من الواضح أن “الضجة المفتعلة” التي أثيرت منذ يومين حول ما يجري في هيئة “أوجيرو” تبدو للعالمين أنها غير بريئة وجزء من حملة منسقة في الشكل والمضمون والتوقيت، لكنها تفتقد إلى بديهيات “دس السم” الصحيح الذي يهدف للتشويه والتخريب على واحدة من أكثر الإدارات اللبنانية أهمية وحساسية والتساقا بقضايا الناس وحياتهم الخبر الذي تم تداوله على نطاق واسع عن زيارة قام بها المدير العام السابق ل”أوجيرو” عماد كريدية إلى الهيئة، ودخوله مكتبه السابق مع عدد من المدراء والفريق القديم لمسح داتا أو تبديل حقائق أو محاولة طمس أشياء من “الحقبة الماضية” عار عن الصحة جملة وتفصيلا. بل وفيه من الغباء ما يجعله بلا قيمة حقيقية. ولو أراد كريدية القيام بشيء مشابه لما قيل إنه أقدم، عليه لما اعتمد الطريقة الهوليودية التي رويت بها الأحداث. جل ما في الأمر أن كريدية زار إحدى المستشارات في المبنى لأنه صودف أنه كان بالمنطقة، وأنه التقى ببعض زملائه القدماء دون ترتيب مسبق. يكشف مطلعون أن مديرين صيداويين أساسيين قد يكونا في دائرة النار، علما أن أحدهما يحظى بغطاء الحد الأدنى المطلوب للإستمرارية، بينما قد يكون الآخر “كبش المحرقة” التي سيدفع الثمن إذا لماذا هذه “الضوضاء” الآن؟ ومن يقف ورائها ومن يستفيد منها؟ بحسب مصادر اقتصادية وسياسية مطلعة، فإن هناك حربا “لا لزوم لها” اندلعت بين المديرين السابقين لأوجيرو عبد المنعم يوسف وكريدية على خلفية كلام غير دقيق ولا مسؤول قيل في إحدى المناسبات أدت إلى تفاقم الأمور بينهما على هذا النحو. فكانت الفتيل الذي اشعل النار، ودخل على الخط الكثير من المتربصين الذين رؤوا في الأمر فرصة متاحة لضرب مركز حساس محسوب على طائفة بعينها. هذا في الظاهر، أما في بواطن الأمور فإن هناك من استغل “توقيت” اندلاع النزاع بين الغريمين لفتح ملف ممارسات كريدية خلال فترة توليه رئاسة أوجيرو والتي شابها الكثير من “التخبيصات” والمخالفات التي ستطيح بعدد من الرؤوس الحالية في الهيئة في الفترة المقبلة. وفي هذا الإطار يكشف مطلعون أن مديرين صيداويين أساسيين قد يكونا في دائرة النار، علما أن أحدهما يحظى بغطاء الحد الأدنى المطلوب للإستمرارية، بينما قد يكون الآخر “كبش المحرقة” التي سيدفع الثمن. كما يؤكد متابعون إن فتح “الصندوق الأسود” لما قام به كريدية خلال فترة توليه مهامه، سيكشف الكثير من التجاوزات التي تظهر هدراً للمال العام على شكل انفاق سياسي وإعلامي وإعلاني لعدد من الإعلاميين ووسائل إعلام وفاعليات ونشاطات كان يُراعى فيها مصالح كريدية وحساباته السياسية والشخصية. قد يبدو المدير الجديد لأوجيرو أحمد عويدات من "الجيل القديم" المتروي الذي يفضل العمل على الورقة والقلم، على الرغم من ترؤسه واحدة من أعلى وأدق الإدارات الرقمية والتكنولوجية في البلاد، لكن الرجل حتى الآن يظهر بأنه لا يقوم بأي خطوة كيدية أو انفعالية، ولا يضمر أحكاما مسبقة بحق أي من العاملين والمدراء والإدارات، لكنه سيجد نفسه حكما في القادم من الأيام أمام مجموعة من القرارات التي واجب اتخاذها لتصحيح انحرافات كثيرة وطأت أقدامها بقوة على مسار إدارة كان لها أن تكون أفضل بكثير، لو قدر لها غير ما كان في الغابر من الأيام.
من وسائل الإخضاع والحصار لإسقاط المدن والقلاع المنيعة تاريخيًّا، كانت حرب المياه، وقطع الإمدادات وتجفيف المنابع، وذلك لضمان السيطرة على منطقةٍ عصيّةٍ على مُحتلّ. اليوم تبدّلت الأيّام، لكن نفس سلوكيّات الهيمنة لا تزال موجودة في ذهنيّة الغزاة. قطع الهواء يبدو صعبًا إن لم يكن مستحيلًا، لكنّ التحكّم بمصادر المياه وتوزيعها أمرٌ ممكن، أساسي. تفاهة متكررة فحين تتبحّر في أزمة مياه مدينة صيدا، وهي أزمة تتكرّر بشكلٍ تافهٍ وسخيفٍ ومريبٍ كل عام منذ سنين، لتؤذي حياة مئات الآلاف من أهل المدينة وسكّانها، وحين تدخل في فكّ شيفرات الأمور من الداخل، تجد أنّ هناك تقصّدًا غير مُبرَّر لإبقاء المدينة تحت أزمة مياه متواصلة. خاضعة، مرتهنة لحفنةٍ من غير المبالين، على الرغم من أنّ الحلول ممكنة ومتاحة، إن كانت هناك نوايا طيّبة للحلّ ولإراحة الناس. فهل يعقل أن تعاني مدينة عريقة على شاطىء المتوسط وتجاور نهرين من أزمة شّح في المياه، بينما تعيش بلدات وقرى بسيطة في جوارها وفرة مهدورة. الحلول موجودة وكثير من الدراسات والأبحاث والكلام قيل في هذا المجال على مدى سنين. ليس الموضوع ماديا أو تقنيا فحسب. “لب” الموضوع، هو رضوخ، وكسل، ولا مبالاة لدى المعنيين بالأمر قبل المتحكمين برقابنا. فلا “تفذلكوها” كثيرا. غريبٌ أمر هذه المدينة؛ قد يرتكب أحدهم جريمةً دفاعًا عن ولده إن علم بأنّ أحدًا ينوي إيذاءه بـ “شوكة”، لكنّه لا يحرّك ساكنًا على مدى سنين، ولو علم بأنّ ولده سيموت جفافًا مع الأيّام. يكفي أن تعلم أنّه في السنوات الأخيرة تمّ تعيين أكثر من 100 موظّف في “مصلحة مياه صيدا والجنوب”، 5 أو 6 منهم فقط من صيدا، لتفهم أنّ “الأمن المائي” في المدينة في خطرٌ داهم، يفرض “تحريك شُويّة طياز” لدى المعنيّين والجميع على حد سواء، قبل ألا تكفي ثرواتكم المكدَّسة كلها لشراء كوب ماءٍ لأحد أحفادكم…
كثيرٌ منّا لا يعرفُ صلاحَ خلف، “أبو أحمد”. قد نكونُ صادفناه يومًا في أحدِ شوارعِ صيدا، وقد لا نكون.هو واحدٌ من عشراتٍ، بل مئاتٍ، مرّوا وسيمرّون بصمتٍ. لا نسمعُهم إلّا حين يُحدِثون صخبًا. وغالبًا ما يكونُ هذا الصخب – للأسف – على شكل مأساةٍ أو مُصابٍ، كحادثةٍ أو موتٍ أو فاجعة… منذ أيّامٍ، مات هذا العاملٌ المطمورٌ في بلديّة صيدا بعدما لفظتْه مستشفياتُ المدينة؛ لا لشيء، فقط لأنّه لم يكن يملك مالًا حين أصابَه عارضٌ صحّي. ولم يؤمن له المال حين داهمت قلبَه المتعب أزمةٌ لم يعد باستطاعتِه أن يتحمّل شدّتَها، فاستكان، تاركًا وراءه قصصًا كثيرةً تُشبهه. كلّنا ساهمنا في موتِ خلف. كلّنا قتلناه حين ارتضينا أن تكونَ صيدا وبلديّتُها على ما هي عليه اليوم، ونقف جانبًا متفرّجين ومنتظرين. لم يهتمّ خلف بتحالفاتِ القوى السياسيّة في المدينة، التي ركبت هذا المجلسَ المشوَّه الكئيب. لم يعنِه توزيعُ المهام واللجان والرئاسة وعملُ الصناديق، ولا “ولدنات” الوافدين على ملعبِ الشأن العام المتربّصين ببعضهم حد العداوة والحسد.جلُّ ما كان اهتمامُه أن يكون قادرًا على أخذِ حبّةِ دواءٍ حين يمرض يومًا، أو أن يدخل مستشفى إذا زادت وطأةُ المرض. لكن حتّى هذا الأمر لم تضمنْه له بلديّةُ صيدا، كحقٍّ محسوم. لا يمكنك أن تزرعَ حسًّا في جسدٍ لا يفقه معنى الشعور بالآخر. لا يمكنك أن تُنبِت فكرًا في عقلٍ لا يرى أبعد من سراب ظلِّ كرسي. ومهما تكن الأعذار، وتقاذفُ المسؤوليّات، وتبسيطُ المواضيع، والتسليمُ بقدرِ الله خيرِه وشرِّه، لو كان فيكم رجلٌ لما كانت الروايةُ كما سمعناها عن مأساةِ الفقيد. يجسّد خلف معاناةَ العشراتِ من أقرانِه العاملين في بلديّة صيدا بلا غطاءٍ صحّي، ولا ضمانٍ اجتماعيّ، ولا حتّى حسٍّ إنسانيّ يُذكّر القائمين على صندوق “الشحادة البلديّة” أنّ المال الذي تأخذونه من ميسوري المدينة يجب أن يُوزَّع على فقرائِها، بلا مَنّةٍ منكم ولا جميل… لا على سفراتِكم ونزواتِكم – عاطفيّةً كانت أم شخصيّةً أم مصلحيّة. فلا تستغربوا حين تسألون ولا تجدون أحدًا ليُشارِككم الذهابَ لأداء واجبِ العزاء بالميّت، فقد بتم خزيًا يستعِر منه، ويتجنّبه الناس. ولصندوقِ “التسوّل البلديّ”، الذي لم يُنقِذ خلف وهو مَلآن، قصاصٌ مستطيرٌ في القادم من الأيّام. فترقبوا…