في بلدٍ اعتاد أن يقدّم نفسه كمنارةٍ للعلم والثقافة، تتحوّل الجامعةُ اللبنانية، الجامعةُ الوطنية الوحيدة، إلى صورةٍ مُصغَّرة عن انهيار الدولة. القاعاتُ تضيق بطلابها، والأساتذةُ يُهانون بتأخير مستحقاتهم، والمناهجُ لا تزال أسيرةَ عقودٍ مضت. كلُّ ذلك يجري تحت أنظار سلطةٍ سياسية تتعامل مع المؤسسة الأكاديمية الأهم في لبنان وكأنها عبءٌ زائد، لا رافعة وطنية صفوف كالمخيماتيكفي أن يزور المرءُ كليةَ العلوم أو الحقوق أو الإعلام ليكتشف المأساة: قاعاتٌ تستوعب مئةَ طالبٍ تضم أحياناً أكثر من مئتين. المقاعدُ غيرُ كافية، والطلابُ يقفون أو يجلسون على الأرض ليستمعوا إلى محاضرةٍ تُلقى على عجل.بحسب الأرقام الرسمية، بلغ عددُ طلابِ الجامعة اللبنانية نحو 80 ألفَ طالبٍ قبل الأزمة المالية، ليتراجع العددُ المُسجَّل عام 2024–2025 إلى 50 ألفاً فقط من أصل 65 ألفاً مُؤهَّلين للتسجيل.هذا الانخفاضُ لا يعود إلى تحسّن الظروف، بل إلى تسرّب عشرات الآلاف نحو الجامعات الخاصة أو الهجرة القسرية، بعد أن عجزت الجامعةُ عن فتح صفوفٍ إضافية أو توفير مقاعدَ تليق بأبنائها. أساتذة على قارعة الطريقالأستاذُ الجامعي، الذي يُفترض أن يكون قدوةً علمية، تحوّل إلى موظفٍ مُهان. رواتبه فقدت أكثر من 90% من قيمتها بفعل انهيار العملة. بدلُ الإنتاجية، الذي يُفترض أن يُعوّض جزءاً من الخسارة، أصبح مجرد فتات. عقودُ التفرّغ تُؤجَّل، والمتعاقدون بالساعة يعيشون على قلقٍ دائم: هل تُدفع مستحقاتهم هذا الشهر أم بعد سنة؟لا عجب إذن أن نشهد إضراباتٍ متكرّرة تهدّد العام الجامعي بالشلل. فكيف يُنتظر من أستاذٍ لم يقبض حقَّه أن يُقدّم تعليماً نوعياً أو أن يُواكب التطور البحثي العالمي؟ بلغ عددُ طلابِ الجامعة اللبنانية نحو 80 ألفَ طالبٍ قبل الأزمة المالية، ليتراجع العددُ المُسجَّل عام 2024–2025 إلى 50 ألفاً فقط من أصل 65 ألفاً مُؤهَّلين للتسجيل مناهج جامدة في زمن متسارعبينما تتسابق الجامعاتُ الإقليمية على تحديث برامجها وربطها بسوق العمل، لا تزال الجامعةُ اللبنانية تتخبّط في تطبيق نظام LMD. في بعض الكليات، تُفرض مبارياتُ دخولٍ غيرُ مبرّرة لشهادة الماستر، ما يحوّل التعليمَ إلى امتحانٍ إضافي بدل أن يكون امتداداً للتعلّم.المختبراتُ تعاني نقصاً في المعدات، والمكتباتُ ما زالت تعتمد على كتبٍ متقادمة، في حين يغيب الاستثمارُ في التكنولوجيا التعليمية. في زمن الذكاء الاصطناعي والاقتصاد الرقمي، ما زال طلابُ الجامعة اللبنانية يدرسون بوسائل ثمانينيات القرن الماضي. 21,958 طالباً خسرتهم الجامعةُ بين عامي 2021 و2023، أي ما يُعادل رُبع طلابها نسبةُ طلاب الجامعة من مجمل التعليم العالي في لبنان انخفضت من 60% في التسعينيات إلى نحو 35% فقط اليوم عشراتُ الصفوف في الكليات تبدأ متأخرة أو تُقسَّم على دفعات، ما يجعل الطالبَ ينتظر أشهراً قبل أن يبدأ مادته الأساسية هذه الأرقامُ ليست إحصاءاتٍ باردة، بل مؤشراتُ انهيارٍ مُمنهج. حين تخسر الجامعةُ اللبنانية موقعَها كخيارٍ أول للطلاب، يخسر لبنان ما تبقّى من عدالةٍ في التعليم. صرخة لا بد منهاالسلطةُ تصمت، والطلابُ يهاجرون، والأساتذةُ يُستنزَفون. النتيجة: تفريغُ الجامعة من دورها التاريخي، وفتحُ الطريق أمام الجامعات الخاصة، التي تتحول يوماً بعد يوم إلى الخيار الإجباري لمن يستطيع الدفع، فيما يُترك أبناءُ الطبقات الوسطى والفقيرة لمصيرهم.الجامعةُ اللبنانية ليست مجرد مبنى أو مؤسسة. هي ذاكرةٌ وطنية، مصنعُ كفاءات، وحصنٌ أخير للفقراء في وجه احتكار التعليم. إنقاذُها لا يكون بترقيعٍ هنا أو دعمٍ مؤقتٍ هناك، بل بإرادةٍ سياسية تعترف بأنها العمودُ الفقري للبلد.هل يُعقَل أن تُترك الجامعةُ، التي خرّجت آلافَ القضاة والمهندسين والأطباء والصحافيين، لتواجه مصيرَها وحيدة؟ هل يريدون أن تتحوّل من جامعة الوطن إلى “جامعة الأطلال”؟ إن لم تُفتح الصفوف، وتُدفع المستحقات، ويُحدَّث المنهج، ويُعاد الاعتبار للأستاذ والطالب، فإن الحديث عن “جامعة لبنانية” سيبقى مجردَ ذكرى رومانسية، تُروى للأجيال المقبلة عن زمنٍ كان فيه التعليمُ العام المرموق أمراً ممكناً في هذا البلد.
أخبرتُكَ عن سفينةٍ بأربعةِ قُبَاطِنَةٍ أو حتى أكثر، كلٌّ منهم يقودُها بحسب هواه، هل تصلُ إلى برِّ الأمان؟ هل تستطيعُ الإبحارَ في أمواجٍ عاتيةٍ لتبلغَ وجهتَها؟ وهل سيتّفق قُوَّادُها على وجهتِها أصلًا؟ بالطبع لا. هذا حالُ بلديةِ صيدا اليوم، سفينةٌ برؤوسٍ ورياسةٍ متعدّدة، وكلٌّ يدَّعي المصلحةَ وفقًا لرؤيته وهواه، وحُكمًا حساباته الخاصّة المادّية. أمّا في المحصّلة فصيدا وأهلُها هم الخاسرُ الأكبر، والمدينة وناسُها من يدفعُ الثمنَ على حساب أمورٍ تمسُّ جوهرَ تفاصيل حياتهم اليومية. منذ أن أفضت نتيجةُ انتخابات المجلس البلدي في مدينة صيدا إلى ما آلت إليه اليوم، لم يعُد السؤالُ: “لماذا؟”، بل بات: “متى؟” متى سيقعُ الانفجارُ الذي سيُطيحُ بالمجلس والبلدية بسبب عدمِ تجانس أعضائه من لوائح متنافسة في الشكل والجوهر والمقاربات والحلول وطرق العمل؟ بلديةُ صيدا اليوم – كما يقول معظمُ أهل المدينة – بلديةٌ بأربعةِ رؤوسٍ أو خمسةٍ أو حتى ستة. والاجتماعاتُ العقيمةُ العاصفةُ التي يشهدُها المجلسُ البلدي، والتي صار يصلُ فيها النقاشُ حدَّ تعيير رئيس البلدية من قِبَلِ أعضاءٍ بقولهم: “نحن من أجلسناك على كرسيك هذا، وأتيتَنا قبل الانتخابات تطلب الدعم والتأييد”، مجلسٌ وصل فيه التنازعُ حدَّ التراشق بقوارير المياه بين أعضائه، وبلغ فيه النفاقُ السياسي والشخصيّ محاباةً رخيصة، هو مجلسٌ غيرُ قابلٍ للحياة أو الاستمرار. صارت البلديةُ كرسيًّا كلٌّ يتجاذبُه لصوبِه؛ فيها من يُقرِّر منفردًا أن يُزفّت طريقًا أو جورةً آملًا أن “تُعبِّد” طريقَه إلى كرسي الرئاسة في الدورة المقبلة، أو حتى النيابة نفسها – كما قالها “باعتبارها الأقرب” – لأنّه لم يعُد قادرًا على الانتظار بعدما أعجبتْه العراضاتُ واستهوته الصورُ المرفوعةُ ويافطاتُ المديح. رئيسٌ يبتغي مرضاةَ الجميع لتحقيق المصالح التي تعودُ بالمنفعة عليه. وآخرُ تنتهي تنظيراتُه وشعاراتُه الرنّانة عند زاويةٍ عقاريةٍ مصلحيةٍ صغيرة. ومتحمّسٌ موهومٌ بالأرقام يرى في مُلخَّص Power Point على الشاشة مشاريعَ قادرةً على أن ترفعَ المدينةَ من حضيضها إلى مصافّ العالمية، دون الحدّ الأدنى من الدراية بمتطلّبات العمل بالشأن العام والسياسة والمجتمع. سيسجّلُ التاريخُ لهذا المجلس البلدي أنّه قضى على آمالٍ كثيرة عقدها الصيداويّون على إيصال جيلٍ شابٍّ جديد مفعم بالحداثة والحيوية والطاقة للعمل والإنتاجية إلى مركز القرار، ليترحّموا على “ديناصوراتٍ” مضت، أقَلَّه كان للمجلس بعضٌ من هيبةٍ أضاعتها “وَلدنات” الطارئين على غفلة. لكنْ: “كما تكونون يُولّى عليكم…” رأفة بالناس بعد تجربة مئةِ يومٍ من العمل، لو كان هذا المجلس يهتمُّ بالمدينة وأهلها، فحريٌّ به الاستقالةُ رأفةً بالناس، والدعوةُ إلى انتخاباتٍ جديدة بعدما عرف الجميعُ ما كانوا يجهلون. فالاستمرارُ على هذه الشاكلة انتحارٌ بحقّ صيدا، لا تستحقُّه.
يشبِّهُ مصدرٌ صيداويٌّ مخضرَم في العمل السياسي بالمدينة، منذ سنين طوال، حظوظَ أحدِ المرشَّحين الجُدد المُندفعين للانتخاباتِ النيابية المقبلة، بحظوظَ مارين لوبان بالفوزِ بالانتخابات الفرنسية. فكما أنَّ المزاجَ العامَّ الفرنسي لم يتآلَفْ بعد مع فكرةِ وجودِ امرأةٍ على رأسِ الدولة، على الرغمَ من كلِّ الحداثة والجَندَرة وأفكار المساواة، كذلك المزاجُ العامُّ الصيداوي لن يقبلَ بانتخابِ أحدِ المرشَّحين المشكوكٍ في صِحَّةِ انتماءِ أصولِهم إلى المدينة، فحين يصل الأمر إلى صندوقة الاقتراع يصبح الاختيار “صيداوي أُح”… مهما بلغ الزفت مبتغاه.