صيدا في قلب الحدث. قد لا يَعلَمُ كثيرون بحقيقةِ ما يَجري في كواليسِ السياسةِ المحليّة والإقليميّة، لكنَّ المؤكَّد أنَّ المدينةَ في قلبِ الحساباتِ الكبرى، وإنْ لم يَستشعرْ أهلُها حجمَ المعركةِ “التأسيسيّةِ” المُقبلةِ عليها في القادمِ من الأيام، والتي ستتسارعُ وتيرتُها بشكلٍ جدّيٍّ وواضح. مصادر سياسية مطلعة تؤكد أنّه ليس تفصيلاً عابراً أن تختار دولة إقليمية كبرى، ذات ثقل سياسي وتأثير دولي عظيم، قطباً صيداوياً دون غيره من الشخصيات السُنية على امتداد المساحة اللبنانية الكبرى. فالرسالة واضحة لمن يهمه الأمر: هذا الرجل هو “رجلنا الأول” سُنياً في لبنان اليوم، ومعركته النيابية في صيدا لن تكون مجرّد استحقاق محلي عادي، بل مواجهة مفتوحة لن يُسمح فيها بخسارته، مهما بلغت الأثمان، فزينوا حساباتكم وفق هذه المعايير. وبحسب متابعين، فإنّ هذه المعركة تتجاوز حدود الصندوق الانتخابي، إذ تحمل في طياتها إشارات ورسائل سياسية على أكثر من مستوى. نجاح هذا القُطب في فرض نفسه لاعباً أساسياً في مدينته سيكون بمثابة نقطة انطلاق على طريق أوسع، قد توصله بعد الانتخابات إلى السرايا الحكومية. وبالفعل بدأت “المحرّكات” بالدوران لهذه الغاية…
في بلدٍ اعتاد أن يقدّم نفسه كمنارةٍ للعلم والثقافة، تتحوّل الجامعةُ اللبنانية، الجامعةُ الوطنية الوحيدة، إلى صورةٍ مُصغَّرة عن انهيار الدولة. القاعاتُ تضيق بطلابها، والأساتذةُ يُهانون بتأخير مستحقاتهم، والمناهجُ لا تزال أسيرةَ عقودٍ مضت. كلُّ ذلك يجري تحت أنظار سلطةٍ سياسية تتعامل مع المؤسسة الأكاديمية الأهم في لبنان وكأنها عبءٌ زائد، لا رافعة وطنية صفوف كالمخيماتيكفي أن يزور المرءُ كليةَ العلوم أو الحقوق أو الإعلام ليكتشف المأساة: قاعاتٌ تستوعب مئةَ طالبٍ تضم أحياناً أكثر من مئتين. المقاعدُ غيرُ كافية، والطلابُ يقفون أو يجلسون على الأرض ليستمعوا إلى محاضرةٍ تُلقى على عجل.بحسب الأرقام الرسمية، بلغ عددُ طلابِ الجامعة اللبنانية نحو 80 ألفَ طالبٍ قبل الأزمة المالية، ليتراجع العددُ المُسجَّل عام 2024–2025 إلى 50 ألفاً فقط من أصل 65 ألفاً مُؤهَّلين للتسجيل.هذا الانخفاضُ لا يعود إلى تحسّن الظروف، بل إلى تسرّب عشرات الآلاف نحو الجامعات الخاصة أو الهجرة القسرية، بعد أن عجزت الجامعةُ عن فتح صفوفٍ إضافية أو توفير مقاعدَ تليق بأبنائها. أساتذة على قارعة الطريقالأستاذُ الجامعي، الذي يُفترض أن يكون قدوةً علمية، تحوّل إلى موظفٍ مُهان. رواتبه فقدت أكثر من 90% من قيمتها بفعل انهيار العملة. بدلُ الإنتاجية، الذي يُفترض أن يُعوّض جزءاً من الخسارة، أصبح مجرد فتات. عقودُ التفرّغ تُؤجَّل، والمتعاقدون بالساعة يعيشون على قلقٍ دائم: هل تُدفع مستحقاتهم هذا الشهر أم بعد سنة؟لا عجب إذن أن نشهد إضراباتٍ متكرّرة تهدّد العام الجامعي بالشلل. فكيف يُنتظر من أستاذٍ لم يقبض حقَّه أن يُقدّم تعليماً نوعياً أو أن يُواكب التطور البحثي العالمي؟ بلغ عددُ طلابِ الجامعة اللبنانية نحو 80 ألفَ طالبٍ قبل الأزمة المالية، ليتراجع العددُ المُسجَّل عام 2024–2025 إلى 50 ألفاً فقط من أصل 65 ألفاً مُؤهَّلين للتسجيل مناهج جامدة في زمن متسارعبينما تتسابق الجامعاتُ الإقليمية على تحديث برامجها وربطها بسوق العمل، لا تزال الجامعةُ اللبنانية تتخبّط في تطبيق نظام LMD. في بعض الكليات، تُفرض مبارياتُ دخولٍ غيرُ مبرّرة لشهادة الماستر، ما يحوّل التعليمَ إلى امتحانٍ إضافي بدل أن يكون امتداداً للتعلّم.المختبراتُ تعاني نقصاً في المعدات، والمكتباتُ ما زالت تعتمد على كتبٍ متقادمة، في حين يغيب الاستثمارُ في التكنولوجيا التعليمية. في زمن الذكاء الاصطناعي والاقتصاد الرقمي، ما زال طلابُ الجامعة اللبنانية يدرسون بوسائل ثمانينيات القرن الماضي. 21,958 طالباً خسرتهم الجامعةُ بين عامي 2021 و2023، أي ما يُعادل رُبع طلابها نسبةُ طلاب الجامعة من مجمل التعليم العالي في لبنان انخفضت من 60% في التسعينيات إلى نحو 35% فقط اليوم عشراتُ الصفوف في الكليات تبدأ متأخرة أو تُقسَّم على دفعات، ما يجعل الطالبَ ينتظر أشهراً قبل أن يبدأ مادته الأساسية هذه الأرقامُ ليست إحصاءاتٍ باردة، بل مؤشراتُ انهيارٍ مُمنهج. حين تخسر الجامعةُ اللبنانية موقعَها كخيارٍ أول للطلاب، يخسر لبنان ما تبقّى من عدالةٍ في التعليم. صرخة لا بد منهاالسلطةُ تصمت، والطلابُ يهاجرون، والأساتذةُ يُستنزَفون. النتيجة: تفريغُ الجامعة من دورها التاريخي، وفتحُ الطريق أمام الجامعات الخاصة، التي تتحول يوماً بعد يوم إلى الخيار الإجباري لمن يستطيع الدفع، فيما يُترك أبناءُ الطبقات الوسطى والفقيرة لمصيرهم.الجامعةُ اللبنانية ليست مجرد مبنى أو مؤسسة. هي ذاكرةٌ وطنية، مصنعُ كفاءات، وحصنٌ أخير للفقراء في وجه احتكار التعليم. إنقاذُها لا يكون بترقيعٍ هنا أو دعمٍ مؤقتٍ هناك، بل بإرادةٍ سياسية تعترف بأنها العمودُ الفقري للبلد.هل يُعقَل أن تُترك الجامعةُ، التي خرّجت آلافَ القضاة والمهندسين والأطباء والصحافيين، لتواجه مصيرَها وحيدة؟ هل يريدون أن تتحوّل من جامعة الوطن إلى “جامعة الأطلال”؟ إن لم تُفتح الصفوف، وتُدفع المستحقات، ويُحدَّث المنهج، ويُعاد الاعتبار للأستاذ والطالب، فإن الحديث عن “جامعة لبنانية” سيبقى مجردَ ذكرى رومانسية، تُروى للأجيال المقبلة عن زمنٍ كان فيه التعليمُ العام المرموق أمراً ممكناً في هذا البلد.
في السادس عشر من أيلول 1982، أُطلقت في بيروت جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية كإطارٍ جامعٍ لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي. أسّسها جورج حاوي ومحسن إبراهيم، وجمعت تحت لوائها قوى حزبية وسياسية متنوّعة من يسارٍ قومي وقوميين سوريين وشخصيات مستقلة. خلال أشهرها الأولى وحدها، نفّذت الجبهة أكثر من 128 عملية عسكرية ضد قوات الاحتلال، لتشكّل بذلك النموذج الأبرز لمقاومةٍ عابرةٍ للطوائف، قبل أن تنزلق التجربة تدريجيّاً نحو الطابع الفئوي والمذهبي. بعد أكثر من أربعة عقود، تعود الذكرى لتثير نقاشاً واسعاً في لبنان حول جوهر المقاومة وأهدافها. وفي هذا السياق، برز موقف النائب أسامة سعد، ابن مدينة صيدا وعائلة المقاومة، الذي دعا إلى استعادة البُعد الوطني الجامع للمقاومة، بعيداً عن الاحتكار الطائفي أو الحزبي. إلا أنّ تصريحاته لم تمر بهدوء؛ إذ وُوجهت بحملات انتقاد حادّة، وصولاً إلى التخوين، وكأنّ التذكير بجذور المقاومة الوطنية بات خروجاً عن الصف. بالنسبة لأسامة سعد، ليست هذه المواقف ترفاً سياسياً. فالعائلة دفعت ثمناً باهظاً في مواجهة الاحتلال؛ إذ تعرّض شقيقه مصطفى سعد لمحاولة اغتيال إسرائيلية عام 1985 أودت بحياة ابنته ناتاشا وعددٍ من رفاقه. هذه التجربة جعلت من آل سعد رمزاً للتضحية الوطنية، ورسّخت لدى أسامة قناعةً بأن المقاومة إن لم تكن شاملة لجميع اللبنانيين، فإنها تفقد معناها ومشروعيتها. لكن استعادة هذا النقاش التاريخي تزامن مع ملف آخر لا يقلّ حساسية: السلاح الفلسطيني في المخيمات اللبنانية. فبحسب وكالة الأونروا، يعيش في لبنان نحو 200 ألف لاجئ فلسطيني، منهم ما يزيد على 75 ألفاً في مخيم عين الحلوة وحده، أكبر المخيمات وأكثرها توتراً. وقد شهد المخيم في صيف 2023 مواجهات دامية أسفرت عن 30 قتيلاً ومئات الجرحى، لتعيد إلى الواجهة إشكالية السلاح غير الشرعي ودوره في استقرار لبنان. برز موقف النائب أسامة سعد، ابن مدينة صيدا وعائلة المقاومة، الذي دعا إلى استعادة البُعد الوطني الجامع للمقاومة، بعيداً عن الاحتكار الطائفي أو الحزبي 80% من العمليات ضد الاحتلال بين 1982 و1985 شاركت فيها مجموعات لبنانية متعددة الانتماءات قبل أن ينكفئ المشهد لصالح فصيل بعينه السلاح الفلسطيني يطرح معادلةً معقدة: فهو بالنسبة إلى اللاجئين وسيلةُ دفاعٍ عن النفس ورمزُ صمودٍ في ظلّ غياب الحقوق المدنية، لكنه بالنسبة إلى الدولة اللبنانية تهديدٌ مباشرٌ لسيادتها ومرجعيتها الأمنية. تجارب السنوات الماضية أثبتت أن هذا السلاح قد يتحول بسرعة إلى أداة صراع داخلي، ما يجعل أي معالجة قاصرة عن البُعد السياسي والاجتماعي محكومةً بالفشل. تُظهر الإحصاءات أنّ نحو 80% من العمليات ضد الاحتلال بين 1982 و1985 شاركت فيها مجموعات لبنانية متعددة الانتماءات قبل أن ينكفئ المشهد لصالح فصيل بعينه. هذه الحقيقة تعزّز حجّة أسامة سعد في الدعوة إلى استعادة روح المقاومة الجامعة، كما تسلّط الضوء على المخاطر الكامنة في حصر المقاومة أو السلاح بيد طرف واحد، سواء كان طائفياً أو فئوياً أو مخيمياً. في بلدٍ يعاني من أعمق أزماته الاقتصادية والاجتماعية، حيث بلغ معدّل التضخّم السنوي أكثر من 200% عام 2023 وتجاوزت البطالة 36% وفق البنك الدولي، يصبح النقاش حول المقاومة والسلاح ليس مجرد جدل سياسي بل شرطاً وجودياً. لبنان لا يحتمل المزيد من الانقسامات المسلحة، ولا يستطيع في المقابل تجاهل المخاوف الفلسطينية من فقدان الحماية. الحل، بحسب العديد من الخبراء، يتطلّب خطةً ثلاثية الأبعاد: حصر السلاح بيد الدولة عبر آلية تدريجية تشارك فيها القوى الفلسطينية؛ توفير حقوق مدنية واجتماعية للاجئين كضمانةٍ لثقتهم؛ وضمان مظلّة عربية ودولية تواكب العملية وتمنع استغلالها في صراعات إقليمية. إنّ ما قاله أسامة سعد، في جوهره، ليس سوى إعادةَ تأكيدٍ لمبدأ بسيط: كل شبرٍ من الأرض اللبنانية يعني كل اللبنانيين، والمقاومة لا تستقيم إلا إذا كانت مشروعاً وطنياً مشتركاً. أمّا إذا استُخدمت كأداة احتكار أو ورقة مساومة، فإنها تتحوّل من درعٍ للوطن إلى عبءٍ يثقل كاهله.