في إحدى اللقاءات التي جمعت رَهْطًا من فاعليات المدينة وأهلها ووافدين، يميلُ أحدُ الأقطاب الأثرياء على جليسِه بجانبه على الطاولة، يسألُه عن الشخص الذي أتاه يُلقي عليه التحيةَ بحرارة ويسأله عن حاله وأحوال عائلته… يتفاجأ الشخصُ الذي تمَّ سؤاله من قبل “القُطب الثري”، فيقول له، وعلاماتُ الدهشة باديةٌ على محيّاه: هذا عضوُ البلدية فلان… لقد كنتَ أنت أكبرَ داعمي لائحته (الأخفياء، من وراء ستار، جبناً) في المعركة الأخيرة. ألا تعرفه؟ لقد موّلت حملته وأوصلته إلى البلدية. يَنْصَدِمُ السائلُ من الإجابة، فلا يجدُ مفرًّا من الإحراج إلا أن يُكمِلَ قَضْمَ الجَزَر من صحن على الطاولة. هكذا تُدارُ المعاركُ الانتخابية في صيدا. داعمون لا يعرفون مَن يدعمون، ومدعومون لا يتعرفون على داعميهم إلا في المناسبات. أما ما يحكم العملية برمتها فغالبا ما تكون النَكَايَاتٍ السياسية، وحتى الشخصية، وأهواءِ نفوسٍ آخرُ هَمِّها المدينةُ وأهلُها ومشاكلها، ومَن يصلُ إلى الكرسي، وماذا يُقدِّم من بعد ذلك…
قَرَّ مجلسُ بلديةِ صيدا موازنةَ عام 2026 بقيمة 315 مليار ليرة لبنانية، ومَرَّر في الجلسة نفسها دفاترَ شروطٍ لمرافقِ البلدية وكنسِ الشوارع وعددٍ من المشاريع والعروض.خبرٌ بسيطٌ في ظاهره، لكنه في العمق يطرح أسئلةً كبيرةً وخطيرة:هل نحن أمام موازنةٍ لإنقاذ المدينة وخدمتِها، أم أمام شيكٍ مفتوحٍ يُصرَفُ بلا شفافية على حساب الناس وحقوقهم؟ أين الأرقام التفصيلية؟ 315 مليار ليرة ليست رقمًا عابرًا.هذا مالٌ عام، من جيوبِ المواطنين مباشرةً أو بطريقةٍ غير مباشرة.ومع ذلك: لم نسمع عن نشرِ مشروعِ الموازنة مُفصَّلًا للرأي العام، لم نرَ جداول واضحة تُوزِّع هذه المليارات بين النظافة، الطرقات، الصرف الصحي، الشواطئ، المساحات العامة، والصيانة.لم نعرف ما هي نسبةُ الاستثمار الفعلي في البنية التحتية، مقابل النفقات التشغيلية، والرواتب، و«التلزيمات».كيف يمكن لمدينةٍ كاملةٍ أن تقبل أن تُدار أموالها بهذه الخِفَّة؟أيُّ منطقٍ يقول إن المواطن يُطالَب بدفع الرسوم والضرائب، بينما يُحجَب عنه أبسطُ حقّ: أن يعرف أين تذهبُ أمواله؟ دفاترُ الشروط… لِمَن تُفصَّل؟ الخبرُ يتحدّث عن الموافقة على دفاترِ شروطٍ لمرافقِ البلدية وكنسِ الشوارع ومشاريعَ أخرى.وهنا بيتُ القصيد:هل تم إعدادُ هذه الدفاتر بما يضمن منافسةً حقيقيةً بين الشركات؟هل نُشرت الدفاتر على الملأ، أم بقيت حبيسة الأدراج والمكاتب المغلقة؟هل أُعطيت مهلةٌ كافية للمتعهدين للتقدّم، أم فُصِّلَت الشروطُ على قياس قلّةٍ معروفةٍ مسبقًا؟ في بلدٍ غارقٍ بالفساد والسمسرات، يصبح كلُّ دفتر شروط مشروعَ شبهةٍ محتملة، ما لم يكن واضحًا وعلنيًا ومتاحًا أمام الجميع.السرية في إدارة المال العام ليست «حكمة» ولا «حسن تدبير»، بل بابٌ واسعٌ للهدر والمحاصصة. كيف يمكن لمدينةٍ كاملةٍ أن تقبل أن تُدار أموالها بهذه الخِفَّة؟ أيُّ منطقٍ يقول إن المواطن يُطالَب بدفع الرسوم والضرائب، بينما يُحجَب عنه أبسطُ حقّ: أن يعرف أين تذهبُ أمواله؟ مرَّت الموازنةُ في جلسةٍ للمجلس البلدي، بأسماءٍ معروفةٍ ومقاعدَ محفوظة.لكن اسمًا واحدًا غاب عن الطاولة: المواطن.لم تُعقد جلسةُ استماعٍ عامة، لم يتم شرحُ الموازنة بلغةٍ يفهمها الناس، لم يُفتح نقاشٌ جدّي حول الأولويات:ماذا تريد صيدا فعلًا في 2026؟ هل تريد المدينةُ أولًا:شوارعَ صالحةً للسير؟نظامَ جمع ومعالجة نفاياتٍ محترمًا؟تنظيمًا عمرانيًا يوقف الفوضى والإسمنت العشوائي؟حمايةً لشاطئها وبيئتِها؟ أم تريد فقط صورًا جديدة لقصّ الشريط، وخُطبًا، ومنشوراتٍ ممولة على فيسبوك؟ مجلسٌ بلديٌّ يُحاسَب… لا يُصفَّق له المجلسُ البلدي ليس شركةً خاصة، ولا ناديًا مغلقًا للأصدقاء.هو مسؤولٌ أمام الناس.والناس اليوم لم تَعُد تُصدّقُ الشعارات ولا بيانات: «تمت الموافقة»، «تم الإقرار»، «تم التلزيم». الحدّ الأدنى من الاحترام لعقول المواطنين يقتضي:نشرَ الموازنة كاملةً على موقع البلدية وصفحاتها، بجداول واضحة ومقسّمة.نشرَ دفاتر الشروط لكل مشروع، وفتحَ باب الاعتراض والطعن أمام أي متضرّر أو مواطنٍ حريص.إعلانَ الشركات الفائزة بالمناقصات، وقيمةِ العقود، ومدّة التنفيذ، وآليّة الرقابة. وتحديدَ آلية محاسبة واضحة، ماذا يحصل إذا تقاعست شركةٌ عن عملها، أو تلكّأت، أو خالفت الشروط؟من دون هذه الخطوات، كلُّ كلامٍ عن «خدمة المدينة» يبقى شعارًا فارغًا. صيدا ليست شركة المؤلم أن يتعامل بعض المسؤولين مع صيدا كأنها مشروعٌ استثماري، لا كمدينةٍ لها تاريخٌ، وناسٌ، وأحياءٌ، وفقراء، وموظفون، وشبابٌ عاطلون عن العمل، وبيئةٌ تعاني، وبحرٌ يُنهَب. الموازنة ليست ورقة تُقرّ في جلسة عابرة ثم تُنسى.هي خطةُ حياة لعامٍ كامل، تحدّد كيف سنعيش، وكيف ستُدار شوارعُنا، وكيف سيُعاملُنا موظفُ البلدية وعاملُ النظافة، وكيف سيبدو بحرُنا وحدائقُنا وأحياؤُنا. المالُ العام ليس مزحة. في بلدٍ منهوبٍ مثل لبنان، كلُّ ليرةٍ تُصرف من المال العام إما تكون خطوةً نحو إنقاذ الناس، أو لَبِنةً جديدةً في جدار الفساد.موازنةُ بلديةِ صيدا 2026 ليست استثناءً. إمّا أن تتحوّل إلى نموذجٍ في الشفافية والجرأة في نشر الأرقام،وإمّا أن تبقى مجرّد رقمٍ جديدٍ يُضاف إلى سلسلة الموازنات التي لم يرَ المواطن من ثمارها إلا الغبارَ والنفاياتَ والحُفَر. الكرةُ اليوم ليست فقط في ملعب المجلس البلدي، بل أيضًا في ملعب أهلِ صيدا: مَن يسكت عن مالِه… لا يحقّ له أن يشتكي من هدره غدًا.
بعدَ الأوهامِ والمعارك الخيالية التي نُسِجَت في مُخَيَّلة بعضِ السياسيين والعاملين في الشأنِ العام، والتي انطَلَت أيضًا على كثيرٍ من الناس، يبدو أنّ الملفّ القضائيّ الذي كان يُحضَّر بحقّ معملِ النفايات في صيدا وتجاوزاته ومخالفاته قد طَلَعَ فارغًا… بمعنى آخر “فاشوش”. فقد عَلِمَت “البوست” من مصادرَ متابعةٍ أنّ شخصيةً صيداويةً “آملةً” كلَّفَت أحدَ مكاتبِ المحاماة في صيدا لدراسةِ عقودِ ومستندات المعمل، والتشعّبِ في كلّ ما له علاقةٌ بعمله، والبحثِ عن مخالفاته. وأنّ هذه الشخصية الغائبة/الحاضرة قد تَكفَّلَت أيضًا بتكاليفِ دراسةِ الملفّ القانونيّ الذي لم يحتج إلى كثيرٍ من الوقت ليتبيّنَ للمعنيّين أنّ هناك بعضَ الثُّغَراتِ القانونية التي تمّ النَّفاذُ منها، والتي أفضت إلى تكريسِ الواقعِ الحاليّ القائمِ في المعمل. فعلى سبيل المثال لا الحصر، تَبَيَّن أنّ المعملَ قد تَقَدَّمَ بطلبِ ترخيصٍ من وزارةِ الصناعة باعتباره منشأةً صناعية، وقد تَحصَّل على وصلٍ بذلك يتمّ تجديدُه سنويًا، ما يُعطيه شرعيةَ كيانِه كمعملٍ صناعيّ، لا كما قال أحد سياسيي المدينة في أكثر من مناسبة. أما في موضوعِ ملكيةِ المعمل تعود لسعوديين، فقد تَبَيَّن أنّ هناك مادةً قانونيةً تُجيز أن تكونَ أغلبيةُ مالكي الأسهم من غيرِ اللبنانيين. وهكذا انقضى تنظيرٌ طال الحديثُ عنهُ بفاتورةٍ لم تتعدَّ قيمتُها 20.000 دولار دُفِعَت لمكتبِ المحاماة، وآمالٍ انتخابيةٍ عطَّلت تحصيلَ حقوقِ الناس وعلى حساب صحتهم وبيئتهم… إلى حين.