من المفترض أن تحتضن إحدى قاعات بلدية صيدا فعالية جامعة عن غزة. حدثٌ يفترض أنه يوحّد لا يفرّق، ويجمع ولا يشتّت، إذ كيف يختلف الناس على دماء الأطفال المهدورة تحت الركام؟ لكن في صيدا، يبدو أن الشعارات (اللوغوهات) صارت عند البعض أهم من القضية نفسها. فقد انشغل الرعاة المفترضون للحدث، لا بمضمون اللقاء ولا برسالته، بل بمقاسات شعاراتهم على المطبوعات. شعارك أكبر من شعاري. خلاف وصل حدْ تدخل رئيس البلدية شخصيا بالموضوع، وأدى إلي انسحاب بعض الرعاة بعد أن كانوا قد دفعوا المال، وكأن القضية مجرد لوحة إعلانية على جدار البلدية. المفارقة الأشد مرارة أن القوى السياسية الأساسية في المدينة أعلنت عدم مشاركتها بالحدث، لا اعتراضاً على العدوان ولا تضامناً مع غزة، بل لأن الرعاية الأساسية تعود إلى مجموعة “استجدت” على المشهد المحلي، وباتت تشكّل معضلة في التعاطي مع ظاهرتها. هكذا، تتحول الفعالية من منصة لدعم فلسطين ومواجهة إسرائيل إلى ساحة مصغّرة لحروب الكيديات المحلية التافهة. غزة تذبح… فيما البعض في صيدا يقيس الشعارات بالمسطرة.
تقف منطقةُ الشرق الأوسط اليوم أمامَ منعطفٍ إقليميٍّ حاسم، لا تقتصر تداعياتُه على لبنان وحده، بل تمتدُّ إلى عمق المشهد في سوريا والعراق واليمن. اغتيالُ السيّد حسن نصرالله، بما يحمله من رمزيةٍ وتأثير، لا يمكن حصرُه في “البيئة الشيعية” أو في الساحة اللبنانية فحسب، بل يفتح الباب أمام تغيّرٍ استراتيجيٍّ كبير قد يرسم ملامحَ مرحلةٍ جديدة في المنطقة.فالإعلانُ عن وفاته لا يُعَدّ حدثًا عابرًا، بل يُشكِّل بدايةً حقيقية لتراجع النفوذ الإيراني الذي بلغ ذروته بعد دخول القوات الأميركية إلى العراق عام 2003 حواجز سُنيّة كبرى ذلك النفوذ الذي تمدّد على وقع سقوط ثلاثة حواجز سنيّة كبرى في المنطقة: إعدامُ صدّام حسين، وفاةُ ياسر عرفات، واغتيالُ رفيق الحريري.مهّدت هذه التحوّلات الطريقَ أمام المشروع الإيراني الذي بُني على فكرة استمالة الأقليات في مواجهة ما اعتُبر “الخطر السنّي”، مستفيدًا من لحظةٍ إقليمية ودولية سمحت له بالتوسّع.في العراق، دخلوا عبر الطائفة الشيعية؛ في سوريا، عبر النظام العلوي؛ وفي لبنان، عبر حزب الله وتحالفه مع جزءٍ من المسيحيين، تحت ما سُمّي بـ”تحالف الأقليات”.لم يكن هذا المشروع نتاجَ التخطيط الإيراني وحده، بل جاء أيضًا بتواطؤ أو تغاضٍ أميركي، حيث ساد الاعتقاد أن دعم الجناح الشيعي قد يضبط الحالة السنيّة ويمنع ما سُمّي بـ”التطرّف الإسلامي”. لكن التجربة أثبتت العكس. اكتشف الأميركيون أن التطرّف ليس حكرًا على مذهبٍ دون آخر، وأن تسليح طرفٍ لمواجهة طرفٍ آخر لا يؤدّي بالضرورة إلى الاستقرار. تجربة يحيى السنوار خير دليل، إذ ظنّ البعض أن الأموال القطرية ستُغريه بالسلطة، لكن الهجوم في 7 تشرين قلب كلَّ التوقّعات. إعادة النظر بتحالف الأقليات حتى إسرائيل، التي كانت من أوائل الداعمين لفكرة تحالف الأقليات، بدأت تُعيد النظر في ذلك. فعلى الرغم من أن حافظ الأسد هو من قدّم هذا المفهوم بشكل علني في جامعة دمشق عام 1976، إلا أن إسرائيل كانت قد طرحت الفكرة قبل ذلك، وسعت إلى بناء تحالفات مع الأقليات في المنطقة، على قاعدة أن العدو المشترك هو الأغلبية السنيّة. اليوم، يبدو أن جناحًا داخل إسرائيل بات يُدرِك أن هذا التحالف لم يعُد مجديًا، بل ربما أصبح مُكلفًا.في المقابل، تعيش إيران حالةً من التراجع الداخلي والخارجي. منذ احتجاجات مهسا أميني، وتحت وطأة العقوبات الأميركية، وسعيها الدائم لتسوية الملف النووي، تعاني إيران من أزمةٍ اقتصادية متفاقمة وصراعٍ داخلي بين أجنحة متشدّدة وأخرى أكثر انفتاحًا. رئيسها الجديد، جرّاحُ قلبٍ يتقن الإنجليزية، حمل إلى نيويورك خطابَ اعتدال، في محاولةٍ لإعادة صياغة صورة “الجمهورية الإسلامية” على المسرح الدولي، لكن من غير المؤكّد أن بمقدورها الحفاظ على المشروع ذاته الذي تمدّد خلال العقدين الماضيين. لا يمكن بناء دولةٍ حديثة على أساس فرض نمطٍ ثقافي أو سياسي واحد، بل على مشاركةٍ حقيقية في صياغة هويةٍ وطنية جامعة تعكس واقع المجتمع بكلّ تعقيداته مشهد جديد أمّا إسرائيل، فهي لم تُقدِم على اغتيال نصرالله لأن قدراتها تطوّرت فجأة، بل لأنها أرادت استباق مبادرة دولية يُقال إنها ستنطلق من نيويورك لإعادة ترتيب المشهد الإقليمي. نتنياهو، بإدارته للمرحلة عبر اغتيالات محدّدة وسلسلة عمليات عسكرية، يحاول فرض وقائع ميدانية تتيح له الدخول في أي تسويةٍ من موقع القوّة.أمّا حزب الله، فقد تمدّد إلى درجة بات معها عبئًا على مصالح دولية وإقليمية عدّة. من البحر الأحمر إلى الملاحة الدولية، من قمع الثورة السورية إلى تشكيل الحشد الشعبي في العراق، من تهديد قبرص إلى تعطيل الداخل اللبناني، أصبح الحزب عاملَ توتّرٍ دائم. هذا التمدّد غير المحسوب جعل الكثير من الدول تلتقي مصالحُها في ضرورة وضع حدٍّ لهذا الدور، ما أدّى إلى تراكب إراداتٍ دولية وإقليمية مختلفة نحو هدفٍ واحد.في لبنان، يواجه الشيعة اليوم أزمةً بنيوية، ولكن في المقابل، ثمّة فرصة نادرة لكل اللبنانيين لإعادة التفكير في شكل الدولة. فمع سقوط حزب الله، تتهاوى معه فكرتان أساسيتان: فكرة توازن الرعب والأمن الذاتي، وفكرة النموذج الطائفي القوي الذي حاولت طوائف أخرى استنساخه داخل بيئاتها حفاظًا على مصالحها. التجربة أثبتت أن هذا النموذج لم يُحقّق لا الأمن ولا الاستقرار، بل عمّق الانقسامات وأفرغ الدولة من مضمونها.ارتبطت صورة لبنان الحديث طويلًا بفكرة المارونية السياسية، حيث تمّ تشكيل الهوية الوطنية على أساسٍ ثقافي–سياسي محدّد. ولكي تكون “لبنانيًا”، كان عليك أن تتماثل مع هذا النموذج، بغضّ النظر عن انتمائك الديني. حتى مفاهيم مثل “العيش المشترك” كانت، في كثير من الأحيان، أقرب إلى “العيش بالاشتراك”، حيث يُطلَب من الآخر أن يُعدّل من نفسه وينكفئ عن بعض خصوصياته كي يندرج ضمن هويةٍ مفروضة سلفًا. عن أي اتفاقٍ نبحث؟ العيش المشترك الحقيقي لا يمكن أن يقوم على هذا النوع من التكيّف القسري، بل على الاعتراف المتبادل والاحترام الحقيقي للتنوّع. لا يمكن بناء دولةٍ حديثة على أساس فرض نمطٍ ثقافي أو سياسي واحد، بل على مشاركةٍ حقيقية في صياغة هويةٍ وطنية جامعة تعكس واقع المجتمع بكلّ تعقيداته. لكن هذا يطرح السؤال الأهم: ما هو نوع الاتفاق الذي نبحث عنه بين الطوائف؟هل نريد اتفاقًا يُكرّس الزعامات ويُعيد إنتاج المحاصصة؟ أم تفاهمًا يُكرّس المواطنة ويُعيد الاعتبار للفرد؟ هل نسعى إلى ميثاق ضمانات طوائف، أم إلى عقدٍ وطنيٍّ جديد يضمن العدالة والمساواة للجميع؟ هل نبني شراكة خوف أم شراكة أمل؟ وهل نحن مستعدّون لنقل النقاش من “مَن يحكم لبنان؟” إلى “كيف نحكم لبنان معًا؟” حتى إسرائيل، التي كانت من أوائل الداعمين لفكرة تحالف الأقليات، بدأت تُعيد النظر في ذلك الأسئلة الصعبة سقوط حزب الله، بكلّ ما يُمثّله، قد يكون فرصةً تاريخية لإعادة تعريف معنى الدولة في لبنان. لكنه لن يكون كافيًا ما لم نمتلك الشجاعة لطرح الأسئلة الصعبة والبحث عن إجاباتٍ خارج القوالب الجاهزة. فربما لا يكون الحل في “الدولة المدنية” كما تُطرَح اليوم، ولا في “الدولة الطائفية” كما نعرفها، بل في نموذجٍ ثالث، لبناني الهوية، لا مستورَدًا ولا مفروضًا، يُعيد بناء العلاقة بين الدولة والمجتمع على أساس المشاركة، لا الهيمنة، وعلى أساس الحقوق، لا الولاءات. هذا النموذج لا يمكن أن يولَد من صراع المصالح فقط، بل من خيالٍ سياسي جديد، ومن إرادةٍ حقيقية لدى مختلف المكوّنات بأن الوقت قد حان لنهاية اللعبة القديمة، وبداية مشروع وطني جامع. وربما، ولأول مرة منذ عقود، بات هذا السؤال ملحًّا أكثر من أي وقت مضى: أيّ دولةٍ نريد؟ وأيّ اتفاقٍ نحتاج لنعيش معًا؟.. لا بجانب بعضنا، بل فعلاً مع بعضنا. * دكتور محاضر في العلوم السياسية والاجتماع الولايات المتحدة الأميركية
تمر ذكرى رحيل الأمين العام السابق لحزب الله، حسن نصرالله، ليس كحدث عابر، بل كجرس إنذار يعلن نهاية حقبة كاملة. فالرجل الذي احتكر الصورة والكلمة والقرار لعقود، ترك خلفه جسداً تنظيمياً مترهلاً يبحث عن رأس بديل. ومع صعود نائبه، نعيم قاسم، إلى منصب الأمانة العامة، بدا المشهد أشبه بمسرحية انطفأت أضواؤها فجأة؛ فصعد الممثل الاحتياطي إلى خشبة خالية، بلا حماس من الجمهور، وبلا قدرة على إقناع نفسه بالدور الجديد. لغة الأرقام الصادمة بعيداً عن الخطابات الرنانة، تتحدث الأرقام لغة قاسية لا تعرف المجاملة، وترسم صورة قاتمة لمستقبل الحزب:تراجع شعبي حاد: هوى التأييد الشعبي في البيئة الحاضنة للحزب من ذروة بلغت 82% عام 2006 إلى ما يقارب 51% في عام 2025. هذا يعني أن نصف جمهوره تقريباً قد سحب ثقته من المشروع الذي كان يلتف حوله. أزمة مالية خانقة: تقلص التمويل الإيراني بأكثر من 40% خلال السنوات الخمس الماضية، مما أجبر قيادة الحزب على تخفيض رواتب المقاتلين بنسب تتراوح بين 20% و30%. هذه الخطوة دفعت العديد من العناصر إلى البحث عن مصادر رزق بديلة أو حتى الهجرة. جيل جديد بلا أفق: أكثر من 60% من الشباب في البيئة الشيعية لم يعودوا يرون مستقبلهم في “المقاومة”، بل بات حلمهم تذكرة سفر أو عقد عمل في الخارج.هذه الأرقام ليست مجرد إحصاءات جامدة، بل هي بمثابة إعلان إفلاس تدريجي لمنظومة كاملة بُنيت على كاريزما فرد واحد. في ذكرى غياب “السيد”، تتضح المعادلة بلا مواربة: حزب الله اليوم هو جسد ضخم بلا رأس، يقوده رجل لا يملك من القيادة سوى لقبها الرسمي مدير تنفيذي في زمن الانهيار في هذا السياق، يظهر نعيم قاسم. الرجل الذي يُقدَّم كخليفة، يبدو في الواقع أقرب إلى “موظف أرشيف” يقرأ من أوراق صفراء بالية، لا إلى زعيم ملهم. خطابه يفتقر إلى الجاذبية، وإيقاعه بطيء، وعباراته تخرج كمن يقرأ نشرة إدارية مكررة. حتى ملامحه في الصور لا تحمل سمات القائد، بل سمات موظف مرهق في نهاية يوم عمل طويل. الفارق بينه وبين سلفه شاسع. كان نصرالله يملأ الشاشة بحضوره الصوتي والجسدي، بينما يكاد قاسم يملأ القاعة بظله. لقد انتقل الدور من “القائد” إلى “المُلقِّن” الذي يقف خلف الكواليس. حتى طهران، الراعي الإقليمي، لم تعد ترى فيه سوى “مدير تنفيذي” لشركة متعثرة، مهمته إدارة الأزمة لا صنع القرار. من “هيبة السلاح” إلى “عبء الخبز” داخلياً، يعيش الحزب تناقضاً صارخاً: كيف يمكنه رفع رايات “الانتصارات الإلهية” بينما يغرق جمهوره في البحث عن حليب لأطفاله أو دواء لمرضاه؟ لقد فقدت شعارات “القداسة” قيمتها أمام فاتورة الكهرباء، وتحول السلاح الذي كان يوصف بـ”سلاح الكرامة” إلى عبء يفاقم عزلة لبنان وانهياره الاقتصادي. الحزب الذي كان يرعب خصومه، بات اليوم يخشى تململ أنصاره. الهيبة تتآكل من الداخل، لا من الخارج. إقليمياً، لم يعد حزب الله اللاعب الأبرز في “محور الممانعة”. ففي سوريا، يستمر نزيفه البشري والمادي بلا أفق. وفي العراق واليمن، تتقدم أذرع أخرى على حسابه. لقد كشف غياب نصرالله حجم الهشاشة البنيوية، وأثبت أن نعيم قاسم لا يملك القدرة على ترميم صورة أسطورية بدأت بالتلاشي. من الأسطورة إلى التخبط في ذكرى غياب “السيد”، تتضح المعادلة بلا مواربة: حزب الله اليوم هو جسد ضخم بلا رأس، يقوده رجل لا يملك من القيادة سوى لقبها الرسمي. لقد انتقل الحزب من زمن القائد الذي يصنع الأوهام، إلى زمن الموظف الذي يوقّع على أوراق الانهيار.إنه تحول مؤلم من “ذراع إيران الضاربة” إلى شركة خاسرة تبحث عمن يدير إفلاسها، ومن “قداسة المقاومة” إلى حمل ثقيل على جمهور يطالب بالخبز قبل الرصاص. إنه الانتقال الحتمي من زمن الأسطورة إلى زمن الشفقة.