يُختزل الحديث عمّا يُسمّى “صراع تركي – إسرائيلي” على أراضٍ عربية، مشهداً بالغ التعقيد أكثر ممّا يبدو للبعض، خصوصاً عند التوقّف أمام “الفارق الجوهري” ما بين تركيا كدولة إقليمية طاعنة في تاريخ الشرق الأوسط بحضارتها وحضورها الفاعل في الجغرافيا والسياسة والاقتصاد، وعلاقاتها المتجذّرة مع شعوب المنطقة، وبين إسرائيل ككيانٍ محتلٍّ لأراضي دولة فلسطين العربيّة، بلا أي جذر أو تاريخ في المنطقة بدو المشهد شديد التعقيد في ظلّ الواقع الذي يفيد بـ”تنافس جغرافي – أمني” على “الحواف” السوريّة، واللبنانيّة، والعراقيّة، واليمنيّة، وبـ”إعادة رسم” خرائط الطاقة والممرّات (غاز شرق المتوسّط / جنوب القوقاز / قناة السويس – البحر الأحمر). يأتي هذا التنافس في ظلّ تصادم شبكات نفوذ، بين محور أميركي – أوروبي يضمّ إسرائيل، وبين محور روسي – إيراني له أذرع في لبنان واليمن والعراق، في حين تنفرد تركيا بدورها كـ”لاعب محوري” يناور بين المحورين. شراكة… فقطيعة في التاريخ، وبجردة مختصرة، يتبيّن أن الشراكة التركيّة – الإسرائيليّة بلغت ذروتها في تسعينيات القرن الماضي، من خلال اتفاقيات تعاون عسكري وُقّعت بين البلدين عام 1996، وتبادل تدريبات وصناعات دفاعية، قبل أن تتدهور هذه الشراكة بعد حادثة سفينة “مافي مرمرة” عام 2010، ثمّ تتقارب مجدّداً على موجات متقطّعة، حتى انفجرت بعد حرب غزّة 2023 – 2025، وما رافقها من إعلان أنقرة عن قطع العلاقات في نوفمبر/تشرين الثاني 2024، وتعليق التبادل التجاري تدريجياً. أما في الجغرافيا، فثمة أكثر من منطقة تشهد على تماس بين تركيا وإسرائيل، وهي: 1- سوريا ولبنانبينما تستمر إسرائيل في أعمالها العدائية التي ما تزال تستهدف لبنان منذ أواخر العام 2024، كما استهدفت سوريا مؤخّراً، تراقب تركيا هذا المسرح عبر عدستين: أمن حدودها شمال سوريا، وميزان القوى مع إيران وإسرائيل. 2- العراقرسّخت أنقرة حضوراً عسكرياً شمال العراق ضدّ حزب العمال الكردستاني (PKK)، وتنسّق اقتصادياً عبر مشروع “طريق التنمية” الممتد من ميناء الفاو في البصرة إلى مرسين التركية، وهو مشروع استراتيجي مهم من شأنه أن يعيد تشكيل تدفّق البضائع من الخليج إلى أوروبا. 3- اليمن والبحر الأحمرتضغط هذه المنطقة على سلاسل التوريد للطاقة والبضائع معاً، بعد أن عطّلت الهجمات الحوثيّة طريق السويس – باب المندب، ورفعت كلفة النقل عالميّاً، الأمر الذي دفع واشنطن إلى الردّ بضربات واسعة، ومعها إسرائيل التي نفّذت مؤخّراً ضربات نوعيّة في صنعاء طالت قيادات حوثيّة، فيما استمرّ إطلاق الحوثيّين صواريخ ومسيّرات على سفن مرتبطة بإسرائيل. الغاز والخطوط… وتغيّر السياسة تنطلق أهمية ممرّات الطاقة في فهم خلفيات الصراع وتغيّر السياسة، وأهمّها: شرق المتوسّطخط EastMed (إسرائيل – قبرص – اليونان – إيطاليا) ظلّ مشروعاً معلّقاً، وتراجع الدعم الأميركي له، قبل أن تأتي حرب غزّة لتزيد من صعوبة تنفيذه. في المقابل، عاد خيار ضخّ الغاز الإسرائيلي إلى مصر للتسييل أو الاستهلاك بقوّة عبر اتفاق “ليفياثان – مصر” (130 مليار م³ حتى 2040) الموقّع في آب/أغسطس 2025، ليقلّل من جاذبية أي مسار بحري – برّي مباشر عبر تركيا في المدى القريب، رغم “حالة الضجيج” التي أُثيرت بعد تسريبات إسرائيليّة عن توجيه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بعدم المضيّ في تمديد “اتفاق الغاز” مع مصر دون مراجعته، وما قابلها من تأكيدات مشتركة على أن “الاتفاق ماضٍ في طريقه”، وأن ما يقوم به نتنياهو “مجرد مناورة”. تركيا كممرّ أوروآسيويتبقى أنقرة “عنق الزجاجة” لغاز أذربيجان وأحياناً لروسيا نحو أوروبا: TANAP → TAP مع قابليّة رفع السعة إلى ~31/20 مليار م³ سنوياً، وTurkStream الذي يواصل تمرير الغاز الروسي إلى البلقان – وسط أوروبا، برغم مساعي تقليص الاعتمادات. الأمر الذي يعطي تركيا وزناً تفاوضياً كبيراً مع واشنطن وموسكو معاً. بدائل الشحن والربط التجاريأعاد تعطيل ممرّ البحر الأحمر بفعل حرب غزة الاعتبار لممرّات برّية – بحرية بديلة مثل: IMEC (الهند – الشرق الأوسط – أوروبا)، وتَعزّز الاعتماد عليها بفعل تسويق أنقرة وبغداد لمشروع “طريق التنمية” العراقي كبديل سريع بين الخليج وأوروبا، انطلاقاً من ضرورة إحلال الاستقرار في سوريا والعراق. تنفرد تركيا بدورها كـ”لاعب محوري” يناور بين محور أميركي – أوروبي يضمّ إسرائيل، ومحور روسي – إيراني له أذرع في لبنان واليمن والعراق أين روسيا وأميركا؟ تساندالولايات المتحدة إسرائيل عسكرياً وسياسياً، وتقود أمن الملاحة في البحر الأحمر عبر عملية متعددة الشركاء، وتعمل على مشاريع ربط تجاري (IMEC)، وتحاول كبح تمدّد إيران في العراق وسوريا، وضبط التصعيد مع تركيا في ملفّ “قسد”. من جهتها رسّخت روسيا وجودها العسكري في سوريا منذ العام 2015، وهي تحافظ على قنوات “فضّ الاشتباك” مع إسرائيل، وتنتقد ضرباتها لضرورات ديبلوماسية. اقتصادياً، تعتمد أكثر فأكثر على TurkStream بفعل تداعيات الحرب مع أوكرانيا، وتعذّر عبور الغاز عبرها، ما يمنح أنقرة “ورقة ضغط نادرة” على موسكو. لا يبدو سيناريو تقاسم النفوذ التركي – الإسرائيلي وارداً، بل الأرجح تعدّد أقطاب وصفقات مؤقتة وممرّات متنافسة هل تتقاسم تركيا وإسرائيل النفوذ بعد هزيمة إيران؟ رأي وازن يستبعد ذلك، ويضع خمسة أسباب بنيويّة: الدور العربي (مصر – السعودية – الإمارات – العراق – قطر) الذي بات يمتلك أدوات تأثير مستقلّة. استمرار حضور الأذرع الإيرانية (لبنان – سوريا – العراق – اليمن)، وقدرتها على امتصاص الضربات. الخلاف التركي – الإسرائيلي العميق في غزّة والقدس. القيود الأميركية – الأوروبية على أي تمدّد روسي – إيراني، في مقابل القيود الروسية على أي شراكة تركيّة – إسرائيليّة. الميل إلى حلول “متعدّدة الممرّات” لا أحادية المحور. السيناريوهات المحتملة يبدو سيناريو “تقاسُم النفوذ” غير وارد بفعل ما سبق ذِكره من معطيات، لكن ماذا عن سيناريوهات السنوات الثلاث أو الخمس المقبلة؟ تثبيت “الهدوء الساخن”استمرار الاشتباك المتقطِّع بين إسرائيل و”حزب الله” في لبنان، في موازاة ضربات إسرائيلية في سوريا، واحتواء تركي في شمالي سوريا والعراق ضدَّ الـPKK، مع إدارة أزمات الملاحة في البحر الأحمر عبر تفاهمات مؤقّتة.يُرجَّح في هذا السيناريو توسُّع تصدير الغاز الإسرائيلي إلى مصر أكثر من إحياء الخطّ مع تركيا. قفزة تكامل لوجستيتقدُّم “طريق التنمية” وربما عودة زخم IMEC إذا هدأت جبهة غزّة – لبنان، وتموضع سلاسل الإمداد بعيدًا من باب المندب – السويس جزئيًّا، بحيث تربح تركيا بوصفها عقدة عبور، وتربح إسرائيل عبر ربط موانئها في شرق المتوسّط كمحطّات وصل. انفجار واسعفرضية توسُّع الحرب في لبنان من شأنها أن تدفع أوروبا إلى طلب غاز بديل سريع (LNG/مصر/أذربيجان عبر تركيا)، وهذا ما سيُعرقل أيَّ مسار غاز بحري جديد شرق المتوسّط. تصعيد بحري طويليطيل الالتفاف حول أفريقيا، ويزيد كلفة الشحن، ويدفع إلى اعتماد أوسع على الممرّات البرّية – السككية (السعودية – الأردن – إسرائيل/مصر) إذا أمكن، وعلى تركيا كجسرٍ برّي – أنبوبي لأوروبا. ماذا يعني كلّ ذلك إذا عدنا إلى الجغرافيا ومناطق التماس في سوريا، لبنان، العراق واليمن؟ يعني ذلك أنَّ سوريا ولبنان سيظلّان مجال تنافس بالوكالة: إسرائيل مقابل محور إيران، مع “حياد عملي” تركي تجاه الجنوب وتركيز على الشمال.
بعد سنوات من الركود والأزمات المتلاحقة، يشهد القطاع العقاري في لبنان حراكاً لافتاً في عام 2024، لكنه حراك انتقائي ومعقد يرسم ملامح سوق منقسم على نفسه. ففيما تسجل الدوائر العقارية قفزة هائلة في عدد المعاملات، مدفوعة بعودة انتظام عملها، تبقى الأسعار في معظم المناطق أدنى من مستوياتها قبل الأزمة الأخيرة، في حين تحولت عقود الإيجارات إلى “القصة الكبرى” التي تؤرق المستأجرين وتنعش جيوب المالكين تكشف الأرقام الرسمية عن مشهد متناقض. فقد قفز عدد المعاملات العقارية بنسبة 118% خلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2024 مقارنة بالفترة نفسها من عام 2023. وبلغت القيمة الإجمالية لهذه المعاملات حوالي 3.7 مليارات دولار حتى ديسمبر 2024، مع تركز واضح في العاصمة بيروت وقضاء بعبدا. لكن هذا الانتعاش في حجم التداول لا يترجم بالضرورة إلى ارتفاع عام في الأسعار. انتعاش رقمي لا يعكس الواقع بحسب خبراء السوق، لا تزال الأسعار المقومة بالدولار الأمريكي أقل بنحو 20% في المناطق الحيوية والمدينية الممتازة، بينما يصل الهبوط إلى 35% في مناطق الأطراف، وذلك مقارنة بأسعار ما قبل خريف 2019. ويعود السبب الرئيسي في ذلك إلى الغياب شبه التام للتمويل المصرفي، مما دفع المطورين العقاريين إلى التركيز على بناء وحدات سكنية أصغر حجماً تستهدف المشترين الذين يملكون السيولة النقدية (الكاش). الخلاصة بالأرقام تشير إلى سوق “انتقائي” بامتياز، حيث يتركز الصعود السعري في “جيوب” محددة، لا سيما في أحياء بيروت الراقية، بينما لا تزال مناطق واسعة من البلاد تعاني من ركود الأسعار. “الدولرة” والنزوح يغيران قواعد اللعبة في المقابل، يشهد سوق الإيجارات قصة مختلفة تماماً. فقد أدت “الدولرة” شبه الكاملة لعقود الإيجار، سواء السكنية أو التجارية، إلى قفزات هائلة في بدلات الإيجار، التي باتت تحتسب بالدولار النقدي أو ما يعادله بالليرة اللبنانية على سعر السوق الموازية. وقد وصلت الزيادات في بعض الحالات، خاصة في الشقق المفروشة، إلى أضعاف ما كانت عليه في السابق. ويغذي هذا الارتفاع الجنوني طلب قوي على الإيجار في المناطق التي توصف بـ”الأكثر أماناً”، نتيجة موجات النزوح الداخلي من مناطق التوتر في جنوب لبنان. وقد وثقت تقارير إنسانية وصحافية حالة من الازدحام وارتفاع الأسعار في المناطق التي تستقبل النازحين، مثل الشريط الممتد من بعبدا إلى كسروان، وكذلك في مدينة صيدا ومحيطها. في تطور لافت سيؤثر على آلاف التجار والمؤسسات، ثبّت المجلس الدستوري في يونيو 2025 قانون الإيجارات غير السكنية الجديد، الذي يمهد لتحرير تدريجي لعقود الإيجار القديمة (ما قبل عام 1992) خلال فترة انتقالية تصل إلى أربع سنوات، مما سيغير بشكل جذري اقتصاديات العديد من المحال التجارية والمكاتب في البلاد. خارطة طريق للاستثمار في ظل هذا المشهد المعقد، تتغير استراتيجيات الاستثمار بحسب طبيعة المستثمر وأهدافه: قراءة جغرافية: بيروت أولاً بيروت المركزية (وسط المدينة، الأشرفية، رأس بيروت): الطلب نشط على الشقق الجاهزة عالية الجودة، مع حسومات أقل مقارنة بسنوات الأزمة الأولى. بعبدا–المتن–كسروان: طفرة إيجارات للمدد القصيرة والمتوسطة، مدفوعة بالنزوح نحو مناطق أكثر هدوءًا. الجنوب وصيدا: الضغط يتركز في الإيجارات أكثر من البيع، حيث يُسجّل طلب كبير على الشقق المفروشة والجاهزة في المناطق البعيدة عن خطوط التماس. البيع يبقى انتقائيًا ويتأثر مباشرة بالوضع الأمني. بحسب الفئة المطورون والمقاولون: استراتيجيات “البناء للاستئجار” تبدو الأنسب، مع وحدات صغيرة–متوسطة تحقق عوائد إيجارية صافية تتراوح بين 7–9%. التجّار وأصحاب المحال: القانون الجديد لغير السكني فرصة لإعادة هيكلة العقود، شرط مراعاة قدرة المستأجرين لتفادي الشغور. صيدا تحديدًا تُعد أرضية خصبة لمشاريع نقدية سريعة كالمكاتب والعيادات. المستثمر الفردي: خياراته تتنوع بين الشراء في “جيوب بيروت الممتازة” للحفاظ على رأس المال، أو اقتناء شقق مفروشة للإيجار بهدف تحقيق دخل جارٍ، أو الاستثمار طويل الأمد في أراضٍ قريبة من مراكز الخدمات، شرط الحصول على خصومات تغطي المخاطر الأمنية. سوق بوجهين يمكن القول إن السوق العقاري في لبنان يشهد ارتفاعاً، لكنه ارتفاع “انتقائي” ومتباين. فبينما تستعيد بعض المناطق الراقية عافيتها تدريجياً، لا تزال مناطق أخرى تكافح للخروج من عنق الزجاجة. ويبقى سوق الإيجارات هو الرابح الأكبر في المعادلة الحالية، مدفوعاً بالدولرة والنزوح، مما يرسم ملامح جديدة لسوق عقاري معقد ومتغير، يتطلب من المستثمرين والمطورين والمواطنين على حد سواء قراءة دقيقة للواقع والتسلح بالمرونة والحذر.
منذ أكثر من أربعة أشهر، يعيش مودعو بنك البركة – فرع لبنان مأساة مالية متواصلة. البنك، الذي كان يُسوِّق نفسه لعقود كأحد أبرز واجهات المصرفية الإسلامية في لبنان، يمتنع عن تسديد حتى أبسط المبالغ لمودعيه. التبرير الرسمي؟ “تعليمات مصرف لبنان”. أمّا النتيجة، فهي إذلال يومي لعشرات المودعين الذين باتوا يتردّدون عبثًا إلى فرع يتيم في الصنائع – بيروت، بالكاد يتواجد فيه موظف أو اثنان، بعد أن أُقفلت الفروع الأخرى على كامل الأراضي اللبنانية.