُ الصفوف في الكليات تبدأ متأخرة أو تُقسَّم على دفعات، ما يجعل الطالبَ ينتظر أشهراً قبل أن يبدأ مادته الأساسية هذه الأرقامُ ليست إحصاءاتٍ باردة، بل مؤشراتُ انهيارٍ مُمنهج. حين تخسر الجامعةُ اللبنانية موقعَها كخيارٍ أول للطلاب، يخسر لبنان ما تبقّى من عدالةٍ في التعليم. صرخة لا بد منهاالسلطةُ تصمت، والطلابُ يهاجرون، والأساتذةُ يُستنزَفون. النتيجة: تفريغُ الجامعة من دورها التاريخي، وفتحُ الطريق أمام الجامعات الخاصة، التي تتحول يوماً بعد يوم إلى الخيار الإجباري لمن يستطيع الدفع، فيما يُترك أبناءُ الطبقات الوسطى والفقيرة لمصيرهم.الجامعةُ اللبنانية ليست مجرد مبنى أو مؤسسة. هي ذاكرةٌ وطنية، مصنعُ كفاءات، وحصنٌ أخير للفقراء في وجه احتكار التعليم. إنقاذُها لا يكون بترقيعٍ هنا أو دعمٍ مؤقتٍ هناك، بل بإرادةٍ سياسية تعترف بأنها العمودُ الفقري للبلد.هل يُعقَل أن تُترك الجامعةُ، التي خرّجت آلافَ القضاة والمهندسين والأطباء والصحافيين، لتواجه مصيرَها وحيدة؟ هل يريدون أن تتحوّل من جامعة الوطن إلى “جامعة الأطلال”؟ إن لم تُفتح الصفوف، وتُدفع المستحقات، ويُحدَّث المنهج، ويُعاد الاعتبار للأستاذ والطالب، فإن الحديث عن “جامعة لبنانية” سيبقى مجردَ ذكرى رومانسية، تُروى للأجيال المقبلة عن زمنٍ كان فيه التعليمُ العام المرموق أمراً ممكناً في هذا البلد.