يقف لبنان اليوم على مُفترقِ طُرُقٍ حاسم، فبعدَ حربِ 2024 المُدمِّرة التي أضعفت “حزب الله” بشكلٍ غير مسبوق، وفي ظلِّ الضغوط الدوليّة المتزايدة لنزع سلاح الجماعات المسلّحة، تُطرَح تساؤلاتٌ جوهريّة حول إمكانيّة تطبيق التجارب التاريخيّة الناجحة في تفكيك الميليشيات على الحالة اللبنانيّة المُعقّدة نجحت دولٌ عديدة عبر التاريخ الحديث في تفكيك ميليشياتها المسلّحة والانتقال نحو سلامٍ مُستدام. تُقدِّم هذه التجارب دروسًا قيّمة حول الآليّات والاستراتيجيات التي يمكن أن تُساعِد في فَهم إمكانيّة وشروط نجاح عمليّة مماثلة في لبنان. برامج نزع السلاح (DDR) تفكيك الميليشيات العسكريّة ليس مجرّد عمليّة تقنيّة لجَمع الأسلحة، بل هو عمليّة مُعقَّدة ومتعدّدة الأبعاد تتطلّب فَهمًا عميقًا للسياقات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة التي نشأت فيها هذه الجماعات. لقد طوّر المجتمع الدولي على مدى العقود الماضية إطارًا شاملًا لهذه العمليّة يُعرَف ببرامج نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج (DDR). تتألّف المكوّنات الثلاثة للبرامج من: نزع السلاح (Disarmament): يشمل الجمع الآمن والمُراقَب للأسلحة من المقاتلين والمدنيّين، ويتطلّب بناء الثقة وضمان الأمان. التسريح (Demobilization): يتضمّن التسريح الرسمي للمقاتلين من الهياكل العسكريّة وتوفير الدعم الانتقالي لهم ولأسرهم، ويُمثِّل نقطة “اللاعودة” في عمليّة التحوّل من الحرب إلى السلام. إعادة الإدماج (Reintegration): وهي العمليّة الأطول والأكثر تعقيدًا، حيث يتمّ إدماج المقاتلين السابقين في الحياة المدنيّة من خلال برامج التدريب المهني والتعليم وخلق فُرَص العمل، بالإضافة إلى الدعم النفسي والاجتماعي. نشأت برامج DDR في أوائل التسعينيّات استجابةً لتحدّيات ما بعد الحرب الباردة، وأظهرت التجارب أن النجاح لا يعتمد فقط على الجوانب التقنيّة، بل على فهمٍ عميقٍ للدوافع التي تُحرِّك المقاتلين، وأهميّة الشموليّة والعدالة في توزيع المنافع، وضرورة إشراك المجتمعات المحليّة. تتطلّب هذه اللحظة التاريخيّة قيادة حكيمة، وصبرًا استراتيجيًا، والتزامًا جماعيًا بتحقيق السلام والاستقرار الدائمين في لبنان والمنطقة تجارب ناجحة أيرلندا الشماليّة (1994-1998) تُعَدّ تجربة أيرلندا الشماليّة من أنجح قصص تفكيك الميليشيات. فبعد ثلاثة عقودٍ من الصراع الدموي بين الجيش الجمهوري الأيرلندي (IRA) والجماعات الموالية، نجحت عمليّة السلام في تحويل المقاتلين إلى سياسيّين. استغرقت المفاوضات أربع سنوات، وتُوِّجت باتفاق “الجمعة العظيمة” عام 1998، الذي وضع الأسس لهذا التحوّل. تمّ إنشاء “اللجنة الدوليّة المستقلّة لنزع السلاح” للإشراف على عمليّة تسليم الأسلحة وتدميرها، وكانت العمليّة طوعيّة وتدريجيّة، ما ساعد على بناء الثقة. عوامل النجاح شملت الإرادة السياسيّة الحقيقيّة من جميع الأطراف، والدور الفعّال للوسطاء الدوليين (خاصّة الولايات المتحدة وبريطانيا وأيرلندا)، وإدماج الجماعات المسلّحة في العمليّة السياسيّة عبر أحزابٍ سياسيّة، وتوفير ضمانات أمنيّة للمقاتلين السابقين، والتأييد الشعبي الواسع لعمليّة السلام. كولومبيا (2016) تُمثِّل تجربة كولومبيا مع جماعة “القوّات المسلّحة الثوريّة الكولومبيّة” (فارك) إنجازًا استثنائيًا في تفكيك واحدة من أقوى وأقدم الجماعات المسلّحة في أميركا اللاتينيّة. بعد أكثر من خمسة عقودٍ من الصراع، نجحت كولومبيا في تحويل 13,000 مقاتل من فارك إلى الحياة المدنيّة. بدأت المفاوضات الجادّة عام 2010 في هافانا بوساطة كوبية ونرويجية، واستغرقت ست سنوات من المحادثات المُعقّدة. في لحظة رمزيّة قويّة، تمّ تحويل جزء من أسلحة فارك إلى أقلام استُخدِمت في توقيع اتفاق السلام، في إشارة إلى التحوّل من العنف إلى السياسة. ورغم نجاح التسريح، واجهت العمليّة تحدّيات، منها اغتيال أكثر من 300 من قادة فارك السابقين، لكنّها نجحت في تسريح 76,442 شخصًا من مختلف الجماعات المسلّحة على مدى ثلاثة عقود. موزمبيق (1992-1994) بعد 16 عامًا من الحرب الأهليّة، نجحت موزمبيق في تفكيك ميليشيا “رينامو” عبر اتفاق السلام في روما عام 1992، بوساطة كنسيّة وإيطاليّة. تضمّن الاتفاق وقف إطلاق النار، وتسريح القوّات، وإجراء انتخابات ديمقراطيّة، ودمج مقاتلين في الجيش الوطني. شمل البرنامج تسريح 76,000 مقاتل، وتوفير مخصّصات وبرامج تدريب مهني، ودمج 30,000 مقاتل في الجيش. جنوب أفريقيا (1990-1994) تميّزت تجربة جنوب أفريقيا بكونها لم تقتصر على تفكيك الميليشيات بل على تفكيك نظام الفصل العنصري بأكمله. تطلّب ذلك دمج قوّات “المؤتمر الوطني الأفريقي” المسلّحة في الجيش الوطني الجديد. عوامل النجاح شملت القيادة الاستثنائيّة (نيلسون مانديلا ودي كليرك)، وآليّة العدالة الانتقاليّة (لجنة الحقيقة والمصالحة)، والضغط الدولي، والإرادة الشعبيّة الواسعة للتغيير. هذه التجارب تُظهر أن عوامل النجاح الأساسيّة هي: الإرادة السياسيّة، والدعم الدولي، والبدائل الاقتصاديّة، والضمانات الأمنيّة، والمشاركة السياسيّة. التحدّي الأكبر ليس “حزب الله” مجرّد ميليشيا عاديّة، بل هو كيان معقّد يجمع بين الأبعاد العسكريّة والسياسيّة والاجتماعيّة والدينيّة. تأسّس الحزب عام 1985 في ظلّ ظروف الحرب الأهليّة والاحتلال الإسرائيلي للبنان، كحركة مقاومة شيعيّة مدعومة من إيران. على مدى أربعة عقود، تطوّر حزب الله من مجموعة صغيرة من المقاتلين إلى “دولة داخل الدولة” تضمّ جناحًا عسكريًا قويًّا، وحزبًا سياسيًّا، وشبكة واسعة من الخدمات الاجتماعيّة، ومؤسّسات إعلاميّة وماليّة، وقاعدة شعبيّة واسعة. ما يميّز الحزب عن معظم الميليشيات الأخرى هو عقيدته الدينيّة العميقة، ودعمه المستمر من إيران، وتجذّره المجتمعي، وتنوّعه الوظيفي، وخبرته القتاليّة في صراعات إقليميّة متعدّدة. نقطة تحوّل تاريخيّة شكّلت حرب 2024 نقطة تحوّل جذرية في تاريخ حزب الله، حيث تعرّض لضربات قاسية لم يشهد مثلها منذ تأسيسه. بدأت الحرب بعمليّات استخباراتيّة معقّدة أدّت إلى اغتيال معظم قياداته وتدمير مراكز القيادة والسيطرة. كما شكّل مقتل الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، في 27 سبتمبر 2024، صدمة كبرى للحزب وقاعدته الشعبيّة. أدّت الحرب إلى خسائر عسكريّة فادحة، منها تدمير جزء كبير من الترسانة الصاروخية، وفقدان مناطق نفوذ تقليديّة، وتضرّر شبكة الأنفاق، وفقدان المئات من المقاتلين. سياسيًا، أضعفت الحرب موقف حزب الله، وتراجعت شعبيّته، وزادت الضغوط الدوليّة لنزع سلاحه، وتراجع نفوذه في القرار السياسي اللبناني. دخل اتفاق وقف إطلاق النار، الذي بدأ تنفيذه في 27 نوفمبر 2024، حيز التنفيذ، ووضع قيودًا جديدة على الحزب. وفي أغسطس 2025، كشفت تسريبات عن خطة أمريكيّة شاملة لنزع سلاح حزب الله بحلول نهاية العام، تبنّتها الحكومة اللبنانية رسميًا. أعلن الحزب رفضه القاطع لأي مساس بسلاحه، لكن قدرته على المقاومة الفعّالة تراجعت بشكل كبير. يمرّ حزب الله بمرحلة إعادة تشكيل صعبة بعد فقدان معظم قياداته التاريخيّة، وتواجه القيادات الجديدة تحديات جسيمة. كما يتأثّر موقع الحزب في “محور المقاومة” الإيراني بالتطوّرات الإقليميّة، حيث تواجه إيران ضغوطًا متزايدة، وتتغيّر المعادلات الإقليميّة مع التطبيع العربي-الإسرائيلي، وتواجه سوريا ضغوطًا لقطع خطوط الإمداد للحزب. يضع هذا الوضع الجديد حزب الله في موقف غير مسبوق: ضعيف عسكريًا، ومعزول سياسيًا، ومضغوط دوليًا. قد تخلق هذه الظروف فرصة تاريخية لتفكيك آخر الميليشيات الكبرى في المنطقة. لكنّ النجاح يتطلّب استراتيجية محكمة تتعلّم من دروس التجارب السابقة. إسقاط التجارب لفهم إمكانيّة تطبيق التجارب التاريخيّة على حالة حزب الله، يجب مقارنة السياقات والظروف. هناك أوجه شبه مع التجارب الناجحة، فحزب الله متعب من الحروب المتكرّرة (مثل الجيش الجمهوري الأيرلندي)، ويواجه ضغطًا دوليًا قويًا، وتراجعًا في الدعم الشعبي، ووجود إطار سياسي للمشاركة. كما يشبه كولومبيا في ضعفه العسكري بعد حرب 2024، ووجود حوافز اقتصاديّة لإعادة الإعمار، وتغيّرات إقليميّة تُشبه تراجع
أولاً: حول حرّية الصحافةإنَّ محاولة بلدية صيدا تحويل مقالٍ صحفيٍّ تحليليٍّ إلى ملفٍّ قضائيٍّ تحت ذريعة “إثارة النعرات الطائفية”، هو استهداف مباشر لحرية الرأي والتعبير التي يكفلها الدستور اللبناني (المادة 13) وحقوق الإنسان.فالصحافة ليست جريمة، ونشر الرأي النقدي لا يمكن أن يُصنَّف إثارةً للفتن إلّا في عقل من يريد قمع الحقيقة وحجب الأنظار عن التقصير والفشل. ثانياً: في الشكلإنَّ تقديم بلدية صيدا إخباراً ضد “مجهول”، في حين أنّ المقال منشور بشكل علني وموقَّع باسم موقع إعلامي معروف (Alpost)، هو تصرّف يفتقر إلى المهنية والجدّية.هذا الأسلوب يوحي إمّا بجهل القائمين على الإخبار بواقع العمل الصحفي والإعلامي، أو بتعمّدٍ مقصود لتجاهل هوية الموقع وصاحبه، بما يُشكِّل تقليلاً من قيمة العمل الإعلامي والاستخفاف بالرأي العام. ثالثاً: في المضمونإنَّ المقال المذكور تناول قضيةً عامةً تهمّ الرأي العام، وهو يأتي في إطار الدور الطبيعي للصحافة في طرح الأسئلة، ونقد الأداء، وإبراز مكامن الخلل.تجاهل مضمون المقال والانشغال بملاحقة كاتبه تحت عناوين “إثارة النعرات” لا يعكس إلّا رغبةً في قمع النقد المشروع وتحويل الأنظار عن القضايا الأساسية التي تهمّ المواطنين. رابعاً: في المهنية والاحترام المتبادلكنّا ننتظر من بلدية صيدا، بما تمثّله من مؤسسة عامة، أن تتعامل مع ما ورد في المقال بمنطق الحوار والرد الموضوعي عبر توضيح الحقائق للرأي العام، لا عبر إجراءات قضائية شكلية ضد مجهول لا تصمد أمام أي منطقٍ قانوني أو إعلامي.إنَّ احترام الصحافة ووسائل الإعلام جزء لا يتجزّأ من احترام حرية الرأي والتعبير التي كفلها الدستور اللبناني. خامساً: الرديؤكِّد موقع جريدة Alpost التزامه بالمعايير المهنية في عمله الصحفي والإعلامي، وحرصه الدائم على عرض القضايا العامة بشفافية ومسؤولية.ونحتفظ بحقّنا في الرد المهني والقانوني على أي محاولة لتشويه صورتنا أو التقليل من مصداقيتنا أمام الرأي العام.
أكتب هذا النص بصفتي مواطناً لبنانياً مقيماً في مدينة صيدا، ومتابعاً من موقعي المهني للشأن العام فيها.جلُّ ما يهمّني أن تستقيمَ المؤسّسات فيها، وأن تقوم بالمهامّ المنوطة بها، لما فيه مصلحة المدينة والمقيمين فيها. أمس فوجئتُ بالدعوى القضائية التي تقدّمت بها بلدية صيدا ضدّ أحد المواقع، بحجّة نشره مقالاً يُثير النعرات الطائفية وفق ما قرأت. لكنّي، وبعد قراءة النص، وجدتُ أنّ الخطوة متسرّعة، وقد تكون “دعسة ناقصة” بادر إليها رئيس البلدية. وأنا كمواطن لبناني، لي الحق أن أسأل: ما هو رأي اللجنة القانونية في المجلس البلدي؟ وهل قرّر المجلس البلدي تقديم الدعوى القضائية؟لقد كان الرد سريعاً من نقيب المحررين بأنّ طلب تقديم الدعوى يجب أن يكون أمام محكمة المطبوعات، وبانتظار الأحكام التي ستأتي لاحقاً. ألم يكن من الأفضل للمجلس البلدي أن يهتمّ بمتابعة الملفات الكثيرة المطروحة على طاولته، والاهتمام بقضايا المدينة وأهلها، ومتابعة القضايا الأكثر أهمية لحياة المواطنين؟ أليس حلّ مشكلة نهب المال العام في ملفّ معالجة النفايات أكثر أهمية من مقال نقدي في موقع صحافي؟أليس العمل لإيجاد حلّ لمياه الشرب أهمّ من ذلك؟ أليست إعادة تنظيم المدينة وأسواقها وشوارعها أهمّ من ذلك؟ وهذه نماذج من ملفات عديدة. أليس عقد اجتماعات للمجلس البلدي واتخاذ قرارات في مواضيع كثيرة أهمّ من دعوى تحمل أكثر من مضمون ومنحى؟ إنّ هذا السلوك في متابعة ملفات المدينة سيفتح الباب أمام تقارير وتحقيقات صحفية عديدة، لذلك من الأفضل متابعة الملفات، بديلاً من الدخول في دعوى لا تُسمن ولا تُغني من جوع. إنّ أقصر الطرق لمنع انتشار تقارير صحفية متنوّعة، هو أن يقوم المجلس البلدي بواجباته، ويتحوّل إلى مؤسسة فعلية لها سلطة القرار، ويمارس رئيسه السلطة التنفيذية المنوطة به. إنها نصيحة من مواطن لبناني، لمؤسسة يُنظر إليها بصفتها المسؤولة عن الخدمات المقدَّمة للمقيمين في نطاقها الجغرافي، وليست مؤسسة تقتصر مهامّها على المباركات والتهاني.