لم يكد المسؤول الإداري الجديد يتسلّم مهامه في إحدى دوائر المدينة الأساسية حتى بدأ الهمس يتردّد في الكواليس الطبية والاجتماعية عن لجوئه المتزايد إلى الحبوب المهدئة كوسيلة لمواجهة ضغوط المنصب. مصادر طبية صيداوية معنية توقفت عند هذه الظاهرة، معتبرةً أنّها تحمل دلالات مثيرة للقلق لا يمكن التهاون معها. ففي وقتٍ يُفترض أن يمنح المنصب الجديد دفعةً من الثقة والطموح، وجد الرجل نفسه – بحسب مقربين – أمام كمٍّ من التحديات والضغوط الإدارية والسياسية، دفعه إلى البحث عن “ملاذ سريع” في الأدوية المهدئة. ومعلوم أنّ الاستهلاك المفرط لمثل هذه العقاقير لا يمرّ من دون آثار جانبية خطيرة على الصحة الجسدية والنفسية، خصوصاً إذا جرى التعامل معها كبديل عن مواجهة أصل المشكلة أو معالجة جذورها. يؤكد الأطباء أن الإفراط في تناول أدوية الأعصاب يؤدي إلى مضاعفات مباشرة على التركيز، الجهاز العصبي، وحتى القدرات الإنتاجية، وهو ما قد ينعكس سلباً على أداء المسؤول في موقعه. ويزداد الأمر خطورة عندما يتعلّق بشخص لا يزال في منتصف العمر، إذ إنّ هذه المرحلة تتطلب توازناً صحياً ونفسياً لمراكمة الخبرة والإنجاز، لا التورط في عادات دوائية قد تحوّل الضغط المهني إلى أزمة وجودية. في قراءة أوسع، يرى مطلعون في الشأن الطبي أنّ الظاهرة تكشف هشاشة البنية الإدارية في المدينة، حيث يجد بعض المسؤولين أنفسهم محاطين بتوقعات ضخمة وملفات شائكة تفوق قدرتهم على التحمّل. وهنا تتحول المناصب، بدل أن تكون فرصة لخدمة عامة، إلى عبء نفسي يستنزف صاحبها. لكن تبقى الحقيقة واحدة: الصحة هي الثروة الفعلية في الحياة، فيما الكراسي والمناصب ليست سوى أوهام عابرة قد تتبخّر عند أول اختبار.
لفتَ نظرَ المهتمين بأوضاع مدينة صيدا، البيانُ الذي أصدرته البلدية بتاريخ ١٤ أيلول ٢٠٢٥، الذي دعت فيه أصحابَ المبادرات للتنسيق المسبق مع البلدية والحصول على موافقة خطيّة منها، وذلك “بعد كثرة التقديمات والمبادرات الطيبة والمشكورة من أبناء صيدا”.وتضمّن البيانُ بنودًا تشترط إلزامَ كلّ صاحب مبادرة بالحصول على موافقة خطية مسبقة، كي تستطيع البلدية تنظيمَ الأعمال وضمانَ سلامتها، وأنّ كل مبادرة لا تلتزم سيتم إيقافُها من قِبَل شرطة البلدية، كما جاء في البيان المذكور. لماذا المبادرات؟ لا يختلفُ اثنان حول قانونية البنود التي تضمنها البيان، الذي أتى بعد مبادرات عديدة نُفِّذت من قِبَل مواطنين من أعضاء المجلس البلدي أو من خارجه، وكان آخرها مبادرة صبّ الباطون في شارع الشاكرية التي بادر إليها الصيدليّ عمر مرجان.لكن السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا تحصل هذه المبادرات الآن؟ البعضُ يشير إلى أنّ معظم أصحاب المبادرات يسعى لدور سياسيّ أو سلطويّ في المدينة، والبعض الآخر يشير إلى عدم قيام بلدية صيدا بواجباتها ومهامها ما فتح الباب أمام هذه المبادرات. فضيحة تبليط الشوارع إذا كان بيانُ البلدية قد أتى بعد عملية صبّ الباطون في شارع الشاكرية مباشرة، فإنّ السؤال الملحّ يصير: لماذا لم تُبادر بلدية صيدا إلى إصلاح فضيحة تبليط السوق التجاري التي جرت قبل سنوات؟خلال تنفيذ المشروع المذكور كان النقاشُ يدور حول آلية تنفيذ المشروع وكيفية الإشراف عليه، وكان واضحًا منذ تلك اللحظات أنّ المشروع فاشل وسيُخرّب السوق التجاري بالطريقة التي نُفِّذ فيها، ومع ذلك وافق المجلس البلدي آنذاك على الأعمال ووقّع المعنيون في المجلس البلدي على تسلّم المشروع. اليوم، ومنذ أكثر من شهر، تتداول المعلومات أنّ السلطات المركزية قد أمّنت كمية الزفت المطلوبة لإعادة تزفيت شوارع السوق الأساسية، وأنّ معظم التجار وافقوا على إعادة التزفيت قبل وصول فصل الشتاء، بديلًا من الخراب الذي تعيشه شوارع السوق التجاري، إلا أنّ الحديث يدور حول موقف رئيس جمعية التجار علي الشريف وعدد من التجار الذين يرفضون التزفيت ويصرّون على إعادة التبليط، من دون البحث في طريقة تأمين التمويل اللازم لذلك. بانتظار التجار بالمقابل، يُلاحَظ غيابُ موقف رسميّ وواضح للسلطة المحلية، ويبدو أنّ المجلس البلدي بانتظار أن يحسم التجار موقفهم، ناسيًا مسؤوليةَ البلدية وسلطتَها التقريرية.لا يكفي أن نضع شروطًا لأيّ مبادرة، بغضّ النظر عن النوايا السياسية لأصحابها، المهم أن تلعب البلدية دورَها كمؤسسة مسؤولة عن المدينة، هذا إذا كنا من أصحاب النوايا الحسنة.لأنّه من الجانب الآخر قد تبرز آراء تُبرّر عجزَ البلدية وضرورةَ تلزيمها إلى القطاع الخاص أو جمعيات أهلية.
أخبرتُكَ عن سفينةٍ بأربعةِ قُبَاطِنَةٍ أو حتى أكثر، كلٌّ منهم يقودُها بحسب هواه، هل تصلُ إلى برِّ الأمان؟ هل تستطيعُ الإبحارَ في أمواجٍ عاتيةٍ لتبلغَ وجهتَها؟ وهل سيتّفق قُوَّادُها على وجهتِها أصلًا؟ بالطبع لا. هذا حالُ بلديةِ صيدا اليوم، سفينةٌ برؤوسٍ ورياسةٍ متعدّدة، وكلٌّ يدَّعي المصلحةَ وفقًا لرؤيته وهواه، وحُكمًا حساباته الخاصّة المادّية. أمّا في المحصّلة فصيدا وأهلُها هم الخاسرُ الأكبر، والمدينة وناسُها من يدفعُ الثمنَ على حساب أمورٍ تمسُّ جوهرَ تفاصيل حياتهم اليومية. منذ أن أفضت نتيجةُ انتخابات المجلس البلدي في مدينة صيدا إلى ما آلت إليه اليوم، لم يعُد السؤالُ: “لماذا؟”، بل بات: “متى؟” متى سيقعُ الانفجارُ الذي سيُطيحُ بالمجلس والبلدية بسبب عدمِ تجانس أعضائه من لوائح متنافسة في الشكل والجوهر والمقاربات والحلول وطرق العمل؟ بلديةُ صيدا اليوم – كما يقول معظمُ أهل المدينة – بلديةٌ بأربعةِ رؤوسٍ أو خمسةٍ أو حتى ستة. والاجتماعاتُ العقيمةُ العاصفةُ التي يشهدُها المجلسُ البلدي، والتي صار يصلُ فيها النقاشُ حدَّ تعيير رئيس البلدية من قِبَلِ أعضاءٍ بقولهم: “نحن من أجلسناك على كرسيك هذا، وأتيتَنا قبل الانتخابات تطلب الدعم والتأييد”، مجلسٌ وصل فيه التنازعُ حدَّ التراشق بقوارير المياه بين أعضائه، وبلغ فيه النفاقُ السياسي والشخصيّ محاباةً رخيصة، هو مجلسٌ غيرُ قابلٍ للحياة أو الاستمرار. صارت البلديةُ كرسيًّا كلٌّ يتجاذبُه لصوبِه؛ فيها من يُقرِّر منفردًا أن يُزفّت طريقًا أو جورةً آملًا أن “تُعبِّد” طريقَه إلى كرسي الرئاسة في الدورة المقبلة، أو حتى النيابة نفسها – كما قالها “باعتبارها الأقرب” – لأنّه لم يعُد قادرًا على الانتظار بعدما أعجبتْه العراضاتُ واستهوته الصورُ المرفوعةُ ويافطاتُ المديح. رئيسٌ يبتغي مرضاةَ الجميع لتحقيق المصالح التي تعودُ بالمنفعة عليه. وآخرُ تنتهي تنظيراتُه وشعاراتُه الرنّانة عند زاويةٍ عقاريةٍ مصلحيةٍ صغيرة. ومتحمّسٌ موهومٌ بالأرقام يرى في مُلخَّص Power Point على الشاشة مشاريعَ قادرةً على أن ترفعَ المدينةَ من حضيضها إلى مصافّ العالمية، دون الحدّ الأدنى من الدراية بمتطلّبات العمل بالشأن العام والسياسة والمجتمع. سيسجّلُ التاريخُ لهذا المجلس البلدي أنّه قضى على آمالٍ كثيرة عقدها الصيداويّون على إيصال جيلٍ شابٍّ جديد مفعم بالحداثة والحيوية والطاقة للعمل والإنتاجية إلى مركز القرار، ليترحّموا على “ديناصوراتٍ” مضت، أقَلَّه كان للمجلس بعضٌ من هيبةٍ أضاعتها “وَلدنات” الطارئين على غفلة. لكنْ: “كما تكونون يُولّى عليكم…” رأفة بالناس بعد تجربة مئةِ يومٍ من العمل، لو كان هذا المجلس يهتمُّ بالمدينة وأهلها، فحريٌّ به الاستقالةُ رأفةً بالناس، والدعوةُ إلى انتخاباتٍ جديدة بعدما عرف الجميعُ ما كانوا يجهلون. فالاستمرارُ على هذه الشاكلة انتحارٌ بحقّ صيدا، لا تستحقُّه.