فقط في صيدا يمكنك أن تصادف المشهد الآتي: تدخل أحد مطاعم المدينة على ضفاف نهر الأوّلي، فتجد النائب السابق عن جزّين، العونيّ العتيق، أمل أبو زيد، يتبادل أطراف الحديث على مائدة طعام مع «عرّاب» حزب «القوّات اللبنانيّة» في المنطقة، مرعي أبو مرعي، ويضحكان بانسجامٍ ومودّة.وما هي إلّا دقائق قليلة حتّى ينضمّ إليهما «الكادر» الناصريّ العتيق طلال أرقدان، ويُكمل الثلاثيّ بسلاسةٍ غير مصطنعة ما كان قد بدأه الرجلان. لا يمضي نصف ساعة على اللقاء، حتّى ينضمّ المسؤول السياسيّ للجماعة الإسلاميّة بسّام حمّود إلى الطاولة نفسها، ويُكمل الجميع وكأنّها «جُمعة» أصدقاء مدرسة.ولكي تكتمل فرادة المشهد، ينضمّ إلى الجمع أمين عام تيّار المستقبل أحمد الحريري، الذي صادف مروره بالمكان، لينخرط في الجوقة وكأنّهم رفاق دربٍ منذ سنين طوال. مشهد متخيل، لكنه قابل للحدوث في أي لحظة…بحرفيته. عونيّ ولا عونيّ مع تزايد الحديث عن خارطة التحالفات بين القوى السياسيّة في دائرة صيدا – جزّين في الانتخابات النيابيّة المقبلة (إن حصلت)، يطفو على السطح كلام بات يتردّد في مواضع كثيرة داخل الأروقة الصيداويّة عن «خصوصيّة» ما يتحلّى بها أمل أبو زيد دون سواه من العونيّين، تجعل التحالف معه أمرًا مقبولًا لدى أهل صيدا.ماذا يعني ذلك؟ المراد من هذا الكلام إظهار أنّ لأبو زيد رمزيّة معيّنة على صعيد صيدا وجزّين تجعله عونيًّا وغير عونيّ في آنٍ واحد. أي إنّه، بالنسبة إلى أهل جزّين، عونيّ أكثر من ميشال عون نفسه، كما تؤكّد الصورة العملاقة المنتصبة على أحد الأبنية في بلدة أنان، وبالنسبة إلى أهل صيدا، فهو الجار المتصالح مع عاصمة الجنوب، المنفتح على كلّ قواها السياسيّة، القريب من فاعليّاتها الاجتماعيّة والاقتصاديّة والدينيّة… قد يكون «الإنجاز» الصيداويّ الوحيد الذي يُسجَّل لأبو زيد شراؤه منزل الشيخ أحمد الأسير في بلدة لبعا، وتحويله إلى دارٍ للمسنّين، ووضع صليبٍ عملاق على سقفه، لتذكير الجميع بذلك يوميًّا الحقبة السوداء لكن هل هذا الأمر صحيح؟ على أرض الواقع، لا يبدو ذلك دقيقًا. فما هو المميّز وغير الاعتياديّ الذي قدّمه أبو زيد لصيدا وأهلها ليُصنَّف «غير»؟ لا شيء جديًّا. قد يكون الإنجاز الوحيد في هذا الإطار أنّه أقلّ «استفزازًا» من زياد أسود، وأقلّ عدائيّةً في مناصبته العداء والعنتريّات الوهميّة بحقّ أهالي «ساحل جزّين». يعاني العونيّون في صيدا اليوم من تداعيات الحقبة السوداء للنائب العونيّ السابق زياد أسود، وما تخلّلها من مواقف وكلام يصعب نسيانه بسهولة، أو محوه من الأذهان والذاكرة الجمعيّة، باعتباره استفزازيًّا، ملؤه الضغينة والحقد الدفين.نجح أسود في جعل العونيّين مكروهين في صيدا، إلى حدّ بات فيه الحديث اليوم، ولا سيّما في أوساط الجيل الشبابيّ، عن أنّ «القوّات اللبنانيّة»، وعلى الرغم من حساسيّة الكثيرين حيالها في عاصمة الجنوب، باتت طرفًا مسيحيًّا مقبولًا أكثر، مقارنة بالحالة العونيّة وما أفضت إليه من ممارسات بحقّ «السُنّة» في الأعوام العشرة الأخيرة. يحاول أبو زيد، من خلال حركة نشطة ولافتة في صيدا مؤخرا، تأكيد تمايزه عن السياق العونيّ العام في هذه الدائرة، دون التبرّؤ من هويّته السياسيّة والحزبيّة والدينيّة. لكن صيدا، وإن لم تكن عدائيّة في مواجهاتها، فإنّ مزاجها العام صعب، ولا ينسى بسهولة، حتّى وإن لم يُبادر إلى ردّ فعل صدامي مباشر. بالنسبة إلى الصيداويّين، لم يروا من أبو زيد فعليًّا على الأرض ما يمكن أن يدفعهم إلى النظر إليه باعتباره «غير». وفي هذا الإطار، يستذكر أحد رجالات صيدا المخضرمين في العمل السياسيّ العتيق ما قام به الرئيس رفيق الحريري منذ عقود، حين بدأ نجمه بالصعود سياسيًّا، إذ شيّد مجمّعًا تربويًّا صحّيًّا متكاملًا وضخمًا في بلدة كفرفالوس، التي لا تبعد كثيرًا عن مسقط رأس أبو زيد في مليخ، بعد أن بات يُصنَّف ثريًّا، وذلك لنهضة المنطقة وأهلها. في المقابل، لا يبدو أنّ أبو زيد، بعد المليار الأوّل الذي حقّقه، يكترث كثيرا حيال صيدا إلّا بزيادة عدد محالّ OMT فيها، لتزداد عمولاته في الشركة التي يُديرها أولاده بالنسبة إلى الصيداويّين، لم يروا من أبو زيد فعليًّا على الأرض ما يمكن أن يدفعهم إلى النظر إليه باعتباره «غير فما هكذا يكون حسن الجوار، ولا هكذا يُبنى تصالحٌ حقيقيّ مع المحيط؛ حين تُختزل العلاقة بابتسامة موسميّة، وتُؤرَّش كما تُؤرَّش الشعارات، ولا تُستحضَر إلّا عند صناديق الاقتراع.
يَنقُلُ زوّارٌ ممّنِ التقوا النائبَ جُبران باسيل في الآونةِ الأخيرة، عنه، عند الحديثِ عن دائرةِ «صيدا–جزّين» في الانتخاباتِ النيابيّةِ المقبلة، حِرصَهُ الشديدَ على بذلِ كلِّ المُستطاع لإنجاحِ أملِ أبو زيد في هذا الاستحقاق. فكلُّ «هَمِّ» باسيل أن «يُقطِّع» أمل، بأيِّ الطُّرقِ المضمونة، ولهذه الغايةِ بات هناك تصوّرٌ مُتقدِّمٌ لدى ماكينةِ «التيّارِ العونيّ» من ترْكيباتِ التحالفاتِ وخريطةِ الطريقِ الواجبِ اتّباعُها. في هذا الإطار، تكشِفُ مصادرٌ مُتابِعةٌ لصحيفة “البوست” أنَّ التقارُبَ والتناغُمَ الواضحَ بين أبو زيد وإبراهيم عازار لا يعني بالضرورةِ حسمَ التحالفِ الانتخابيِّ بينهما، بل إنَّ المصلحةَ قد تفرِضُ الترشّحَ ضمنَ لائحتينِ مُنفصلتَيْن. وأنَّ بعضَ «اللاهثين» الصيداويّين من وراءِ الكواليسِ لِتركيبةٍ جزّينيّةٍ تُحقِّقُ أوهامَهُمُ ستصطدِم بالأنانيّةُ العونيّةُ التي لا تُراعِي إلّا مصالحَها الآنيّةَ الضيّقة. في الإطارِ نفسِه، يُؤكِّدُ مُتابِعون أنَّ «العونيّين» يتعاملون مع الانتخاباتِ اليوم وفقَ مبدأ «مَن لا مبدأَ له»، أي إنَّ الغايةَ تُبرِّرُ الوسيلةَ «على القِطعة»، وهم يتربّصونَ لإيجادِ «رافعةٍ» صيداويّةٍ تُستَخدَمُ كجسرِ عبورٍ نحوَ إيصالِ مُرشّحِهم إلى الكرسيِّ النيابيّ، تُستَخدَمُ كمَطيّةٍ قبل أن تُنسى وكأنّها لم تكن. لكنَّ «الصيداويّين» اليوم باتوا أكثرَ إلمامًا بحقيقةِ «العونيّين» بعدما اختبروهم في أكثرَ من موضع، واكتشَفوا رأيَهُمُ الفعليَّ حيالَ سكّانِ «ساحلِ جزّين»، كما يُسمّونها في «عنتريّاتٍ» بائدة. اهتمامُ باسيل الخاصّ والشديد بإنجاحِ أملِ أبو زيد يأتي من اعتباراتٍ أبعد من مجرّد المقعد الجزّيني. فالرجل يُمثّل بالنسبة لباسيل عنصرًا أساسيًّا في ترميمِ النفوذِ المسيحيّ في الدائرة، وركيزةً ماليّة–سياسيّة يحتاجها «التيّار» في أيّ معركةٍ مقبلة، خصوصًا في ظلّ التراجع الذي أصابَ حضوره الشعبيّ. كما أنَّ أبو زيد يُشكّل واجهةً “مقبولةً” لدى جزءٍ من القوى المحليّة والمرجعيات الصيداوية، ما يجعلُ نجاحَهُ مدخلًا لإعادة تفعيل شبكةِ التحالفات التي خسرها التيار بسبب سوء سياساته تباعًا خلال السنوات الأخيرة. لذلك يرى باسيل في فوزِ أبو زيد معركةَ «وجودٍ» لا مجرّد استحقاقٍ انتخابيّ، ومحاولةً لإثبات أنَّ التيّار لا يزال قادرًا على هندسةِ النتائج في جزّين، مهما تبدّلت التحالفات وموازين القوى.