مرَّ شهرٌ كامل على الاجتماعات “الفولكلورية” التي عُقدت في بلدية صيدا، وفي معمل معالجة النفايات الملاصق للمكبّ. ضمَّ الاجتماع الأوّل رئيس البلدية مصطفى حجازي وعدد من أعضاء المجلس البلدي إلى جانب عددٍ من أعضاء لجنة المعمل، فيما جمع الاجتماع الثاني إدارة المعمل بالإضافة إلى المجموعة الأولى. كما كان متوقَّعاً، لم تخرج هذه اللقاءات بأيِّ نتيجةٍ واضحة أو ملموسة، سوى مزيدٍ من الوعود المكرَّرة، لكسب الوقت والمال من قِبل إدارة المعمل، مقابل مزيدٍ من فقدان الثقة من الأطراف الأخرى. في ختام الاجتماع الثاني، طُرِح اقتراحٌ لافت، يقضي بأن تتولّى إدارة المعمل تمويل رواتب عشرة عناصر من شرطة البلدية، تكون مهمّتهم مراقبة مستوعبات النفايات ومنع “النكيشة” من فرزها. كما تردّد أن الإدارة مستعدّة لتغطية تكاليف كنس مدينة صيدا لعامٍ كامل، وهو طرحٌ لقي تجاوباً سريعاً من رئيس البلدية. إلّا أنّ ردّة الفعل الفورية جاءت من عضو المجلس البلدي المهندس محمد دندشلي، الذي أصدر بياناً قال فيه: “إذا كانت الإدارة تريد التعويض عن فشلها في معالجة النفايات وتحويلها إلى جبالٍ مكدَّسة، فعليها أن تلتزم أولاً ببنود الاتفاق الموقَّع، وأن تنظّف المدينة لعشر سنوات على الأقل، لا لعامٍ واحد فقط.” الحريق الكبير الذي اندلع في 11 آب 2025 أعاد الأزمة إلى الواجهة، ودفع اللجنة الشعبية في “التنظيم الشعبي الناصري” إلى الدعوة لاعتصامٍ ووقفة احتجاجية عند مدخل المعمل. المفارقة أنّه خلال الاعتصام، وصلت ثلاث “توكتوك” محمَّلة بمواد قابلة للتدوير، في طريقها إلى المعمل. ما يعني أنّ إدارة المعمل تشتري هذه المواد من “النكيشة” لتضاعف أرباحها من المال العام، فيما يأتي اقتراحها بتمويل شرطةٍ بلدية لضمان وصول كل النفايات إليها مباشرة، وبالتالي الاستغناء عن وسطاء الفرز. الحريق والمحاسبة على الرغم من مرور شهرٍ كامل على الاجتماعات، ورغم الحريق الكبير وما خلّفه من تداعياتٍ صحّية وبيئية خطيرة، لم يبادر المجلس البلدي حتى الآن إلى عقد جلسةٍ واحدة لمناقشة الوضع القانوني للمعمل، أو تحديد الخطوات الواجب اتّخاذها حمايةً لصحة المواطنين والمال العام. هذا الصمت المريب لا يمكن قراءته إلّا كمؤشّرٍ إلى وجود مظلّةٍ سياسية وقانونية تتيح استمرار نهب المال العام بلا حسيب أو رقيب.
آخرُ فصولِ المَهازلِ المأساويّة، قرارٌ يتّجهُ المجلسُ البلديُّ الجديدُ لاتّخاذِه في محاولةٍ لحلِّ مشكلةٍ كانت المدينةُ في غِنى عنها. شوارعُ السوقِ التجارية في المدينة، التي لم ينسَ الصيداويون ورشةَ «قَرَفِها» بعد، حينَ جرى «تبليطُها» منذُ سنواتٍ قليلة، سيتمُّ إزالتُها ليحلَّ محلَّ البلاط «الزَّفت» المجانيُّ المُقدَّمُ من قبلِ الحكومة.
في القصة الحقيقية غير المرويّة، التي غالبًا ما لا تُقال في بلدٍ كلبنان تتناهشه الطوائف والمذاهب والعصبيّات، فإنّ هناك علاقةً اضطراديّة قد لا يفهمها أحمد الشرع نفسه عن الأحداث الجارية في محافظة السويداء السوريّة وإقفال مسلخ صيدا في جنوب لبنان نلبناء بلد، كيانٍ نهائيّ لجميع أبنائه متساوون بالحقوق والواجبات، فإنّ التذاكي لا ينفع، بل الصدق والمصارحة والمواجهة بعقلانيّة وهدوء من دون نوايا خبيثة. التوقيت الغريب! لماذا أقدم محافظ الجنوب منصور ضو على إقفال مسلخ صيدا منذ أيّام فقط، في هذا التوقيت بالذات، مع العلم أنّ القاصي والداني يعلم بمخالفة هذا المرفق الأساسي للمدينة للشروط الصحيّة المطلوبة للسلامة العامّة؟ وأنه يجب معالجته ومعالجة العاملين فيه منذ سنين.في الظاهر يبدو الجواب تطبيقًا للقوانين المرعيّة الإجراء التي أُنيطت بالمحافظ بحسب، لكن يبدو في الباطن أنّ للقصة – بحسب مطّلعين – فصولًا أخرى لم تُروَ بعد. منظر كبرنا عليه مَنظر “المشايخ الدروز” من أهل مناطق حاصبيا والعرقوب، وهم يفترشون شوارع عاصمة الجنوب لبيع التين والصبْر “المميّز” في هذا الموسم من العام، مشهدٌ كبر عليه آلاف الصيداويين حتى صار جزءًا متأصّلًا من ذاكرتهم الجماعيّة. ظاهرة ودودة محلّ ترحيب، من دون تكلّف أو اصطناع، من أهل صيدا الطيّبين والمشايخ اللّبِقين الذين يُحبّهم كلّ من يتعامل معهم. الذي تغيّر في هذا المشهد الجميل هذا العام، قرار بلديّة صيدا المحقّ بمنع التفلّت العشوائي في انتشار بسطات الخضار والفواكه والبضائع في شوارع المدينة، بعدما زاد عن حدّه وبات أمرًا مؤذيًا في السنوات الأخيرة. بشكلٍ غير مباشر طال هذا القرار “البائعين الدروز” من زوّار المدينة في موسم التين والصبْر، الذين اعتادوا القيام بما يقومون به منذ سنين وسط أهلهم وناسهم. لكن شكوى أصحاب البسطات الصيداويين من السماح لهؤلاء ببيع بضائعهم، ومنعهم في المقابل من القيام بذلك، دفعت البلديّة إلى تطبيق القانون على الجميع، وذلك من منطلق المساواة أمام القانون كما ينصّ عليه الدستور و”وثيقة الوفاق الوطني”، كي لا ننساها كلازمة ميثاقيّة حتى ولو كان الحديث عن “تين البيّاضة” و”صبير كفرشوبا”! حتى ليخال للمرء بأن المحافظ باقفاله مسلخ لحوم, وانتصاره للتين والصبير, فإن المدينة مقبلة على فصل من تاريخها الحديث يخطُه “النباتيون الجدد” (vegans). فالسماح ببسطة موسميّة سيخلق بسطة صيداوية دائمة مقابلها، سيصعب إزالتها لاحقًا. وهذا عدلٌ في السويّة تُكافأ المدينة عليه لا تُعاقب، كما بدأت تكثر “الخبريّات”. كلو بيرد شمص وعلى الطريقة اللبنانيّة، يلجأ الناس في مآزقهم إلى “أمراء طوائفهم” لحلّ الأمور، فكان أن لجأ هؤلاء إلى محافظ الجنوب، الذي هو بحكم القانون من الطائفة الدرزيّة. فكان الردّ بإقفال مسلخ صيدا، كما تقول مصادر محليّة في المدينة لـ”البوست”، علمًا أنّ المحافظ من الأشخاص المشهود لهم بالتعاون والتفهّم والمساعدة على حلّ مشكلات المدينة طوال فترة توليه وظيفته الرسمية. كي لا تظهر صيدا مرّة جديدة مدينة هزيلة بسياسيّيها ومجلسها البلدي والقائمين على شؤونها، وتُكرّس مقولة أنّ “السنّة” هم الحلقة الأضعف في حروب الطوائف، اقتضى التوضيح والعمل على حلّ مشكلات الناس جميعًا لا تفاقمها. لأنّنا في مرحلة تتّسم بالدقّة، فإنّ الخطوات المتخذة من الصغير قبل الكبير وجب أن تحكمها الحكمة والعقل وبعد النظر، وإن ظهرت أدق من الشعرة كَم كان جَميلًا لو أنّ ظاهرةَ البائِعينَ الدُّروز، الّتي تتكرَّر في صيدا كُلَّ عام، قد تمَّ تنظيمُها بحُلَّةٍ جَميلة، من دونِ كُلفةٍ تُذكَر، في مكانٍ مُؤهَّلٍ وقابِلٍ للوُصول من كُلِّ الرّاغبين، لكان الجَميعُ يَبتسمُ اليوم. قليل من الفطنة، النية الحسنة.