بعدَ الأوهامِ والمعارك الخيالية التي نُسِجَت في مُخَيَّلة بعضِ السياسيين والعاملين في الشأنِ العام، والتي انطَلَت أيضًا على كثيرٍ من الناس، يبدو أنّ الملفّ القضائيّ الذي كان يُحضَّر بحقّ معملِ النفايات في صيدا وتجاوزاته ومخالفاته قد طَلَعَ فارغًا… بمعنى آخر “فاشوش”. فقد عَلِمَت “البوست” من مصادرَ متابعةٍ أنّ شخصيةً صيداويةً “آملةً” كلَّفَت أحدَ مكاتبِ المحاماة في صيدا لدراسةِ عقودِ ومستندات المعمل، والتشعّبِ في كلّ ما له علاقةٌ بعمله، والبحثِ عن مخالفاته. وأنّ هذه الشخصية الغائبة/الحاضرة قد تَكفَّلَت أيضًا بتكاليفِ دراسةِ الملفّ القانونيّ الذي لم يحتج إلى كثيرٍ من الوقت ليتبيّنَ للمعنيّين أنّ هناك بعضَ الثُّغَراتِ القانونية التي تمّ النَّفاذُ منها، والتي أفضت إلى تكريسِ الواقعِ الحاليّ القائمِ في المعمل. فعلى سبيل المثال لا الحصر، تَبَيَّن أنّ المعملَ قد تَقَدَّمَ بطلبِ ترخيصٍ من وزارةِ الصناعة باعتباره منشأةً صناعية، وقد تَحصَّل على وصلٍ بذلك يتمّ تجديدُه سنويًا، ما يُعطيه شرعيةَ كيانِه كمعملٍ صناعيّ، لا كما قال أحد سياسيي المدينة في أكثر من مناسبة. أما في موضوعِ ملكيةِ المعمل تعود لسعوديين، فقد تَبَيَّن أنّ هناك مادةً قانونيةً تُجيز أن تكونَ أغلبيةُ مالكي الأسهم من غيرِ اللبنانيين. وهكذا انقضى تنظيرٌ طال الحديثُ عنهُ بفاتورةٍ لم تتعدَّ قيمتُها 20.000 دولار دُفِعَت لمكتبِ المحاماة، وآمالٍ انتخابيةٍ عطَّلت تحصيلَ حقوقِ الناس وعلى حساب صحتهم وبيئتهم… إلى حين.
خِلالَ زيارةِ رئيسِ الحكومةِ نواف سلام الأخيرة إلى “مكبِّ النفايات” في صيدا، المعروفِ باسمِ معملِ المعالجة، وخلالَ استماعِه إلى آراءِ بعضِ المواطنين، علَّق قائلًا: “يعني معمل لا يعمل”. بدوره، أشارَ النائبُ أسامة سعد، في تصريحٍ خلالَ الزيارةِ نفسها، إلى أنَّ “وضعَ المعملِ غيرُ قانونيٍّ، لأنَّه لم يحزْ على رخصةِ تشغيلٍ من وزارةِ الصناعة”، أي إنَّ عملَه منذ عام 2012 حتى اليوم غيرُ قانونيٍّ. صمتٌ واستفسار المعملُ متوقِّفٌ عن المعالجةِ المنتظمةِ للنفاياتِ منذ تموز 2021، وقد نجحت إدارتُه منذ عام 2018 في بناءِ مكبّاتٍ للنفاياتِ على الأرضِ المردومة التي سمحت وزارةُ الأشغال، بموجبِ مرسومٍ، لبلديةِ صيدا بإنشاءِ معملٍ لمعالجةِ النفاياتِ المنزليةِ الصلبةِ عليها. وبسبب “نجاحِها” في ذلك، توسَّعت مساحاتُ تراكمِ النفاياتِ لتطالَ الأرضَ الملاصقةَ للأرضِ المردومةِ الأولى، وهي الأرضُ التي حدَّدها المرسومُ رقم 3093. تعليقُ سلام ليس غريبًا، ويقعُ في بابِ الاستفهام لا في بابِ التصحيح، وبجانبه كانت وزيرةُ البيئة تمارا الزين تقفُ صامتةً. الصمتُ ليس صفةَ الوزراءِ المعنيين بالمشكلات، بل يتعدَّاهم إلى المجلسِ البلديِّ لمدينةِ صيدا واتحادِ بلدياتِ صيدا – الزهراني. هل تعلمُ أنَّه، منذ انتخابِ المجلسِ البلديِّ الجديد، لم تُعقد جلسةٌ واحدةٌ لمناقشةِ مشكلةِ معملِ معالجةِ النفاياتِ المنزليةِ واتخاذِ القراراتِ المناسبةِ بشأنِها؟يبدو أنَّ سياسةَ “المندوبِ السامي” تفرضُ على المجلسِ البلديِّ الصمتَ كمؤسَّسةٍ معنيَّةٍ بالمشكلة، ويدورُ حديثٌ أنَّ البعضَ في المجلسِ يُؤشِّرُ إلى تأجيلِ البحثِ في هذا الملفِّ إلى ما بعدَ الانتخاباتِ النيابيةِ المقبلة، بينما يتحدَّث آخرون عن “رشوةٍ” متمثِّلةٍ بكنسِ بعضِ الشوارعِ وتقديمِ مساعدةٍ ماليةٍ لصندوقٍ غيرِ قانونيٍّ، لقاءَ هذا الصمتِ المريب. أمرٌ مريبٌ فعلًا؛ كتابٌ موجَّهٌ إلى البلدية تشيرُ فيه إدارةُ الشركةِ إلى أنَّ الأرضَ مملوكةٌ لها، علمًا أنَّها أرضٌ من الأملاكِ البحريةِ المردومةِ والعامَّة الحدثُ الأخطر لكنَّ الحدثَ الأخطرَ كان الكتابَ الموجَّهَ من إدارةِ المعملِ بتاريخ 20 تشرينَ الأوَّلِ 2025، والذي تطلبُ فيه استئجارَ مساحةٍ جديدةٍ من الأرضِ المردومةِ بهدفِ “استكمالِ الإصلاحاتِ المطلوبةِ ولغايةِ معالجةِ النفاياتِ معالجةً عاجلةً”.وهو الهدفُ نفسُه الذي طرحَتْه إدارةُ المعملِ عام 2018، ولم يحصلْ شيءٌ سوى بناءِ مكبّاتٍ جديدةٍ للنفايات. ينصُّ كتابُ الإدارةِ على ما يلي:“عطفًا على كتابِنا المسجَّلِ لديكم تحت الرقم 50 تاريخ 21 تشرينَ الثانيِّ 2023، لا سيَّما الفقرةَ الثانيةَ منه والمتعلِّقةَ بالأرضِ الملاصقةِ للأرضِ (المملوكة) من شركة IBC.” أمرٌ مريبٌ فعلًا؛ كتابٌ موجَّهٌ إلى البلدية تشيرُ فيه إدارةُ الشركةِ إلى أنَّ الأرضَ مملوكةٌ لها، علمًا أنَّها أرضٌ من الأملاكِ البحريةِ المردومةِ والعامَّة، والتي حصلت البلديةُ على حقِّ استثمارِها لبناءِ معملٍ للمعالجة، أي إنَّها ملكٌ عامٌّ لا يمكنُ التنازلُ عنه إلَّا بتعديلِ قانونِ الأملاكِ البحريةِ العامَّة الصادرِ عام 1925.حتْمًا، الأمرُ ليس غباءً أو خطأً، بل محاولةٌ لتحويلِ الأمرِ الواقعِ إلى أمرٍ قانونيٍّ. وترفقُ إدارةُ المعملِ كتابَها بخارطةٍ تُحدِّدُ المساحاتِ التي تريدُ استخدامها من الأرضِ المردومةِ الواقعةِ تحت مسؤوليةِ البلدية، وربما غابَ عن أعضاءِ المجلسِ البلديِّ ما تضمَّنه المرسومُ 3093 من شروطٍ لأيِّ استثمارٍ لأيِّ مساحةٍ من الأرضِ المردومة. أينَ المجلسُ البلديُّ من هذا الموضوع؟ وخصوصًا أنَّ بعضَ الأعضاءِ بدأ يتحدَّثُ حولَ بدلِ الإيجارِ ومدَّتِه وشروطِه، من دونِ البحثِ في أصلِ المشكلة. تشيرُ الخارطةُ إلى أنَّ الأرضَ التي تمَّ استخدامها منذ عام 2018 تبلغُ مساحتُها 10030 مترًا مربَّعًا، أمَّا مساحةُ الأرضِ التي تنوي الإدارةُ الحصولَ عليها حاليًّا فتبلغُ 29485 مترًا مربَّعًا. وكانت إدارةُ المعملِ قد تقدَّمت بتاريخ 19 شباط 2018 “بطلبِ إشغالٍ مؤقَّتٍ لأرضٍ ملاصقةٍ للمعملِ لطحنِ العوادمِ مع الصخورِ لمضاعفةِ عمليةِ التخلُّصِ من المتبقياتِ الناتجةِ عن معالجةِ النفايات، مع التعهُّدِ الأكِيدِ بالإخلاءِ وإعادةِ الحالِ لما كان عليه غبَّ الطلب”. وقد وافقَ على الطلبِ رئيسُ البلديةِ آنذاك محمدُ السعودي، وأرسلَ طلبَ موافقةٍ على إشغالٍ مؤقَّتٍ للأرضِ الملاصقةِ إلى وزارةِ الأشغالِ العامَّة بتاريخ 3 نيسان 2018، فوافقَ وزيرُ الأشغالِ العامَّة يوسف فنيانوس على طلبِ بلديةِ صيدا بتاريخ 18 نيسان 2018 بقرارٍ يحملُ الرقم 2945/أ. هذا يعني أنَّ “الإشغالَ المؤقَّت” استمرَّ ثمانيةَ أعوامٍ وما زال، والآن تطلبُ إدارةُ الشركةِ مساحةً جديدةً لإشغالٍ مؤقَّتٍ قد يتحوَّلُ إلى دائم. المشكلةُ لا تكمُنُ في إدارةِ الشركة، فهي شركةٌ تجاريةٌ تبغي الربحَ ولو بدونِ عمل، بل تكمنُ في السلطاتِ المحليةِ المعنيَّةِ بتقديمِ الخدماتِ للمواطنين وحمايتِهم من التلوُّثِ بجميعِ أنواعه. فهل يُبادِرُ المجلسُ البلديُّ إلى مناقشةِ الموضوعِ من دونِ التلطي خلفَ سؤال: "ما هو البديل؟" وهل هناك مجتمعٌ مدنيٌّ وأهليٌّ قادرٌ على تشكيلِ مجموعةِ ضغطٍ لإصلاحِ الموجود؟ أم أنَّ الجميعَ مشغولون بالاستقبالاتِ والحفلاتِ والتصوير؟
في اجتماعٍ عُقِدَ بعيدًا عن الأعين أخيراً، طلبَ قُطبٌ سياسي مؤثر في صيدا من رئيسِ إدارةٍ تنفيذيةٍ وأحدِ الأعضاءِ الفاعلين فيها، تأجيلَ المضيِّ في دعوى قضائيةٍ كان يجري التحضيرُ لها بحقِّ مرفقٍ اقتصاديٍّ حيويٍّ وأساسي في صيدا، بعد سلسلةٍ من التجاوزاتِ والمخالفاتِ التي شابت مسيرةَ عملِه لسنواتٍ. هذه الخطوة، فسرتها مصادرٌ سياسيةٌ متابعةٌ أنَّها تندرجُ في إطارِ عدمِ إثارةِ المشاكلِ مع قوة سياسيةٍ أُخرى فاعلةٍ في المدينة، وذلك قبيلَ اتضاحِ خارطةِ التحالفاتِ في الانتخاباتِ النيابيةِ المقبلة، ما يُؤشِّرُ إلى احتمالٍ قائمٍ بخوضِ المعركةِ الانتخابيةِ بتحالفٍ بين هاتين القوّتَين، الأمرُ الذي يتطلّبُ عدمَ افتعالِ مشكلاتٍ بينهما في هذه الفترةِ قد تؤثّرُ على تحالفِهما مستقبلا.