سيكون من الصعب على أهلِ صيدا، كما اللبنانيين جميعًا، تصوّرُ المشاهدِ التي شهدَتْها جَلسةُ المجلس البلدي في المدينة مساء أمس، والتي وصلت حدَّ التَّضارُبِ بالأيدي وتَراشُقِ الكراسي وكَيلِ الاتهاماتِ والصُّراخِ والتشنّج، بين الأعضاء من جهة، وبين أعضاءٍ والرئيس من جهةٍ أخرى، لتؤكّد ما قاله أحدُ المسؤولين الرسميين المُطّلعين عن هذا المجلس: إنّه “مدرسةُ المُشاغبين”. “الحِسْبَة”، أي سوقُ الخُضارِ والفواكهِ المركزي في المدينة، كانت الموضوعَ الذي طُرِحَ من خارج جدول الأعمال، فكان سببًا في تفجير الجلسة، وأدّى إلى احتدامِ النقاش، الذي وصل حدَّ الإهاناتِ والسبابِ التي لا ترقى إلى خَناقةٍ شَوَارِعيّة في “زَقْزوق حمص” في البلد. إنه بالفعل يؤكد كل يوم بأنه مجلس لا يليق بالمدينة. فمن المُعيب، تحت أيّ مُسمّى أو عذرٍ كان، أن يَنحدرَ مستوى الكلامِ والحوارِ في مرفقٍ عام يتحكّم بمصير المدينة وأهلها، ليصلَ إلى دَرَكٍ يقول فيه عضوٌ لرئيسه: “كول خـ…”.عيب!فليكن تاريخُ نضالٍ نقابيٍّ طويلٍ كفيلًا بتوقّفِ أحدِهم عند الحدّ الأدنى المطلوب من الاحترام الإنسانيّ والعملِ المؤسساتيّ. طَردُه من الغرفة ليس كافيًا بحدّه الأدنى، بل المفروضُ إحالتُه إلى المُساءلةِ القانونية، بجرمِ القدحِ والذمّ، وإهانةِ رئيسِ هيئةٍ مُنتَخَبةٍ من الشعب. أمّا حصيلةُ المهزلةِ المُبكية، فاجتراحُ حلٍّ (قد) يقضي بعقودِ إيجارٍ جديدة مع التُّجارِ ومُستأجري المحالّ في “الحُسْبَة”، تقومُ على فترةِ 20 سنة من تاريخ التوقيع (توجه دون إقرار بعد)، حفاظًا على حقوقِ وأموال كثيرٍ منهم ممّن دفعوا بالفريش دولار مبالغَ ماليةً كبيرةً على شكل “خُلوات” للمحالّ، كانت ستذهب أدراجَ الرياح لو لم يُحَلَّ الموضوعُ إلى التصويت وينلِ الأغلبية. ما عُدَّ انتصارًا للرئيسِ وأحدِ الأعضاءِ النافذين الـ”مُشاكِسِين”… لكن لمصلحة الناس هذه المرّة. Click here
في الزمنِ الذي كانتْ فيه “تِنكةُ الزَّيت” تُزيِّنُ أرففَ البيوتِ اللبنانيّةِ كرمزٍ للبركة، و”كيلو الزَّعْتَر” يجلسُ بجانبِها كقرينٍ للفقرِ الجميل، لم يكنْ أحدٌ يتخيَّلُ أنّ يومًا سيأتي يصبحُ فيه هذا الثنائيُّ الريفيُّ رمزًا للترفِ الاقتصاديّ اليوم، في مدينةِ صيدا، تُسجَّلُ تِنكةُ الزَّيت 200 دولار، وكيلو الزَّعْتَر 25 دولارًا، وكأنَّنا أمامَ عملةٍ رقميّةٍ مُشفَّرة لا تُمسُّ إلّا بشروطِ مصرفِ لبنان. لكنَّ الطرافةَ ليستْ في الأرقامِ وحدَها… بل في الخطابِ العاطفيِّ اللبنانيّ الذي ما زال يعيشُ في زمنِ الرغيفِ الساخن والزَّيت والزَّعْتَر على سطحِ “اللوح”.فما زالتْ بعضُ الأغنيات، وبعضُ القلوبِ أيضًا، تهمسُ ببراءةٍ: “بَعيشْ مَعَك عَالزَّيت والزَّعْتَر.” جميلةٌ العبارةُ، دافئةٌ النغمة… لكن في صيدا 2025، هذه الجملةُ لم تعُدْ وعدًا رومانسيًّا، بل خطّةً استثماريّةً مُغلَّفةً بالحب!فمَن يقولُها اليوم لا يُعلنُ زُهدَه، بل يُلوِّحُ بذكاءٍ اقتصاديّ “أنا مَعِك، بس بشرط… يكون عندِك مَخزون زَيت موسميّ وزَعْتَر بَلدي أصلي!” أصبحَ الزَّيتُ والزَّعْتَر اختبارًا للذاكرة: هل ما زالَ اللبنانيُّ قادرًا أنْ يعيشَ على الرموزِ التي تغنّى بها؟ أم أنَّ كلَّ لقمةٍ صارتْ معادلةً سياسيّةً وماليّة؟ المفارقةُ أنَّ الزَّيت والزَّعْتَر كانا يومًا رمزَ القناعةِ اللبنانيّة؛ طعامَ الفلّاحِ والصيّادِ والموظّفِ آخرَ الشَّهر. أمَّا اليوم، فقد تحوّلا إلى رمزٍ للتضخُّمِ الذهنيِّ والبطونِ الفارغة، وإلى سِلعتَين تتنافسانِ على الدُّخولِ في بورصةِ المشاعر. تسألُ سيّدةٌ خمسينيّةٌ في إحدى أسواق صيدا “يا ابني، تِنكةُ الزَّيت صارت أغلى من برميل نفط… يعني شو منعمل؟”فيجيبُها البائعُ مبتسمًا “ما باكُل زيت… معي كوليسترول! وما بَعبّي بنزين… لأن ما عندي سيارة!” تضحكُ المرأةُ وتمضي، لكنّها تعلمُ أنَّ الضحكَ صار وسيلةَ دفاعٍ نفسيّ في بلدٍ كلّما ارتفعَ فيه سعرُ اللِّتر، ارتفعتْ معه نسبةُ الفلسفةِ الشعبيّة. في الحقيقة، لا يمكنُ فصلُ هذه السخريةِ عن الواقعِ الاقتصاديِّ اللبنانيّ. فالأسعارُ لم تعُدْ مجرَّدَ أرقامٍ، بل مرآةً ساخرةً لخيباتٍ جماعية.أصبحَ الزَّيتُ والزَّعْتَر اختبارًا للذاكرة: هل ما زالَ اللبنانيُّ قادرًا أنْ يعيشَ على الرموزِ التي تغنّى بها؟ أم أنَّ كلَّ لقمةٍ صارتْ معادلةً سياسيّةً وماليّة؟ في صيدا اليوم، “تِنكةُ الزَّيت” لم تعُدْ تِنكة… بل حسابًا مصرفيًّا متحرّكًا، و”كيلو الزَّعْتَر” لم يَعُدْ طعامَ الفطور… بل استثمارًا في الذكريات. ولذلك، إذا سمعتَ مَن يقولُ لك بخجلٍ شاعريّ: "منعيشْ سوا عَالزَّيت والزَّعْتَر…" ابتسمْ بأدب، وقلْ لها: "شكلك فايتي عَ طَمَع… بس أكيد! خلّينا نعملْ دراسة جَدْوى قبل الحُب!"
في إحدى اللقاءات التي جمعت رَهْطًا من فاعليات المدينة وأهلها ووافدين، يميلُ أحدُ الأقطاب الأثرياء على جليسِه بجانبه على الطاولة، يسألُه عن الشخص الذي أتاه يُلقي عليه التحيةَ بحرارة ويسأله عن حاله وأحوال عائلته… يتفاجأ الشخصُ الذي تمَّ سؤاله من قبل “القُطب الثري”، فيقول له، وعلاماتُ الدهشة باديةٌ على محيّاه: هذا عضوُ البلدية فلان… لقد كنتَ أنت أكبرَ داعمي لائحته (الأخفياء، من وراء ستار، جبناً) في المعركة الأخيرة. ألا تعرفه؟ لقد موّلت حملته وأوصلته إلى البلدية. يَنْصَدِمُ السائلُ من الإجابة، فلا يجدُ مفرًّا من الإحراج إلا أن يُكمِلَ قَضْمَ الجَزَر من صحن على الطاولة. هكذا تُدارُ المعاركُ الانتخابية في صيدا. داعمون لا يعرفون مَن يدعمون، ومدعومون لا يتعرفون على داعميهم إلا في المناسبات. أما ما يحكم العملية برمتها فغالبا ما تكون النَكَايَاتٍ السياسية، وحتى الشخصية، وأهواءِ نفوسٍ آخرُ هَمِّها المدينةُ وأهلُها ومشاكلها، ومَن يصلُ إلى الكرسي، وماذا يُقدِّم من بعد ذلك…