كانت يومًا رمزًا للحداثةِ والازدهارِ الاقتصادي، ومقصدًا للعائلاتِ الباحثةِ عن الترفيهِ والتسوّق. أمّا اليوم، تقِفُ المراكزُ التجاريّةُ الكبرى في مدينةِ صيدا، عاصمةِ الجنوبِ اللبناني، شواهدَ صامتةً على انهيارٍ اقتصاديٍّ غيرِ مسبوق، حوَّل أضواءَها البراقةَ إلى ظلالٍ باهتة، وممرّاتِها المزدحمةَ إلى مساحاتٍ تسكنُها الوحشة. لم تعُد هذه الصروحُ التجاريّةُ “إهراءاتِ روما” الحديثة، بل أصبحت أطلالًا لنموذجٍ استهلاكيٍّ لم يَعُد له مكانٌ في بلدٍ يُكافحُ لتأمينِ أبسطِ مقوّماتِ الحياة.لا يمكن فهمُ ما يحدثُ في صيدا بمعزلٍ عن السياق الوطني. فمنذ أواخر عام 2019، يمرّ لبنان بإحدى أسوأ الأزماتِ الاقتصاديّةِ والماليّةِ في التاريخِ الحديث، والتي صنّفها البنكُ الدوليّ ضمن أشدِّ ثلاثِ أزماتٍ عالميّةٍ منذ منتصف القرن التاسع عشر. انهيارٌ ومؤشّراتٌ سلبيّة هذا الانهيارُ الماليُّ الشاملُ كان له تأثيرٌ مباشرٌ وكارثيٌّ على قطاعِ التجزئة، الذي يعتمدُ بشكلٍ أساسيٍّ على الاستيراد. وجدت المراكزُ التجاريّةُ الكبرى نفسَها في قلبِ العاصفة، حيث تواجهُ معادلةً صعبة: تكاليفُ استيرادٍ باهظة، فمع تسعيرِ جميع السلعِ المستوردةِ بالدولارِ الأميركي، أصبحت تكلفةُ ملءِ الرفوفِ بالبضائعِ الجديدةِ فلكيّة، ما انعكس على أسعارِ البيعِ للمستهلك. تراجعُ القدرةِ الشرائيّة، إذ تَبَخَّرَت رواتبُ الموظّفينَ بالليرةِ اللبنانيّة، وتحوّلت السلعُ التي كانت تُعتبَر أساسيّة إلى كماليّاتٍ بعيدةِ المنال. لم يَعُد المواطنُ قادرًا على تحمّلِ تكاليفِ التسوّقِ في المراكزِ التجاريّة التي كانت تستهدفُ الطبقتين الوسطى والعليا. تكاليفُ تشغيلٍ عالية، بعدما تفاقمت الأزمةُ مع انقطاعٍ شبهِ تامٍّ للتيار الكهربائيّ الرسمي، ما أجبر المتاجرَ على الاعتمادِ على المولّداتِ الخاصّة العاملةِ بالديزل، والتي ارتفعت أسعارُها بشكلٍ جنوني، لتُضيف عبئًا ماليًّا هائلًا على كاهلِ التجار. نتيجةً لهذه العواملِ مجتمعة، شهد لبنان موجةَ إغلاقاتٍ واسعة. فبحلول عام 2022، أفادت تقاريرُ بإغلاق ما يقارب 35% من المتاجرِ في البلاد، كما انسحبت العديدُ من العلاماتِ التجاريّةِ العالميّة الكبرى، مُعلِنةً نهايةَ حقبةٍ من الاستهلاكِ المُترف. مدينةٌ تُكافحُ للبقاء في صيدا، لم تكن الصورةُ مختلفةً، بل ربما أكثر قتامة. فقد وصفت تقاريرٌ الوضعَ الاقتصاديَّ في المدينة بأنه “مشلولٌ وشبهُ معدوم”، حيث يعاني التجّارُ من انعدامِ الحركةِ التجاريّةِ والقدرةِ على تأمينِ البضائع. المراكزُ التجاريّةُ التي كانت تعُجُّ بالحياة، مثل Le Mall وThe Spot Saida، باتت تُكافحُ من أجل البقاء. صرّح أحدُ أصحابِ المراكزِ التجاريّة الكبرى، الذي اضطرّ لإغلاق خمسةٍ من فروعه الممتدةِ من الشمال إلى صيدا، بأن “الاستمرارَ بالعمل أصبح صعبًا لأن الخسائرَ تتزايد، ومدّخراتِ التجارِ تَبَدَّدت خلال العامِ ونصفِ العام الماضيين”. المفارقةُ تكمن في أنّ السوقَ التجاريَّ التقليديَّ القديمَ في صيدا، على الرغم من معاناتِه الشديدة، أظهر قدرةً أكبر على الصمودِ مقارنةً بالمراكزِ الحديثة. ويعود ذلك إلى مرونته وقدرتِه على التكيّفِ مع الواقع الجديد، حيث يعتمدُ على البيعِ بالدَّيْن، وتلبيةِ احتياجاتِ الطبقاتِ الشعبيّة التي لا تزال تبحثُ عن السلعِ الأساسيّة، بعيدًا عن رفاهيّة الماركات العالمية. ما بعد إطفاءِ الأضواء ليس تراجعُ المراكزِ التجاريّةِ ظاهرةً اقتصاديّةً فحسب، بل له تداعياتٌ اجتماعيةٌ عميقةٌ على مدينةِ صيدا، تتمثّل في: البطالة والهجرة: إذ كان هذا القطاعُ يُوظّف مئاتِ الشباب. ومع الإغلاقاتِ وتسريحِ الموظّفين، ارتفعت معدّلاتُ البطالة بشكلٍ حادّ، وتشير الإحصاءاتُ الوطنيّةُ إلى أن بطالةَ الشباب تجاوزت 47%، ما يدفع بجيلٍ كاملٍ إلى اليأس أو الهجرة، فيما يُعرَف بـ”نزيفِ الأدمغة”. تراجع إيرادات البلدية: شكّلت المراكزُ التجاريّة مصدرًا مهمًّا للرسومِ والضرائبِ البلديّة. ومع تراجع نشاطها، فقدت بلديةُ صيدا جزءًا من إيراداتِها، ما يحدّ من قدرتها على تقديم الخدماتِ الأساسيّة وصيانة البنية التحتية. تدهور الأمن الاجتماعي: ترافق الانهيارُ الاقتصادي مع تزايدٍ في معدّلات الجريمةِ والسرقاتِ في المدينة نتيجة الفقرِ واليأس، ما يهدد النسيجَ الاجتماعي ويُعمّق شعورَ السكانِ بانعدامِ الأمان. على مفترقِ طرق يقف قطاعُ المراكزِ التجاريّةِ في صيدا، ومعه المدينةُ بأكملها، على مفترقِ طرق. فضعفُ أدائه ليس مجردَ إحصائيّةٍ في تقريرٍ اقتصادي، بل هو قصةٌ إنسانيّةٌ عن أحلامٍ تبخّرت، ووظائفَ ضاعت، ومستقبلٍ بات غامضًا. إن استمرار هذا النزيف، دون حلولٍ جذريّةٍ للأزمةِ السياسيّة والاقتصاديّة الوطنيّة، يعني أنّ المزيدَ من الأضواء سيُطفأ، والمزيدَ من الأبواب سيُغلَق. إن إعادةَ إحياءِ الدور التجاري لصيدا يتطلّب أكثر من حلولٍ ترقيعيّة؛ إنه يتطلّب إعادةَ بناءِ الثقةِ بالاقتصاد، واستقرارَ سعر الصرف، ووضعَ خطةِ إنقاذٍ وطنيّةٍ شاملة. وإلى أن يحدث ذلك، ستبقى المراكزُ التجاريةُ الكبرى في صيدا رمزًا لاقتصادٍ مُنهك، وصروحًا بُنيت للاستهلاك في زمنٍ لم يَعُد فيه المواطنُ يملك هذا الترف.
يرتبطُ مصيرُ آلافِ العائلاتِ في البقاع والجنوب والشمال بقرارٍ سياسيّ يُتّخذ في الرياض. فحين تُعلن السعودية نيّتها تعزيز العلاقات التجارية مع لبنان بعد تشديد الرقابة على تهريب الكبتاغون، لا يكون الخبر مجرّد تفاصيل دبلوماسية، بل إشارة إلى تحوّلٍ أوسع في علاقة لبنان مع الخليج، بكل ما تحمله من فرصٍ وضغوطٍ في آنٍ واحد تدهور العلاقات شكّلت السعوديةُ ودولُ الخليج تاريخيًا الرئة الاقتصادية والمالية للبنان. فقد تجاوزت قيمةُ الصادرات اللبنانية إلى السعودية 200 مليون دولار سنوياً بين 2016 و2020، نصفُها زراعي (خضار وفواكه) ونصفُها صناعي (غذاء وصناعات خفيفة ودواء).وفي أوسع مراحل التبادل، لامست العلاقات التجارية المباشرة بين البلدين 800 مليون دولار سنوياً في الاتجاهين، قبل أن تتراجع تحت وطأة الأزمات السياسية. أما التحويلات المالية من اللبنانيين العاملين في الخليج، فقد شكّلت وما تزال الشريان الأكثر حيوية للاقتصاد. ففي عام 2023 بلغت تحويلات اللبنانيين من الخارج 6.4 – 6.7 مليارات دولار، يأتي نحو 48% منها من دول مجلس التعاون، ما يجعل الخليج المصدر الأول للعملة الصعبة في البلد. بمعنى آخر، العلاقة مع الخليج ليست “ترفًا سياسيًا”، بل جزءٌ بنيويٌ من دورة حياة الاقتصاد اللبناني. ضربة الكبتاغون في نيسان 2021، أعلنت السعودية وقف استيراد الفاكهة والخضار اللبنانية بعد ضبط شحنة رمان تضم أكثر من 5.3 ملايين حبة كبتاغون في مرفأ جدة.لم يكن القرار زراعياً فقط، بل ردًّا أمنيًا وسياسيًا مباشرًا على استغلال الأراضي اللبنانية في شبكات تهريب تهدّد أمن المملكة. الارتدادات كانت قاسية، انهيار أسعار المنتجات الزراعية في الداخل، تلف مواسم كاملة، إفلاس شركات تصدير وخسارة عقود بملايين الدولارات، تراجع مداخيل الخزينة من العملة الصعبة. ثم جاءت أزمة تصريحات وزير الإعلام السابق جورج قرداحي حول حرب اليمن لتصبّ الزيت على النار وتُعيد التذكير بالخلفية السياسية الدائمة: “نفوذ حزب الله وتأثيره في قرار الدولة”. مدينة تستحق أن تكون مركزًا معرفيًا متطورًا.. تحوّلت إلى حي فقير رقميًا بداية المؤشرات المفتاح هو الشرط الأمني، معلومات متقاطعة تشير إلى أن الرياض لمست تحسّنًا نسبيًا في أداء الأجهزة اللبنانية لناحية ضبط مسارات التهريب، وزيادة التعاون المعلوماتي مع أجهزة خليجية. مسؤول سعودي رفيع قال مؤخرًا إن المملكة ستعزّز العلاقات التجارية مع بيروت بعد “إثبات جدّية أكبر في مكافحة التهريب”. التطوّر لا يقتصر على السعودية. في أيار 2025، رفعت الإمارات تحذير السفر إلى لبنان وسمحت لمواطنيها بالعودة إليه، في خطوة تُقرأ كجزء من انفتاح خليجي أوسع. الخليج إذن لا يريد ترك لبنان ينهار بالكامل، لكنه لا يريد أيضًا العودة إلى “القديم كما كان” من دون ثمن سياسي وأمني واضح. المزارع… القلب الحقيقي للمعادلة يعرف المزارع في البقاع والجنوب والشمال تمامًا ما يعنيه فتح السوق السعودي:الفرق بين موسم ناجح وموسم كارثي. عودة التصدير تعني: ارتفاع أسعار المحاصيل مقارنة بالسوق المحلي المنهار، تصريف الإنتاج بدل رميه أو بيعه بخسارة، دخول الدولار مباشرة إلى جيوب المزارعين والمصدّرين. إنها جرعة حياة لواحد من آخر القطاعات الإنتاجية المتبقية في لبنان. العمود الفقري غير المرئي… التحويلات حتى لو عاد التصدير، يبقى الأساس هو التحويلات. نحو نصف التحويلات التي بلغت 6.7 مليارات دولار في 2023 تأتي من الخليج، ما يعني أن أي توتر سياسي معه هو تهديد مباشر للأمن المالي والاجتماعي لعشرات آلاف العائلات من صيدا إلى طرابلس ومن زحلة إلى الجنوب. تحسّن العلاقات لا ينعكس فقط في صناديق العنب والحمضيات…بل في الرواتب المحوّلة شهريًا من الرياض والدوحة ودبي والكويت إلى البيوت اللبنانية. تهدئة أم إدارة أزمة؟ يدرك حزب الله أهمية الخليج للاقتصاد اللبناني، وأرسل في مراحل مختلفة إشارات تهدئة.لكن السؤال الذي لا يزال بلا جواب:هل يمكن للبنان بناء علاقة طبيعية مع الخليج من دون معالجة جذور النفوذ والسلاح والتموضع الإقليمي؟أم نحن أمام صيغة “تعايش هشّ” تُدار فيها الخلافات بدل حلّها؟ بين بندورة البقاع وقرار في الرياض… أين الحقيقة؟ قد يبدو الحديث عن تعزيز الرياض للتبادل التجاري مع لبنان عنوانًا اقتصاديًا تقنيًا، لكنه في جوهره اختبار سياسي لبلد مأزوم يقف على عتبة علاقة مصيرية مع بيئته العربية. القطاف الحقيقي ليس في عودة البرتقال والعنب والتفاح إلى رفوف المتاجر في الرياض وجدة والدمام، بل في قدرة لبنان على تحويل هذه الخطوة إلى مسار اقتصادي-سياسي لاستعادة الدولة. من دون ذلك، سيبقى موسم المزارع في البقاع وراتب الموظف في صيدا وطرابلس معلّقَيْن بين حبة رمان تُضبط في ميناء… وقرار سياسي يُتّخذ في عاصمة بعيدة.
من الفردوس المالي إلى الهامش المنسي لم يكن لقبُ “سويسرا الشرق” مجاملةً شاعريّةً وحسب، بل وصفًا دقيقًا لحقبةٍ عاشها لبنان في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، حين كان يختصرُ الشرقَ الأوسطَ في نسخةٍ مُصغَّرةٍ من أوروبا الليبراليّة.بلدٌ صغيرُ المساحة، كبيرُ الحضور، جمع بين السريّة المصرفيّة والحرّيّة الصحافيّة والتنوّع الثقافيِّ المُترف. كانت بيروت آنذاك أشبهَ بـ“مقهى الشرق”، تجتمع فيها رؤوسُ الأموال من الخليج، والأفكارُ من القاهرة، والمثقفون من دمشق، والسيّاح من باريس.لكنّ هذا المشهد الذي صوّر لبنان كمرفأٍ مفتوحٍ على العالم، بدأ يتداعى حين قرّر الشرقُ أن يُدخِل لبنان في صراعاته، وقرّر لبنان أن يكون مسرحًا لها. بيروت تُنافِسُ جنيف في عام 1956، أقرّ البرلمان اللبنانيُّ قانونَ السريّة المصرفيّة الذي جعل بيروت ملاذًا آمنًا للأموال العربيّة، في زمنٍ كانت فيه الأنظمة القوميّة تُؤمِّم وتُصادِر. ومع انفتاحها الاقتصادي وحيادها النسبي، أصبحت بيروت مركزًا ماليًا وإعلاميًا، ومقرًّا للبعثات الدبلوماسيّة والشركات الدوليّة. الطبيعةُ الجبليّةُ الخلّابة، الحريّاتُ الاجتماعيّة، وتعايشُ الطوائف، جعلت منها سويسرا مُصغّرة على ضفاف المتوسّط.لكن ما لم يُدرِكه اللبنانيّون آنذاك، أنّ سويسرا لم تُبنَ على الجمال ولا على التنوّع، بل على نظامٍ دقيقٍ من الحيادِ والصرامةِ والانضباط. وهي صفاتٌ لم تعرف طريقها إلى لبنان إلّا في المناسبات الخطابيّة. حين نقول اليوم إنّ “لبنان كِذبةُ سويسرا الشرق”، فالمقصود ليس التاريخ بل العِناد في تكرار الوهم. الكِذبة ليست في الماضي، بل في رفض الاعتراف بأنّ الماضي انتهى من المرفأ إلى المتاهة في سبعينات القرن الماضي، كان مرفأُ بيروت بوّابةَ الشرق الأوسط. منه تمرّ التجارة بين أوروبا والعالم العربي، وعبر مطارها الدولي كانت المنطقة تتواصل مع الغرب.ثم جاءت الحربُ الأهليّة عام 1975 لتُغلِق هذه البوّابة، وتحوّل لبنان من ممرٍّ اقتصاديٍّ إلى ميدانِ صراعٍ إقليميٍّ ودوليّ. منذ ذلك التاريخ، فقد لبنان وظيفتَه الجغرافيّة والاقتصاديّة. تحوّل من مركزٍ ماليٍّ إلى ساحةِ نفوذ. صارت أرضُه تُستَخدَم لتصفيةِ الحسابات لا لإبرامها، ومؤسساته رهينةً لمعادلاتٍ تتجاوز حدوده. اتّخذه الفلسطينيّون ساحةَ مواجهة، وجعلهُ السوريّون منطقةَ نفوذ، وأرسى الإيرانيّون فيه مشروعهم العقائدي، أمّا الخليجيّون فغادروه على وقع الدمار والفساد.وبذلك، تراجعت فكرةُ “لبنان المرفأ” لتحلّ محلّها “لبنان المتاهة”. دولةٌ بلا بوصلة في عالمٍ لا يَعترف إلّا بالقوّة والاقتصاد والمعرفة، خسر لبنان موقعه الثلاثي: لا قوّة يمتلكها، بعد تَفكُّك مؤسّسات الجيش والدولة بين المحاور. ولا اقتصادًا مُنتِجًا، بعد انهيار القطاع المصرفي الذي كان يومًا فخرَ الشرق. ولا مشروعًا فكريًّا أو ثقافيًّا جامعًا، بعدما تحوّلت نخبته إلى طوائف فكريّة وسياسيّة متناحرة. الدورُ الإقليميُّ يحتاج إلى قرارٍ سياديٍّ موحّد، وإلى اقتصادٍ مستقلٍّ قادرٍ على التبادل، وإلى رؤيةٍ سياسيّة تُقنِعُ الخارج والداخل معًا. ولبنان اليوم لا يملك أيًّا منها. بنت دولُ المنطقة أدوارَها على ركائز واضحة: تركيا على الصناعة، والإمارات العربيّة المتّحدة على المال، وقطر على الإعلام والغاز، وإيران على قوّة النفوذ، بينما بَنى لبنان مجدَه على الانطباع؛ على الصورةِ الجميلة لا على البنيةِ الصُلبة. تكرارُ الوهم حين نقول اليوم إنّ “لبنان كِذبةُ سويسرا الشرق”، فالمقصود ليس التاريخ بل العِناد في تكرار الوهم.الكِذبة ليست في الماضي، بل في رفض الاعتراف بأنّ الماضي انتهى.لبنان كان يومًا سويسرا الشرق حين كان الشرق بحاجةٍ إلى نموذجٍ مدنيٍّ مُنفتح، لكنه اليوم يحتاج إلى نموذجٍ ناجٍ من الانهيار.البلدُ الذي صدّر الفكرَ والفنَّ والإعلامَ صار يستورد المساعدات والوساطات.والدولةُ التي علّمت جيرانها المصارفَ، لا تمتلك اليوم نظامًا مصرفيًّا.والمجتمعُ الذي قدّم نفسَهُ جسرًا بين الشرق والغرب، أصبح هوّةً في فراغٍ بينهما. مختبرُ الشرق لعلّه آن الأوان أن يتحرّر لبنان من إرثه الرومانسيّ وأن يبحث عن هويّةٍ واقعيّةٍ جديدة.ليس كنسخةٍ شرقيّةٍ من أوروبا، بل كـمختبرٍ عربيٍّ للتجربة الإنسانيّة والفكريّة.فهو البلدُ الذي تُختبَر فيه الديمقراطيّة كما تُختبر الطائفيّة،تُولَدُ فيه الأفكارُ كما تنهار،ويتقاطع فيه الشرقُ والغرب في لحظةٍ واحدة.الدورُ الجديد لا يُبنى على الذهب ولا على السريّة المصرفيّة، بل على الثقافة، والتعليم، والإبداع.فلبنان، حتى في انهياره، ما زال يُنتِجُ فنًّا وأدبًا ومبادراتٍ إنسانيّةً تفوق حجمَه الجغرافيّ والسياسيّ.إنه بلدٌ ينهار واقفًا، لكن ما زال قادرًا على إنتاجِ المعنى في زمنِ اللامعنى. قد يكون “سويسرا الشرق” لقبًا جميلًا، لكنه اليوم يشبه بطاقةَ تعريفٍ قديمة فقدت صلاحيّتها. ومع ذلك، يبقى في لبنان ما يتجاوز الكذبة: روحٌ لا تنكسر بسهولة، ومجتمعٌ يرفضُ الاستسلام مهما كان الخراب. ربما لم يعُد لبنان مرفأ الشرق، لكنه ما زال مرآتَه؛ مرآةَ حضارةٍ تبحث عن ذاتها في زمنِ العواصف.