في لُبنان، حيثُ تتداخلُ السُّلطةُ القضائيّةُ مع السياسةِ وتتعـرّضُ للمحاسبةِ الضَّعيفةِ، لا يُعَدُّ التَّحوُّلُ الرَّقميُّ رَفاهيةً بل ضرورةً لإعادةِ بناءِ الثقةِ. يتجاوزُ الأمرُ مُجرَّدَ تطويرِ منصّةٍ إلكترونيّةٍ أو نظامِ مُرافعاتٍ عن بُعد، إنَّه مَسعى لتحويلِ القضاءِ إلى جهازٍ ذكيٍّ وشفّاف، قادرٍ على حمايةِ ذاتهِ من تَدخُّلاتِ السُّلطةِ وتحيّزِها. تراجُعٌ الأبطالِ القانونيّين من أبرزِ التَّحدّياتِ التي تُواجِهُ العدالةَ اللُّبنانيّةَ اليومَ هو شُغورُ القُضاةِ: تُقدَّرُ نسبةُ الشُّغورِ في الجِسمِ القضائيِّ بحوالي 30% بحسبِ تقاريرَ محلِّيّة، بينما حوالي 120 قاضيًا حديثَ التخرّجِ ينتظرونَ تعيينَهم.هذا النَّقصُ ليس رقمًا ثانويًّا، إنَّه يُؤثِّرُ مباشرةً على قُدرةِ المحاكمِ على البتِّ في القضايا ويُسهمُ في التأخيرِ المُزمِن. المؤشِّرُ الأهمّ: عددُ القُضاةِ النَّشِطينَ يُقدَّرُ بحوالي 570 قاضيًا فقط، كثيرٌ منهم يعملونَ كقضاةٍ مُؤقَّتين وبأعباءٍ مُتعدِّدةٍ لدى أكثرَ من محكمة.إضافةً إلى ذلك، تبرزُ أيضًا قضيّةُ الاستقالاتِ والتقاعدِ المُبكِّر، حيثُ زادت “نَزعةُ النُّزوحِ القضائيِّ” من النِّظامِ الرسميِّ بعد انهيارِ الأجورِ بالدولار. أزمة هيكلية التَّراكُمُ في القضايا ليس مشكلةً هامشيّةً، بل أزمةً هيكليّة. وفقَ تقريرِ الأداءِ القضائيِّ لعام 2023، بلغ عددُ القضايا المتأخّرة (backlog) حوالي 2,594 قضيّة على مستوى مختلفِ درجاتِ المحاكم، ما يُشكِّلُ نحو 5% من مجموعِ القضايا المفتوحة آنذاك، بعدما كان التأخّرُ 6% في 2022.هذا التحسُّنُ الطفيفُ لم يأتِ صدفةً، بل بفضلِ “برنامجِ مَسحٍ وتأجيلٍ استراتيجيّ” تضمَّنَ تعيينَ قضاةٍ جُدُد (مثل 10 قُضاة لدى محاكمِ الاستئناف، و20 قاضيًا في محاكمِ الدَّرجةِ الأولى)، مع تفعيلِ تكنولوجيا المعلوماتِ في إدارةِ القضايا، وفقَ التقرير.ومع ذلك، لا يمكنُ التغاضي عن وجودِ تقاريرَ تشيرُ إلى أنَّ بعضَ القضاةِ يُضطرّونَ للعملِ في أكثرَ من محكمةٍ بسببِ نَقصِ التعيينات، ما يُقلِّلُ من تركيزِهم ويُؤثِّرُ في جودةِ الأحكام. لكي يقودَ الذكاءُ الاصطناعيُّ هذا النوعَ من الإصلاح، لا بدّ أوّلًا من وجودِ بُنيةِ بياناتٍ قويّةٍ ومتكاملة. ما ينقصُ لبنان اليوم هو أرشيفٌ قضائيٌّ مُوحّد، منصّةٌ تجمعُ بياناتِ جميعِ المحاكم وتربطُها بخوارزميّاتِ تحليلِ الأداء الضُّغوطُ الماليّةُ وتأثيرُها لم يُعفِ الانهيارُ الاقتصاديُّ القضاءَ من تداعياتِه. بعد تراجُعِ العملةِ وتآكُلِ الأجور، واجهَ القضاةُ صعوباتٍ ماليّةً كبيرةً، ما أدّى إلى إضراباتٍ مُتكرّرة: في بعضِ الأحيانِ شاركَ نحو 80% من القضاةِ في الإضراب، ما عرقلَ نشاطَ المحاكمِ بشكلٍ كبير.في المشهدِ اليوميّ، يعرفُ القضاةُ أوقاتَ عملِهم ليس من حرارةِ الأعمالِ القانونيّة، بل من وجودِ المُولّداتِ أو مدى توافُرِ الوقود، ومن ساعاتِ توفُّرِ الكهرباءِ في قصورِ العدل.إلى ذلك، يشيرُ تقريرٌ تفصيليٌّ إلى أنَّ البُنيةَ التحتيّةَ القضائيّةَ غيرُ مُلائمةٍ في كثيرٍ من المحاكم: قاعاتٌ ضيّقة، ضعفٌ في الأرشيف، غيابُ تجهيزاتٍ أمنيّةٍ وتقنيّةٍ شِبهِ تامّ. عدالةٌ رقميّةٌ مدعومةٌ في ظلِّ هذه الضُّغوط، يصبحُ الذكاءُ الاصطناعيُّ أكثرَ من خيارٍ تكنولوجيّ: إنَّه “مراقبٌ مُحايِد” لا يخضعُ للمنطقِ السياسيّ. يمكنُ لخوارزميّاتِ الذكاءِ الاصطناعيِّ تحليلُ ملايينِ البياناتِ القضائيّة، واكتشافُ الأنماطِ غيرِ الطبيعيّةِ في تأخيرِ الأحكام، أو في توزيعِ القضايا بين القضاة، أو في معدّلاتِ الاستئناف. هذا النوعُ من المراقبةِ لا يُخضعُ القاضيَ فقط للمساءلة، بل يخلُقُ أساسًا للدقّةِ والشفافيّة التي يمكنُ للجميعِ رؤيتُها.بفضلِ تقنيّةِ التنبّؤِ القضائيّ، يمكنُ للمنصّةِ الرقميّة أن تُشيرَ إلى حالاتِ “إنذارٍ مُبكّر”: مثل القضايا التي تجاوزت متوسّطَ زمنِ البتِّ في ملفاتٍ مماثلة، أو التي تشهدُ تأخيرًا مُفرطًا مقارنةً بمحاكمَ أخرى. هذه الميزةُ لا تُقلِّلُ من دورِ القاضي البشريّ، بل تدعمُ قراراتِه وتُجهِّزُ النِّظامَ الأساسيَّ لمراجعةِ الأداء.كما أنَّ الذكاءَ الاصطناعيَّ يمكن أن يكونَ أداةً قويّةً للكشفِ عن الانحياز: تحليلُ لغةِ الأحكام، وتكرارُ بعضِ القراراتِ لدى فئاتٍ معيّنة، وربما كشفُ ميلٍ نحو التمييزِ بسببِ المحسوبيّةِ أو التوزيعِ الطائفيِّ أو السياسيّ. من التَّجزئةِ إلى الوحدة لكي يقودَ الذكاءُ الاصطناعيُّ هذا النوعَ من الإصلاح، لا بدّ أوّلًا من وجودِ بُنيةِ بياناتٍ قويّةٍ ومتكاملة. ما ينقصُ لبنان اليوم هو أرشيفٌ قضائيٌّ مُوحّد، منصّةٌ تجمعُ بياناتِ جميعِ المحاكم وتربطُها بخوارزميّاتِ تحليلِ الأداء. كما يحتاجُ النِّظامُ إلى إطارٍ قانونيٍّ صارمٍ لتنظيمِ استخدامِ الذكاءِ الاصطناعيّ، يُحدّدُ الشفافيّة، ويمنعُ الانحياز، ويضمنُ مراجعةً بشريّةً للقراراتِ التي تظهرُ عبر التحليلِ الآليّ.وبدونِ هذه البُنية، تظلُّ بعضُ المبادراتِ الرقميّةِ جزئيّةً وغيرَ فعّالة، وقد تتفاقمُ الأزماتُ بدلَ أن تُحَلّ. التقنيةُ كقوّةٍ دستوريّة أهميّةُ العدالةِ الرقميّةِ التي تدعمُها الذكاءُ الاصطناعيّ لا تقتصرُ على التشغيل؛ هي استعادةٌ لشرعيّةِ القضاء. يستطيعُ المواطنُ أن يرى مسارَ قضيتِه في الزمنِ الحقيقيّ، أن يعرفَ أين تكمنُ عقبةُ التأخير، وأن يطمئنّ إلى أنَّ النّظامَ يُراقبُ ذاتَه. هذا النوعُ من الشفافيّةِ لا يُبنى بعقودٍ سياسيّة، بل بخوارزميّاتٍ وإشعاراتٍ رقميّة.عندما تصبحُ التكنولوجيا ليست أداةً لتسريعِ العملياتِ فقط، بل أداةً لضمانِ سلامةِ الحُكمِ واستقلالِ القضاء، فإنّها تتحوّلُ إلى ضمانةٍ دستوريّةٍ بذاتِها.لبنان لا يحتاجُ فقط إلى “قضاءٍ أكثرَ ذكاءً”؛ بل إلى “نظامٍ قضائيٍّ أصدق”، نظامٍ قائمٍ على التكنولوجيا، يمكنه أن يُحاسِبَ نفسَه، يُراقبَ أداءَه، ويكشفَ التحيّزَ دون خوف. في ظلِّ أزمةِ الشُّغورِ القضائيّ، وتراكُمِ القضايا، والضُّغوطِ الماليّةِ، والتسييس، الذكاءُ الاصطناعيُّ المدعومُ بالعدالةِ الرقميّةِ ليس رَفاهيةً، بل أداةُ إصلاحٍ حيويّة. هذه هي الفُرصةُ لإعادةِ بناءِ مرفقِ العدالة على أسُسٍ لا تحتملُ التلاعب، بل تفرضُ النَّزاهةَ والشفافيّة.
أوحت إحدى الجهاتِ السياسيّةِ النافذةِ في المدينةِ إلى رئيسِ البلديةِ الحاليّ ضرورة تثبيتَ الشَّتائمِ والعنفِ اللفظيِّ الذي شهدتْه إحدى الجلساتِ البلديّةِ الأخيرة، والذي طاله شخصيًّا بشكلٍ غيرِ مقبول، في محضرِ بيانِ الاجتماعِ الرسميّ للبلدية، كي يوقِّعَ عليه الأعضاءُ في جلستهم المقبلة. من شأنِ هذا الأمر، إنْ حصل، أنْ يحفظَ حقَّ الأداءِ الشخصيِّ أو حتى العامّ بحقِّ مرتكبِها، وإحالته إلى القضاءِ في مرحلةٍ لاحقةٍ إنِ استدعتِ الظروفُ ذلك. ومن المرتقبِ أن يكونَ هذا الموضوعُ مادةً خلافيّةً بين أعضاءِ المجلس، الذين سينقسمون بين مؤيِّدٍ ومعارِضٍ لهذه الخطوة، لما تحمله من تداعياتٍ على أداءِ عملِ المجلسِ وخارطةِ تقاسُمِ القوى داخله في المرحلةِ المقبلة.
في الوقتِ الذي تُمارسُ فيه القوى السياسيةُ التقليديةُ في صيدا ما لا تُجيدُ إلّا فِعلَه، ألا وهو المناكَفاتُ والتحاصُصُ والتهافُتُ على فُتاتٍ شكليٍّ لا يُقدِّمُ ولا يُؤخِّر، حول تسميةِ أعضاءِ مجلسِ إدارةٍ جديدٍ لمرفأ صيدا، يَغيبُ السؤالُ الأكبر: ماذا فَعَلتم لهذا المرفأ على مدى عقودٍ كي يَتطوَّرَ ويُؤدّيَ دَورَه الحقيقي، بعدما صار مضربًا للمثل على حوضِ المتوسّط باعتباره “مرفأ خُردة”؟ هل يقطع اليمن؟ إذا كان السؤالُ المطروحُ اليوم هو: مَن سيكونُ الرئيسُ الجديدُ لمرفأ صيدا؟ فإنّ السؤالَ الفعلي الأجدى أن يكون: ما هو الدورُ المُرتقَب لهذا المرفأ؟ ماذا ستفعلُ مجموعةٌ من الأشخاصِ يُترئِّسون منشأةً صارت خارجَ الزمن… حتى الفينيقي؟ مَن المُستفيدُ من جعلِ صيدا عاصمةٌ بحريةٌ بلا مرفأ؟ كيف يمكنُ النهوضُ بهذا المرفقِ الحيويِّ والماليِّ والاقتصاديِّ الهامّ ليعودَ بالفائدةِ على المدينةِ وأهلِها؟ هذا ما يجبُ أن يكونَ هَمَّكم الأول… أفادت مصادرُ متابعة لصحيفة “البوست” أنّ الاسمَ المطروحَ اليوم لرئاسةِ مجلسِ إدارةِ مرفأ صيدا هو مروان اليمن، الذي شغلَ منصبَ رئيسِ نقابةِ الوكلاءِ البحريين. وقد تمّ طرحُه من قبل النائبِ السابق بهية الحريري، ولقي قبولًا من قبل النائب أسامة سعد، لكنه رُفض من النائب عبد الرحمن البزري، ما يُفسِّرُ تأخيرَ حصولِ التعيين حتى الآن. فَبِحَسَبِ مُطَّلِعين، يَسألُ البُزري، وهو مُحِقٌّ: كيفَ يمكنُ القُبولُ بشخصٍ يَشغَلُ مَنصِبَ مَسؤولِ الماكِنةِ الانتخابيّةِ في “تيّارِ المُستقبل”، والمَعنيِّ بالصَّيداويّين المُقيمينَ في بيروت، لِشَغلِ مَنصِبٍ تَتقاطَعُ عليه كُلُّ القُوى السياسيّةِ والاقتصاديّةِ في صيدا على اختلافِ مَشارِبِها؟ فهذا مَنصِبٌ إداريٌّ تطويريٌّ بَحت، ليس بالضَّرورةِ أن يكون شاغِلُه على تَماسٍّ مُباشرٍ بالعَمَلِ البَحريِّ الصِّرف. صيدا مَلأى بالكفاءاتِ في هذا المِضمارِ وغيرِه، فهل تَمَّ الاستعانةُ بها لِتقديمِ رُؤيةٍ أو تَصوُّر، أم إنَّ مِرفأَ جونيه أولى بِطاقاتِنا الصَّيداويّة؟ الجديدُ في هذا الموضوع أيضًا، بحسب مصادر متابعة دخولُ إحدى الشخصياتِ التجاريةِ الفاعلة من خارج المدينة على خط فرضِ ابنته ضمن الأسماءِ المطروحة لعضويةِ مجلسِ الإدارة الجديد، في سابقةٍ بالشكلِ والمضمون تُؤشِّرُ إلى محاولةِ تَسَلُّلٍ إلى هذا المركزِ الحساس من قبل قوى غير صيداوية، نظرًا لدورٍ مُرتقَب قد يلعبه هذا المرفقُ الاقتصادي إن تمّ إطلاقُ إمكانياته في عام 2021 طلبت الأجهزةُ الأمنية وقفَ العمل في مرفأ صيدا إلى حين تأمين الأجهزةِ اللوجستيةِ والتقنيةِ اللازمة، لكن قوى سياسية وإدارية رفضت الطلب، ما أضرَّ بسمعته وأدّى إلى تراجعِ ثقة الشركات والتجار به أزاءَ هذه التخبطاتِ والتلكؤ، يقفُ المرفأُ الجديد على شاطئِ المدينة العتيقة شاهدًا صامتًا على ثلاثةِ عقودٍ من الوعودِ المؤجَّلة والأحلامِ المتعثّرة. ما كان يُفترضُ أن يكون بوابةَ الجنوبِ اللبناني الاقتصادية نحو العالم، تحوّل إلى رمزٍ للإهمالِ والتخلّف، وبات يطرحُ أسئلةً مُقلقة حول أسبابِ تراجعِ نشاطِه وتأخرِ إنجازِه. بعد مرورِ أكثرَ من 30 عامًا، لا يزال الواقعُ بعيدًا عن المرجو. فالأرقامُ الصادمةُ تكشفُ حجمَ المأساة: لم يتم تنفيذُ سوى 18% من إجمالي أعمالِ المرفأ، ومن أصلِ 1400 مترٍ من الأرصفةِ المُخطط لها، لم يُنجَز سوى 275 مترًا فقط. والأخطرُ من تأخرِ الإنجاز هو التحولُ الخطير في طبيعة نشاطه. فبدلًا من أن يكون مركزًا لاستيراد وتصدير البضائع المتنوعة، تحوّل مرفأ صيدا إلى “مرفأ للخُردة”. الأرقامُ تتحدث عن نفسها: في عام 2020 بلغت نسبةُ الخردةِ المصدَّرة 71% من مجملِ صادراتِ المرفأ، وشكلت 90% من عملياتِ الوزن على القبانِ الجِسري. حقائق وأرقام جاء الانهيارُ الاقتصادي والمالي الذي شهده لبنان منذ عام 2019 ليزيدَ الطينَ بِلّة. فقد أدّى انهيارُ سعرِ صرفِ الليرة اللبنانية إلى توقّفِ المتعهّدين عن إكمال أعمالِ البناء في المرفأ. وفي ظلّ انكماشِ الاقتصاد اللبناني بنسبةٍ تقارب 40% منذ عام 2019، وتراجعِ القدرةِ الشرائية والاستيرادية، تراجعت حركةُ المرفأ بشكلٍ كبير. كما أنّ 82% من أعمالِ البنيةِ التحتيةِ لم تُنجَز بعد، والمرفأ بحاجةٍ إلى استثماراتٍ ضخمة تُقدّر بنحو 20 مليون دولار لإكماله. يُضاف إلى ذلك السياقُ الإقليميُّ غيرُ المستقر، والأزمةُ الاقتصاديةُ المستمرة التي تُلقي بظلالِها على مستقبلِ المرفأ. أصبح المرفأ قادرًا على استقبالِ ثلاثِ بواخر في آنٍ واحد، مع خمسِ بواخر أخرى تنتظر في الخارج، بعدما كانت الحركة تقتصرُ على باخرتين للخردة فقط. وهناك خططٌ طموحة لتوسيع الأرصفة لرفع القدرة إلى عشرِ بواخر، وإنشاء منطقةٍ حرة ومحطةٍ للحاويات، وتحويلِ رصيفِ المرفأ القديم إلى مساحةٍ للمقاهي والمطاعم والمهرجانات.