نعم، ليستِ القضيّةُ مجرّد “تلوّثٍ مائيٍّ” قد يَصِحّ، وفي أغلبِ اليقين سيصدرُ غداً الخميس تقريرٌ على الطريقةِ اللبنانيّة “المُلوفكة”، ليقولَ ويُمَجَّ ويَعْلَك في عباراتٍ ومفرداتٍ مُنْتَقاةٍ بشكلٍ دقيقٍ لا تَقتُلُ الدِّيب ولا تُفني الغنم. “مياهُ تنورين” قضيّةٌ سياسيّةٌ بالغةُ الأهميّة. هي قضيّةُ وطنٍ يتمُّ احتلالُهُ وإخضاعُ الأحرارِ فيه ليكونوا إمّا عبيداً أو مهاجرين. هي ببساطةٍ قصّةُ الثورِ الأسودِ الذي أتحفنا بحكمتِه حين قال: “أُكِلتُ حين أُكِلَ الثورُ الأبيض”. الغولُ هو نفسه، وحشٌ قاتلٌ يتغيّرُ اسمُه بتغيّرِ الزمانِ والمكان، لكنّهُ يبقى الشرّيرَ الذي لا يُريدُ الخيرَ لأحدٍ يُعاكِسُ ما يراه. لو عَلِمَ اللبنانيّون يوماً ماذا يشربون، لَضحَّوا قليلاً ولَبكوا كثيراً. لكنّها اليوم حربُ السياسةِ والنفوذِ والمالِ والمصالحِ والماركاتِ الأخرى، وجدتْ في “تنورين” فرصةً للانقضاضِ على مؤسّسةٍ تكبُرُ وتتمددُ في السوق لتأخذَ حصّةً أكبر ممّا يُسمَحُ لها في لعبةِ تنازُعِ المصالحِ والمال. ما أقدمَ عليه وزراءُ الزراعةِ والصحّةِ في حكومةِ العهدِ الجديد شبيهٌ بـ”الحلفِ الرباعي” الذي من الممكن أن يركَبَ في لحظاتٍ حين تتقاطعُ مصالحُ المتناقضين في هذا البلدِ على حسابِ الناس. تخيَّلْ في لحظةِ فِراقٍ سياسيٍّ بين “حزبِ الله” و”الحزبِ التقدّمي الاشتراكي”، يمكنُ لِقِنّينةِ ماءٍ أن تُعيدَهُ إلى التلاقي. لا لشيءٍ، فقط لأنّ المصلحةَ الظرفيّةَ تتقدَّمُ على مصالحِ الناس جميعاً. هنا لا تبحث عن المرأة، إبحث عن قناني مياه في مهرجان حاشد، لتفهم حقيقة ما جرى! إن تركتُم “تنورين” اليوم للمنقَضّينَ عليها، سيَطالُكم السكينُ من بعدها، مهما حاولوا أن يُلبِسوا الموضوعَ لُبوساً غيرَ حقيقتِه. فتنَبَّهوا!
من وسائل الإخضاع والحصار لإسقاط المدن والقلاع المنيعة تاريخيًّا، كانت حرب المياه، وقطع الإمدادات وتجفيف المنابع، وذلك لضمان السيطرة على منطقةٍ عصيّةٍ على مُحتلّ. اليوم تبدّلت الأيّام، لكن نفس سلوكيّات الهيمنة لا تزال موجودة في ذهنيّة الغزاة. قطع الهواء يبدو صعبًا إن لم يكن مستحيلًا، لكنّ التحكّم بمصادر المياه وتوزيعها أمرٌ ممكن، أساسي. تفاهة متكررة فحين تتبحّر في أزمة مياه مدينة صيدا، وهي أزمة تتكرّر بشكلٍ تافهٍ وسخيفٍ ومريبٍ كل عام منذ سنين، لتؤذي حياة مئات الآلاف من أهل المدينة وسكّانها، وحين تدخل في فكّ شيفرات الأمور من الداخل، تجد أنّ هناك تقصّدًا غير مُبرَّر لإبقاء المدينة تحت أزمة مياه متواصلة. خاضعة، مرتهنة لحفنةٍ من غير المبالين، على الرغم من أنّ الحلول ممكنة ومتاحة، إن كانت هناك نوايا طيّبة للحلّ ولإراحة الناس. فهل يعقل أن تعاني مدينة عريقة على شاطىء المتوسط وتجاور نهرين من أزمة شّح في المياه، بينما تعيش بلدات وقرى بسيطة في جوارها وفرة مهدورة. الحلول موجودة وكثير من الدراسات والأبحاث والكلام قيل في هذا المجال على مدى سنين. ليس الموضوع ماديا أو تقنيا فحسب. “لب” الموضوع، هو رضوخ، وكسل، ولا مبالاة لدى المعنيين بالأمر قبل المتحكمين برقابنا. فلا “تفذلكوها” كثيرا. غريبٌ أمر هذه المدينة؛ قد يرتكب أحدهم جريمةً دفاعًا عن ولده إن علم بأنّ أحدًا ينوي إيذاءه بـ “شوكة”، لكنّه لا يحرّك ساكنًا على مدى سنين، ولو علم بأنّ ولده سيموت جفافًا مع الأيّام. يكفي أن تعلم أنّه في السنوات الأخيرة تمّ تعيين أكثر من 100 موظّف في “مصلحة مياه صيدا والجنوب”، 5 أو 6 منهم فقط من صيدا، لتفهم أنّ “الأمن المائي” في المدينة في خطرٌ داهم، يفرض “تحريك شُويّة طياز” لدى المعنيّين والجميع على حد سواء، قبل ألا تكفي ثرواتكم المكدَّسة كلها لشراء كوب ماءٍ لأحد أحفادكم…
منذ أن بدأتِ السلطات المعنية التشدُّدَ في فرضِ تسعيرةِ المولّداتِ الخاصّة بحسبِ التسعيرةِ الرسميّة الصادرةِ عن الوزارة، ظهرتْ إلى الواجهةِ في منطقةِ الشَّرحبيل بقُسطا – قضاء صيدا مشكلةٌ جديدةٌ تُكبِّدُ كاهلَ المواطنينَ وأهالي المنطقةِ أعباءً إضافيّة، تمثّلتْ بإقدامِ أحد “مُحتكري” أصحابِ المولّداتِ في المنطقةِ على زيادةِ رسمٍ بقيمة 8$ على خدمةِ تشغيلِ مضخّاتِ المياهِ التي تُوصلُ إلى البيوت. يأتي هذا الأمرُ كردٍّ غيرِ مباشرٍ على ما فُرضَ عليه من التقيّدِ بالسِّعرِ الرسميّ، ما دفعهُ إلى التوقّفِ عن تزويدِ مضخات المياه بالتيّارِ الكهربائيِّ، والطلبِ من الأهالي دفعَ 8$ شهريًّا عن كلِّ منزل.هذا الأمرُ الذي يُلاقي رفضًا من المواطنين حاليًّا، سيفرضُ عليهم فعليًّا في النهاية دفعَ فاتورتينِ للمياهِ سنويًّا: واحدةً لمصلحةِ المياه، وأخرى لصاحبِ المولّدات. حقيقة المشكلة مع ضرورةِ الإشارةِ إلى أنّ جوهرَ مشكلةِ المياهِ في منطقةِ الشرحبيل لم يكنْ يومًا مجرّدَ تعرفةٍ أو رسمٍ يُضافُ إلى فاتورةِ أعباءِ المواطنِ الإضافيّة، بل إنّ لُبَّ الموضوع – بحسبِ متابعينَ للملف – يكمنُ في تجاهُلِ العملِ الجدّي على تأمينِ خطّ تغذيةٍ للمضخّات، أو ما يُعرفُ اصطلاحًا بـ”خطّ الخدمات”. وهو أمرٌ لا يتحمّله صاحبُ مولّدٍ أو مُبادرٌ طَموح، بل يقعُ على عاتقِ مصلحةِ المياهِ، التي من المفترضِ أن تُوجدَ حلًّا جذريًّا لا ترقيعيًّا، يطالُ حياةَ آلافِ العائلاتِ القاطنةِ في تلك المنطقة.