في أحد أهمّ أفلام الممثل الأمريكي ويل سميث “Concussion” أو “ارتجاجُ المُخّ”، حيث يلعب سميث دورَ طبيبٍ إفريقيٍّ متفوّق، هاجر إلى الولايات المتحدة ليبدأ حياةً علميةً أكاديمية هناك، ليكتشف بالمصادفة أنَّ كرةَ القدم الأمريكية تُسبِّبُ الجنونَ ثم الموتَ لِلاعبيها بعد تقاعدهم، فقرَّر أن يتصادم مع مسؤولي هذه اللعبة الشهيرة التي تُعَدّ من الأركان الأساسية للثقافة الأمريكية. في أحد الحوارات بين الطبيب ومديره في العمل، ذلك المدير الأمريكي الأصيل الذي يعرف الثقافة الأمريكية أكثر مما يعرفها الطبيب الإفريقي المهاجر، وبينما يُعرِبُ الأخير عن نيته البطولية في مواجهة اتحاد كرة القدم الأمريكية، يُحذِّره المدير من تلك المواجهة فيقول له جملةً عابرةً ولكنها قد تكون واحدةً من أقوى الجمل الثقافية في تاريخ السينما، إذ إنّها — رغم قِصَرها — تختصر انقلابًا ثقافيًا عميقًا أو تغيّرًا حضاريًا جذريًا:“إنهم يمتلكون يومًا من أيام الأسبوع! اليوم الذي كانت تمتلكه الكنيسة… صار لهم.” من القداسة إلى الترفيهأن تمتلكَ يومًا من أيام الأسبوع يعني أن تمتلكَ الزمنَ، فالجزءُ يرمز إلى الكل. وأن تمتلكَ الزمن يعني أن تمتلكَ إيقاعَ الناس الاجتماعي، برنامجهم اليومي أو الأسبوعي، لحظات سكونهم وانفعالهم، وما يجتمعون من أجله.في الغرب، كان الأحد يومَ الكنيسة، يومَ الربّ، يومَ العائلة والسكينة. لكن عندما تبدّلت السلطةُ الثقافية، ولم تَعُد الكنيسةُ تمتلك سلطةَ إنتاج الحياة، حلّ التلفزيون محلّ الأجراس، والمعلِّق الرياضي محلّ القسّ، تحوَّل الملعب إلى المعبد الجديد، وانتقل المركز من القداسة إلى التسلية، ومن الجماعة إلى الفُرقة.هكذا يحتلُّ المُدنَّسُ مكانَ المُقدَّس. والمُدنَّس هنا لا يعني بالضرورة النجسَ أو الملوَّث، إنما هو الدنيويُّ العاديّ بحسب تعريف عالم الأديان الشهير ميرسيا إلياده. ولكن في الحقيقة، ما تغيّر ليس المضمون (اللعب بدل الصلاة)، بل الفضاء نفسه؛ اليوم، والوقت، والمكان، والوسيلة. هنا يمكن القول إن الإسلام، من خلال هندسته للزمن، خلق فضاءً عامًا متجدّدًا يضمن استمرارية الجماعة حتى في غياب الدولة أو المؤسسة الوسيط لا المحتوى هذا هو جوهر مقولة مارشال ماكلوهان الشهيرة:“The medium is the message”.فالوسيط — لا المحتوى — هو الذي يحدد شكلَ التفكير وذهنيةَ الإنسان، وبالتالي يشكّل الوعيَ الجمعيَّ والحياةَ العامة.مثال بسيط على مقولة ماكلوهان: التلفزيون وتأثيره على الحياة، لا من ناحية المحتوى الذي يقدّمه، بل من ناحية كونه الوسيط والوسيلة.فبعد دخول التلفزيون إلى المنزل تغيّر شكلُ العلاقات العائلية، وأصبح الاجتماعُ العائلي الأهم هو ذلك الذي يكون حول الشاشة التي تحدّد شكلَ غرفة الجلوس الجديدة!قبل التلفزيون كانت الحياة اليومية تعتمد على الزمن الطبيعي، حركة الشمس وبرامج العمل والطعام. ومع التلفزيون دخل زمنٌ جديد يتحدد بحسب البرامج التي يتناوب أفرادُ العائلة على حضورها.أذكر جيّدًا أن وقت نومنا أنا وأختي الصغرى كان عندما تبدأ نشرةُ الأخبار تمامًا، فهذا يؤذن بانتهاء وقت برامجنا وبدء برامج الكبار.كلُّ هذا لا علاقة له بالمحتوى، بل بالوسيلة نفسها التي أحدثت هذه التغييرات، أو ربما استحدثت عاداتٍ أو إيقاعات جديدة تمامًا.وأهمُّ ما في هذا الأمر مسألةُ السلطة التي أصبح التلفزيون يتمتع بها وتُنتَج على أساسها الحياة.وإنتاج الحياة يكون وفق آليات سلطوية عديدة، منها الآليات التي تتحكم بالوقت وتنظيم إيقاع الحياة الذي من شأنه تحديدُ المعنى الجمعي للوجود. الإسلام… سلطةُ إنتاجِ الحياة لقد أدرك التقويمُ الإسلامي منذ بداياته أنَّ الزمنَ بُنيةٌ حضارية تُنظّم الجماعة التي تُنتج وقتها الخاص، عبر طقوسها وأعيادها وإيقاعِ العمل والراحة فيها. وعندما تقوم بذلك فهي لا تنظّم الوقت فحسب، بل تحتفظ بسلطة إنتاج الحياة؛ فما تُقدِّسه الجماعة يُقفل الباب في وجه أي سلطة أو مؤسسة خارجية تسعى لامتلاك الوقت والزمن.فللناس خمسُ صلواتٍ في اليوم، وجُمعةٌ في الأسبوع، ورمضان في كل عام، وعِيدان بينهما موسمُ الحج السنوي.هذا التكرارُ الطقسيُّ في ظاهره يحمل في باطنه نظامًا زمنيًا عامًا متكاملًا ينتج ما يُسمّى “الإيقاع الجمعي“ ويخلق تزامنًا مشتركًا بين ملايين الأفراد في أمكنة مختلفة.فالصلواتُ الخمس، المنتشرةُ في اليوم كله، هي ما يمنح المدينةَ الإسلامية هويتَها المكانية والزمنية. إنّها خريطةُ الحياة اليومية. والجمعة ليست مجرد صلاة، بل إعادةُ ضبطٍ أسبوعية للإيقاع، وهكذا…ورمضان، في الحقيقة، قد يكون النموذج الأوضح للزمن الاجتماعي في الإسلام.فالشهر لا يُعرَّف بالعبادة فقط، بل بتحوّل الإيقاع الجمعي للمجتمع ككل؛ أوقات العمل، السوق، الإعلام، اللقاءات والتجمعات، وحتى المزاج العام يصبح رمضانيَّ النكهة!وهذه السيادة الرمضانية على الزمن لا تتجلّى في التراويح وقيام الليل فقط؛ فالعبادة هنا هي المحتوى، أمّا الوسيط فهو الزمن الرمضاني نفسه.فحتى إذا تغيّر المحتوى ليكون سهراتٍ اجتماعيةً تُقدَّم فيها بعضُ محتويات التسلية — التي قد تكون منافية لروح الشهر أحيانًا — إلا أنّ الفضاء العام ما زال ملكَ رمضان، مهما تغيّر المحتوى أو تبدّل. الوسيط لا المحتوى هو الذي يحدد شكلَ التفكير وذهنيةَ الإنسان، وبالتالي يشكّل الوعيَ الجمعيَّ والحياةَ العامة وسيلةٌ للوجود إنَّ هذا التنظيمَ الزمنيّ هو ما يحفظ وحدة المجتمع عبر التاريخ؛ إذ يُبقي الناسَ في حالة تزامن رمزيٍّ مستمرّ، ويمنحهم شعورًا بالانتماء يتجاوز السلطةَ والحدود، ويخلق فضاءً للحوار الجماعي وشعورًا بوحدة الزمن والمصير.الزمن هنا ليس ملكًا لمؤسسة، بل للمجتمع. ليس مجرد وسيلة للتنظيم، بل وسيلة للوجود. لذلك، فالمسألة ليست في ما نفعله في هذه الأوقات، بل في مَن الذي يملكها.حين تقرر المراجعُ الرسمية الالتحاقَ بجدول السوق العالمية لتغيير شكل يوم الجمعة، نفقد شيئًا أعمق من الطقس نفسه.إذ إن هذا التغيير لا يمسُّ الشريعة — التي قد تدعم البرنامج الجديد طالما أن هناك فسحةً لأداء الصلاة والعودة للعمل — ولكننا في الحقيقة نفقد الإيقاعَ الذي تمتلكه الجماعة.وحين يُفقد الإيقاع، تتحول الجماعة من مالكةٍ للزمن إلى متلقّيةٍ له؛ فالسوق هي التي تحدد متى يصمت الناس ومتى يتحدثون، وهذا ما يسميه عالم الاجتماع الفرنسي بورديو بـ”العنف الرمزي”، حين تفرض السلطةُ إيقاعَها بحيث يبدو طبيعيًا وغير قابل للنقاش.فعندما يُرفع الأذان، أو تتوقف المدينة كلها قبيل الإفطار في رمضان، أو يجتمع الناس في المسجد يوم الجمعة، فإن ما يحدث ليس فقط فعلَ عبادة، بل توليدٌ لحيّز اجتماعي مشترك.هي آلياتُ ضبطٍ اجتماعيٍّ تنظم المجال العام دون سلطة قسرية، بل سلطةٌ ناعمةٌ يُنتجها تفاعلُ الجماعة مع المقدّس دون تدخل السلطات القمعية.وهنا يمكن القول إن الإسلام، من خلال هندسته للزمن، خلق فضاءً عامًا متجدّدًا يضمن استمرارية الجماعة حتى في غياب الدولة أو المؤسسة.فكل هذه الطقوس المرتبطة بالوقت بشكل دقيق ليست طقوسَ عبادة فحسب، بل مواسم اجتماعية تحتل الحيّز العام كل عام، ومساحةً زمنيةً تتسع للجماعة كلها.حتى في البيئات التي ضعُف فيها المضمونُ الديني، يبقى الإيقاعُ واحدًا، لأنه يملك الفضاءَ العام ويعيد تشكيل الحياة على أساسه. إنَّ امتلاكَ الزمن هو أعمقُ أشكالِ السلطة، ومن يحتفظ بإيقاعه يحتفظ بثقافته وهويته وذاكرته. فالزمن المشترك ليس ترفًا ولا طقسًا، بل البنيةُ الخفية التي تحفظ السلطةَ الجماعية للناس وتجمع وحدتهم رغم اتساعهم، واستمرارهم رغم ضعفهم. فإذا كان الاتحادُ العام لكرة القدم الأمريكية يمتلك يومًا في الأسبوع، فإنَّ النسيجَ الإسلاميَّ العجيب يمتلك الزمنَ كلَّه… أستاذٌ في "جامعةِ جورجتاون"- قطر باحثٌ في الدراساتِ الإسلاميةِ والتاريخِ الإسلاميّ
يُروى عن النبي محمّد عليه الصلاة والسلام أنّه كان يتعوّذ من الجُبن والبُخل، فيقول بصيغةٍ واضحةٍ وصريحة: “اللّهم إنّي أعوذ بك من الجُبن والبُخل”. وكأنّ هاتين الصفتين الإنسانيتين من الصفات المخيفة التي لا بدّ من الاستعاذة بالله منها؛ أي أنّ الإنسان عليه أن يلجأ لحول الله وقوّته هربًا من أن تطاله تينك الصفتان شاءت تجارب الحياة أن تضعني في مواقف أرى فيها عن قربٍ أشخاصًا يتّصفون بهاتين الخصلتين، فكانت تلك التجارب كفيلةً بأن تُظهر لي مدى قبحهما وانعكاسهما على السلوك الإنساني. لن أُطيل في هذا الباب، غير أنّي أقول باطمئنان إنّ أصحاب هاتين الصفتين من أبعد الناس عن روح المدنية والمجتمع… ولعلّ في ذلك حديثًا مفصّلًا في مقالٍ لاحق.هذا التعوّذُ النبويّ يدلّ على قُبح الصفتين وقوّة أثرهما على الناس، ومن الطبيعيّ ألا يكون هذا الأثرُ محدودًا بحامل الصفة فقط، بل يتعدّاه إلى مجتمعه وبيئته وأمّته بأكملها. هيمنة ومجتمعاتفلنتخيّل مجتمعًا يهيمن عليه الجُبن والبُخل… مجتمعًا يخاف أفراده من قول الحق، ويمسكون أيديهم عن مدّ الخير؛ كيف تكون حاله؟كيف يكون وضع فقرائه وشوارعه وأسواقه؟كيف تُدار شؤونه العامّة؟كيف تكون قوّته في الدفاع عن نفسه أو في بناء مؤسّساته ومصالحه؟المجتمع الجبان مجتمعٌ صامت، والمجتمع البخيل مجتمعٌ عقيم. الأوّل يُصاب بالشلل الأخلاقي، والثاني بالضمور الاقتصادي والوجداني. وحين يجتمع الجُبن والبُخل في النفوس، تُصاب الأمّة بما يشبه الانسداد التاريخي؛ إذ يغيب الفعلُ، وتغيب التضحيةُ، ويغيب معنى العيش المشترك الذي لا يقوم إلّا على الشجاعة والعطاء. الوقف…ربطُ الثروة بالحرّيةلم يكن الوقفُ في التاريخ الإسلامي مجرّدَ نظامٍ ماليٍّ خيريٍّ يسعى أصحابه إلى التقرّب من الله طلبًا للأجر أو «شراء بيتٍ في الجنّة» فحسب — فهذا أمرٌ مُسلَّمٌ به لديهم — بل كان في جوهره نظامًا اجتماعيًّا أصيلًا في الحضارة الإسلامية يقوم على حبس الأصل وتسبيل المنفعة؛ أي أن يوقف الإنسان مالَه أو عقارَه بحيث يبقى الأصلُ ثابتًا وتُصرَف منفعته في وجوه الخير العام: كالعلم والعلاج والمأوى.ومن هنا كان الوقف مؤسّسةً سلطويّة قبل أن يكون ماليّة؛ لأنّه يربط المال بالحرّية، ويحوّل الثروة من وسيلة تملّك إلى وسيلة تحرّر وتوكيلٍ ذاتي. فالذي يتنازل عن جزءٍ من مُلكه لصالح المصلحة العامة يمارس شجاعةً مدنيةً نادرة: شجاعةَ التخلّي عن السيطرة، وثقةً بالمجتمع والزمن والنيّة الصالحة.إلى جانب هذا البعد الإيماني، كان للوقف أثرٌ دنيويٌّ وحضاريٌّ عميق، تجاوز فكرة التكافل البسيطة إلى بناء مجتمعٍ يملك استقلاله الذاتي وسلطته الداخلية.ذلك المجتمع لم يكن يتمتع بحريةٍ ماديّة فحسب، بل بقدرةٍ على إنتاج الحرّية وضمان استمراريتها؛ مجتمعٌ يصوغ ثقافةً تحفظ الكرامة وتصون الأعراض، بعيدًا عن الارتهان لقوى خارجية تسعى للاستثمار أو الاستغلال. الوقف آليّةٌ من آليات الإسلام الاجتماعي التي تضمن السلطة خارج مؤسساتها التقليدية التي هي بطبيعتها مؤسسات قمعيّة؛ إذ إنّ كل سلطةٍ تتبلور في كيانٍ موحّد تصبح القمعيّة من صفاتها المباشرة حين يُربّي الجُبنُ أباه قد نرى تجلّي الفكرة من خلال روايةٍ مأثورة عن النبيّ، حيث يقول: “الولدُ مَجبنةٌ ومَبخلة”.وهذا الحديث يُحذّر مرةً أخرى من الوقوع في صفتي الجُبن والبُخل؛ فعندما يصبح الإنسان أبًا أو أمًّا لطفل صغير، يصبح هذا الولدُ مدعاةً للبخل والجبن؛ لأنّ الوالد سيبخل عن العطاء من أجل ولده، ثم يجبُن عن أيّ شجاعة خوفًا من أن يتيتّم ولده. لكنّ المثال يأخذنا إلى ما نسمعه يوميًا من الأهل عن حياتهم ما بعد الأولاد: “بتصير حياتك مش إلك، بتصير حياتك لإلُن”.هنا يتّضح المعنى المقصود: أي إنّ السلطة في الحياة لم تعُد تُنتَج بحرّية الأب أو الأم، بل بناءً على مصلحة الطفل. وهنا تقع طامة فقدان السلطة من مكانها الطبيعي إلى مكان سبّبه الجُبن… الذي قد يصل بالإنسان حدّ تأليه ذاته؛ فيعتبر نفسه الرازق الضامن لحياة ذلك الصغير! الأمر ذاته في المجتمع؛ فمن عبقرية النظام الوقفي أنّ الأصل المادّي الذي أُوقِف لله تعالى لا يعود ملكًا للموقِف، ولا للدولة، ولا للمؤسسة الدينية، بل ملكًا للمجتمع نفسه. والوقف آليّةٌ من آليات الإسلام الاجتماعي التي تضمن السلطة خارج مؤسساتها التقليدية التي هي بطبيعتها مؤسسات قمعيّة؛ إذ إنّ كل سلطةٍ تتبلور في كيانٍ موحّد تصبح القمعيّة من صفاتها المباشرة — والقمع هنا لا يعني الاضطهاد الجسدي فقط، بل القدرة على الظلم والتمييز والقهر. فصلُ الدين عن الدولة ولذلك يخلص بعض مؤرخي القرون الإسلامية الوسطى إلى القول إنّ سلطة الخليفة على المجتمعات الإسلامية كانت سلطة الحدّ الأدنى؛ فليس من طبيعة الخلافة أن تمتلك سلطة المجتمع، وإنما يقتصر عملها على إدارة الشؤون الدولية الكبرى. وقد فَطِنَ العلماء إلى هشاشة فكرة الدولة وإمكانية تغيّرها وتبدّلها لأسباب خارجة عن السيطرة: كالغزو، والاحتلال، والثورات، والانقلابات… فقاموا — بلغة اليوم — بفعلٍ ذي روح «عَلمانية»؛ فصلوا الدين عن الدولة لا لنزع قدسية الدين، بل للحفاظ على سلطة المجتمع. ولم يكن ذلك ليتمّ لولا وجود شجعانٍ كرماء أوقفوا ملكهم لخدمة الناس، ولم يجبُنوا أو يبخلوا، ولم يسعوا إلى منصبٍ مؤسساتيّ أو سلطويّ «ليخدموا الناس»، بل فقهوا أنّ الخدمة الحقيقية هي في إعطاء السلطة للمجتمع. المجتمع الجبان مجتمعٌ صامت، والمجتمع البخيل مجتمعٌ عقيم من احتكار السلطة إلى تمكين الناسإذا تأملنا صورة المجتمع الذي تخنقه صفَتا الجُبن والبُخل، أدركنا فورًا أنّ استعادته لقِيَم الوقف والشجاعة المدنية ليست ترفًا تاريخيًا، بل ضرورةً حاضرة. فالوقف في جوهره إعلانٌ جماعيٌّ بأنّ الأمة قادرةٌ على تمويل حريتها بنفسها، وأن تنتج ثقافتها من داخلها، وأن تحمي كرامتها بلا استجداء.أخطر ما تفعله هاتان الرذيلتان هو تحويل المجتمع من فاعلٍ إلى متلقٍّ، ومن مانحٍ إلى طالب، ومن مالكٍ لسلطته إلى خائفٍ من فقدانها؛ لذا كان التعوّذ النبويّ في محلّه…فمقاومة الجُبن والبُخل ليست تربيةً فردية فحسب، بل تأسيسٌ لشكلٍ من الاجتماع الإسلاميّ الحرّ يقوم على العطاء، ويتحصّن بالمؤسسات الأهليّة، ويُبقي السلطة بيد الناس لا فوقهم.وفي زمنٍ كثر فيه من يرفع شعار «خدمة الناس» وهو يستميت للحصول على منصبٍ كأنّه غايةٌ في ذاته، يصبح من اللازم التذكير بأنّ الخدمة الحقيقية لا تكون بالاستحواذ على السلطة، بل بتمكين الناس منها.فالمجتمع لا يُبنى بالخطباء الذين يعتلون الكراسي ليتحدّثوا عن الإصلاح، بل بالشجعان الذين يتركون الكراسي ليقيموا مؤسساتٍ تنتمي إلى الناس لا إليهم. وآليّاتٌ مثل الوقف هي النموذج الأصدق لهذه الروح؛ إذ لا يكتفي صاحبُها بأن يتنازل عن مالِه، بل يتنازل عن سلطته أيضًا، واضعًا ثقته في المجتمع لا في ذاته، وفي الفعل الجماعي لا في الفرد المتسلّط. من هنا يبدأ الإصلاح الحقيقي: حين يتحوّل الشعار من: «سأخدم الناس» إلى: «سأمنح الناس القدرة على خدمة أنفسهم». أستاذٌ في "جامعةِ جورجتاون"- قطر باحثٌ في الدراساتِ الإسلاميةِ والتاريخِ الإسلاميّ
أغمض عينيك… وتخَيَّل معي هذا المشهد الساحر. تقف على ضفاف النيل في القاهرة، والشمس تشرق على مآذن الأزهر. تحمل عصاك وزادك، وتنطلق في رحلة لن تحتاج فيها إلى جواز سفر، أو تأشيرة دخول، أو حتى تصريح مرور. إنها رحلة عبر إمبراطورية واحدة تمتد من المحيط الأطلسي إلى أسوار الصين، ومن سهول آسيا الوسطى إلى صحاري أفريقيا. من أرض الكنانة إلى الأرض المقدسةتعبر سيناء بخطوات واثقة، لا يوقفك حارس حدود، ولا يطالبك أحد بهوية. تصل إلى فلسطين المباركة، حيث تصلي في المسجد الأقصى، ثم تواصل رحلتك شمالاً عبر بلاد الشام الخضراء. في دمشق، تستريح في ظلال الجامع الأموي، وتستمع إلى قصص الفتوحات من شيوخ المدينة. من هناك، تتجه شمالاً نحو إسطنبول العظيمة، عاصمة الخلافة العثمانية، حيث تقف مبهوراً أمام آيا صوفيا والجامع الأزرق، وأنت تدرك أنك في قلب إمبراطورية تحكم ثلث العالم المعروف آنذاك. إلى مهد الحضارة في بلاد الرافدينتنحدر جنوباً عبر الأناضول، وتعبر نهري دجلة والفرات لتصل إلى الموصل الحدباء، ثم إلى بغداد دار السلام، عاصمة الخلافة العباسية التي كانت يوماً منارة العلم والحضارة في العالم. تتجول في أسواقها، وتزور بيت الحكمة حيث تُرجمت علوم الأولين، وتستمع إلى حكايات هارون الرشيد والمأمون. رحلة الروح إلى بيت الله الحراممن بغداد، تنضم إلى قافلة الحج المتجهة إلى مكة المكرمة. تسير عبر الصحراء العربية، محمياً بأمان الخلافة، حتى تصل إلى البيت الحرام. تؤدي مناسك الحج، ثم تزور المدينة المنورة، حيث تقف أمام قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقلبك يفيض بالإيمان والخشوع. عندما كان المسلم في الأندلس يشعر بالانتماء لنفس الوطن الذي ينتمي إليه المسلم في سمرقند. عندما كان العالم الإسلامي أمة واحدة تحت راية واحدة، بقيادة واحدة من اليمن السعيد إلى القرن الإفريقيرحلتك لم تنته بعد. تتجه جنوباً إلى صنعاء العريقة، عاصمة اليمن السعيد، حيث تتأمل عمارتها الفريدة وحدائقها المعلقة. من هناك، تعبر مضيق باب المندب إلى جيبوتي، ثم تواصل رحلتك إلى الصومال الحبيب، حيث تكتشف مدناً إسلامية عريقة على ساحل المحيط الهندي. تركب سفينة تجارية إسلامية، وتعبر المحيط الهندي إلى جزر القمر، ثم إلى ماليزيا وإندونيسيا والفلبين، حيث تشهد كيف وصل الإسلام إلى هذه الجزر النائية عبر التجار والدعاة، وليس بحد السيف كما يدعي المغرضون. جوهرة التاجتصل إلى الهند الإسلامية، حيث تزور دلهي وأغرا وحيدر آباد، وتقف مذهولاً أمام تاج محل، تحفة العمارة الإسلامية الخالدة. تتجول في أسواق التوابل والحرير، وتستمع إلى الموسيقى الصوفية في المساجد والخانقاهات. من الهند، تتجه شمالاً إلى أفغانستان، أرض الجبال الشامخة والمجاهدين الأبطال، ثم إلى أوزبكستان، حيث تقف مبهوراً أمام عظمة بخارى وسمرقند وطشقند وخوارزم. هنا، تترحم على الفاتح العظيم قتيبة بن مسلم الباهلي، الذي فتح هذه البلاد ونشر فيها نور الإسلام. تواصل رحلتك عبر تركمانستان وقيرغيزيا وطاجكستان، حيث ترى كيف امتدت حضارة الإسلام إلى أقاصي آسيا، وكيف ازدهرت العلوم والفنون في هذه البقاع النائية. تعود أدراجك غرباً، عبر البلقان المسلم، حيث تزور سراييفو وبريشتينا وتيرانا، وتشهد كيف وصل الإسلام إلى قلب أوروبا. تصل إلى الأناضول مرة أخرى، وتركب سفينة عبر البحر المتوسط إلى كريت ومالطا وقبرص. المغرب الأقصىتصل إلى المغرب الأقصى، حيث تتجول في أزقة مراكش الضيقة، وتزور الرباط العاصمة. من هناك، تتجه شرقاً إلى الجزائر، حيث تزور العاصمة البيضاء وتلمسان الأندلسية ووهران الساحلية وقسنطينة المعلقة. رحلتك تقودك إلى تونس الخضراء، حيث تزور القيروان، أول عاصمة إسلامية في المغرب، وتترحم على مؤسسها القائد المجاهد عقبة بن نافع. تجلس في جامع الزيتونة العريق، وتستمع إلى دروس العلماء. من تونس، تتجه إلى ليبيا، أرض عمر المختار البطل، ثم تعود إلى القاهرة، حيث بدأت رحلتك. تصلي في الأزهر الشريف، وأنت تحمل في قلبك ذكريات رحلة عبر إمبراطورية عظيمة. هذه ليست مجرد رحلة خيالية بل حقيقة تاريخية عاشها المسلمون لأكثر من 1250 عاماً في ظل الخلافة الإسلامية. تخَيَّل أنك تقطع كل هذه المسافات الشاسعة دون: جواز سفر أو هوية شخصية تأشيرة دخول أو تصريح مرور حراس حدود يوقفونك أو يفتشونك أسلاك شائكة تقطع طريقك رسوم جمركية أو ضرائب حدودية كل ذلك وأنت تحت حماية خلافتك الإسلامية، تأكل وتنام في الخانات الإسلامية على حساب بيت مال المسلمين، وتتنقل بأمان تام عبر قارات ثلاث أيُّ عزٍّ كنا فيه؟ هذا هو العز الذي فقدناه عندما سقطت الخلافة الإسلامية. عندما كان المسلم في الأندلس يشعر بالانتماء لنفس الوطن الذي ينتمي إليه المسلم في سمرقند. عندما كان العالم الإسلامي أمة واحدة تحت راية واحدة، بقيادة واحدة، وبعملة واحدة أحياناً. اليوم، نحتاج إلى عشرات التأشيرات لنزور بلداناً إسلامية، ونقف في طوابير مذلة أمام سفارات دول كانت يوماً جزءاً من إمبراطوريتنا الواحدة. هذه هي الحقيقة التي يجب أن نتذكرها، والحلم الذي يجب أن نسعى لاستعادته، والاضافة عليه…