في إحدى اللقاءات التي جمعت رَهْطًا من فاعليات المدينة وأهلها ووافدين، يميلُ أحدُ الأقطاب الأثرياء على جليسِه بجانبه على الطاولة، يسألُه عن الشخص الذي أتاه يُلقي عليه التحيةَ بحرارة ويسأله عن حاله وأحوال عائلته… يتفاجأ الشخصُ الذي تمَّ سؤاله من قبل “القُطب الثري”، فيقول له، وعلاماتُ الدهشة باديةٌ على محيّاه: هذا عضوُ البلدية فلان… لقد كنتَ أنت أكبرَ داعمي لائحته (الأخفياء، من وراء ستار، جبناً) في المعركة الأخيرة. ألا تعرفه؟ لقد موّلت حملته وأوصلته إلى البلدية. يَنْصَدِمُ السائلُ من الإجابة، فلا يجدُ مفرًّا من الإحراج إلا أن يُكمِلَ قَضْمَ الجَزَر من صحن على الطاولة. هكذا تُدارُ المعاركُ الانتخابية في صيدا. داعمون لا يعرفون مَن يدعمون، ومدعومون لا يتعرفون على داعميهم إلا في المناسبات. أما ما يحكم العملية برمتها فغالبا ما تكون النَكَايَاتٍ السياسية، وحتى الشخصية، وأهواءِ نفوسٍ آخرُ هَمِّها المدينةُ وأهلُها ومشاكلها، ومَن يصلُ إلى الكرسي، وماذا يُقدِّم من بعد ذلك…
قرَّر عددٌ من أثرياء وميسوري المدينة، أو حتى من ناسِها العاديّين، مع عددٍ من الأطباء والمعنيّين بالشأنِ الصحّي، أن يقولوا فعلًا لا بالقولِ فحسب: لا نريد أن تضيعَ مستشفى أُخرى من صيدا وتنفلتَ خارجًا. لنعملْ معًا كي تعودَ مستشفى الجُبَيلي إلى العمل. في كثيرٍ من المحطّات، حين يتطرّق الحديث إلى “سيرة” مستشفى حَمّود، تجدُ انزعاجًا كبيرًا عند كثيرٍ من الصيداويّين وندمًا واضحًا للحالِ التي آلت إليها هذه المستشفى العريقة، بعدما تمّ بيعُها لِغرباءَ يتحكّمون بالأمن الصحي للمدينة، وخَسِرَها الصيداويّون صَرْحًا طبيًا رائدًا. في حياة المدن، لا تُقاس بعضُ العقارات باعتبارها مجرّدَ كومةِ أحجارٍ أو مساحاتٍ من أتربة؛ لبعض العقارات أهميّاتٌ استراتيجيّة، وخصوصيّاتٌ معيّنة، تجعلها أمورًا أساسيّةً في حياة المدينة وأهلِها وتطوّرها ونموّها. مستشفى الجُبَيلي، صرحٌ طبيٌّ عريقٌ، لعب — على حجمه — دورًا وحضورًا في حياة صيدا وأهلها وسكّانها. منذ سنوات، أقفل هذا الصرح أبوابَه على أملِ القيامة، منتظرًا مَن يُعيد ضخَّ الحياةِ في شرايينه ليعودَ مجدّدًا إلى الخدمة. فلماذا استمرارُ الإقفال؟ بحسب معلوماتٍ حصلت عليها صحيفة “البوست”، فليس السببُ وراء الإقفال مادّيًا بحتًا كما يظنّ كثيرون، بدليل أن “جهةً” عرضت على مالكيه الحاليّين شراؤه منذ أقلّ من عامٍ بمبلغٍ ماليٍّ “مُعتَبَر”، إلا أنّ قرار البيع لم يتّخذه المالِك لأسبابٍ كثيرة، أبرزُها نيّته أن يُعيد افتتاحَ المستشفى من جديدٍ ويعودَ إلى العمل في منطقةٍ تفتقد في محيطها الواسع وجودَ مستشفى “فعلي”، ويَسكُنُها اليوم أكثر من 50000 صيداوي. مهما تكُن المشكلاتُ والأسباب، فهي تبقى “أصغر” من تظافرِ جهودِ غُيُورين وتوافرِ كفاءاتٍ لا تفتقدُها المدينة، للاجتماعِ بنيّةٍ طيبةٍ تحت سقفٍ واحد، للتفكيرِ بالطرُقِ الأَمثَل لإحياءِ مستشفى المدينة التي هي بحاجةٍ إليها. لماذا لا يُصار مثلًا إلى تشكيلِ شركةٍ مُساهمة، للاستحصال على رأس مالٍ تشغيليٍّ وافرٍ لهذا الصرح الطبيّ، يُشارك فيها كلّ مَن يرغبُ على شكلِ أسهُم ومساهماتٍ ولو حتى عينيّة، بإشراف لجنةٍ موثوقةٍ من خبراءَ ومهنيّين محترفين في هذا المجال، على غرارِ ما يجري في كلّ أنحاء العالم؟ لجنةٌ بتدقيقٍ ماليٍّ ومهنيٍّ شفاف، تحفظُ حقوقَ المساهمين وتدير مرفقًا بطريقٍ خدماتيّة مربحة. والأفكارُ كثيرةٌ في هذا المجال. هي صرخةٌ تطلقُها "البوست" لأجلِ صيدا وأهلها، آملين أن تُلاقِيَ آذانًا صاغيةً وعقولًا راجحةً ونيّاتٍ طيبة، لا تُضطرّنا لاحقًا إلى كشفِ الجهاتِ التي تُعرقل انطلاقَ هذا المشروع وافتتاحَه لأسبابٍ حقيرةٍ تافهةٍ سخيفة، تضرّ بصيدا وأهلِها لأهواءٍ شخصيةٍ وكسلٍ لا يُغتَفَر.
قَرَّ مجلسُ بلديةِ صيدا موازنةَ عام 2026 بقيمة 315 مليار ليرة لبنانية، ومَرَّر في الجلسة نفسها دفاترَ شروطٍ لمرافقِ البلدية وكنسِ الشوارع وعددٍ من المشاريع والعروض.خبرٌ بسيطٌ في ظاهره، لكنه في العمق يطرح أسئلةً كبيرةً وخطيرة:هل نحن أمام موازنةٍ لإنقاذ المدينة وخدمتِها، أم أمام شيكٍ مفتوحٍ يُصرَفُ بلا شفافية على حساب الناس وحقوقهم؟ أين الأرقام التفصيلية؟ 315 مليار ليرة ليست رقمًا عابرًا.هذا مالٌ عام، من جيوبِ المواطنين مباشرةً أو بطريقةٍ غير مباشرة.ومع ذلك: لم نسمع عن نشرِ مشروعِ الموازنة مُفصَّلًا للرأي العام، لم نرَ جداول واضحة تُوزِّع هذه المليارات بين النظافة، الطرقات، الصرف الصحي، الشواطئ، المساحات العامة، والصيانة.لم نعرف ما هي نسبةُ الاستثمار الفعلي في البنية التحتية، مقابل النفقات التشغيلية، والرواتب، و«التلزيمات».كيف يمكن لمدينةٍ كاملةٍ أن تقبل أن تُدار أموالها بهذه الخِفَّة؟أيُّ منطقٍ يقول إن المواطن يُطالَب بدفع الرسوم والضرائب، بينما يُحجَب عنه أبسطُ حقّ: أن يعرف أين تذهبُ أمواله؟ دفاترُ الشروط… لِمَن تُفصَّل؟ الخبرُ يتحدّث عن الموافقة على دفاترِ شروطٍ لمرافقِ البلدية وكنسِ الشوارع ومشاريعَ أخرى.وهنا بيتُ القصيد:هل تم إعدادُ هذه الدفاتر بما يضمن منافسةً حقيقيةً بين الشركات؟هل نُشرت الدفاتر على الملأ، أم بقيت حبيسة الأدراج والمكاتب المغلقة؟هل أُعطيت مهلةٌ كافية للمتعهدين للتقدّم، أم فُصِّلَت الشروطُ على قياس قلّةٍ معروفةٍ مسبقًا؟ في بلدٍ غارقٍ بالفساد والسمسرات، يصبح كلُّ دفتر شروط مشروعَ شبهةٍ محتملة، ما لم يكن واضحًا وعلنيًا ومتاحًا أمام الجميع.السرية في إدارة المال العام ليست «حكمة» ولا «حسن تدبير»، بل بابٌ واسعٌ للهدر والمحاصصة. كيف يمكن لمدينةٍ كاملةٍ أن تقبل أن تُدار أموالها بهذه الخِفَّة؟ أيُّ منطقٍ يقول إن المواطن يُطالَب بدفع الرسوم والضرائب، بينما يُحجَب عنه أبسطُ حقّ: أن يعرف أين تذهبُ أمواله؟ مرَّت الموازنةُ في جلسةٍ للمجلس البلدي، بأسماءٍ معروفةٍ ومقاعدَ محفوظة.لكن اسمًا واحدًا غاب عن الطاولة: المواطن.لم تُعقد جلسةُ استماعٍ عامة، لم يتم شرحُ الموازنة بلغةٍ يفهمها الناس، لم يُفتح نقاشٌ جدّي حول الأولويات:ماذا تريد صيدا فعلًا في 2026؟ هل تريد المدينةُ أولًا:شوارعَ صالحةً للسير؟نظامَ جمع ومعالجة نفاياتٍ محترمًا؟تنظيمًا عمرانيًا يوقف الفوضى والإسمنت العشوائي؟حمايةً لشاطئها وبيئتِها؟ أم تريد فقط صورًا جديدة لقصّ الشريط، وخُطبًا، ومنشوراتٍ ممولة على فيسبوك؟ مجلسٌ بلديٌّ يُحاسَب… لا يُصفَّق له المجلسُ البلدي ليس شركةً خاصة، ولا ناديًا مغلقًا للأصدقاء.هو مسؤولٌ أمام الناس.والناس اليوم لم تَعُد تُصدّقُ الشعارات ولا بيانات: «تمت الموافقة»، «تم الإقرار»، «تم التلزيم». الحدّ الأدنى من الاحترام لعقول المواطنين يقتضي:نشرَ الموازنة كاملةً على موقع البلدية وصفحاتها، بجداول واضحة ومقسّمة.نشرَ دفاتر الشروط لكل مشروع، وفتحَ باب الاعتراض والطعن أمام أي متضرّر أو مواطنٍ حريص.إعلانَ الشركات الفائزة بالمناقصات، وقيمةِ العقود، ومدّة التنفيذ، وآليّة الرقابة. وتحديدَ آلية محاسبة واضحة، ماذا يحصل إذا تقاعست شركةٌ عن عملها، أو تلكّأت، أو خالفت الشروط؟من دون هذه الخطوات، كلُّ كلامٍ عن «خدمة المدينة» يبقى شعارًا فارغًا. صيدا ليست شركة المؤلم أن يتعامل بعض المسؤولين مع صيدا كأنها مشروعٌ استثماري، لا كمدينةٍ لها تاريخٌ، وناسٌ، وأحياءٌ، وفقراء، وموظفون، وشبابٌ عاطلون عن العمل، وبيئةٌ تعاني، وبحرٌ يُنهَب. الموازنة ليست ورقة تُقرّ في جلسة عابرة ثم تُنسى.هي خطةُ حياة لعامٍ كامل، تحدّد كيف سنعيش، وكيف ستُدار شوارعُنا، وكيف سيُعاملُنا موظفُ البلدية وعاملُ النظافة، وكيف سيبدو بحرُنا وحدائقُنا وأحياؤُنا. المالُ العام ليس مزحة. في بلدٍ منهوبٍ مثل لبنان، كلُّ ليرةٍ تُصرف من المال العام إما تكون خطوةً نحو إنقاذ الناس، أو لَبِنةً جديدةً في جدار الفساد.موازنةُ بلديةِ صيدا 2026 ليست استثناءً. إمّا أن تتحوّل إلى نموذجٍ في الشفافية والجرأة في نشر الأرقام،وإمّا أن تبقى مجرّد رقمٍ جديدٍ يُضاف إلى سلسلة الموازنات التي لم يرَ المواطن من ثمارها إلا الغبارَ والنفاياتَ والحُفَر. الكرةُ اليوم ليست فقط في ملعب المجلس البلدي، بل أيضًا في ملعب أهلِ صيدا: مَن يسكت عن مالِه… لا يحقّ له أن يشتكي من هدره غدًا.