لم يكن الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024 يومًا عابرًا في تاريخ سوريا والمنطقة؛ كان لحظةً صاعقة أطاحت بحكمٍ دام أكثر من خمسين عامًا، وأغلقت فصلًا طويلًا من الاستبداد الدموي الذي بدأ مع حافظ الأسد واستمرّ مع وريثه.سقوط النظام لم يكن حدثًا سوريًا فقط، بل زلزالًا جيوسياسيًا هزّ موازين القوى، وفتح الباب على مرحلة جديدة تُعيد رسم خرائط النفوذ والتحالفات. جذور الغضب الثورة السورية لم تولد من فراغ؛ كانت نتيجة تراكمٍ خانق لعقود من الاستبداد السياسي، والفساد البنيوي، والتهميش الاجتماعي.منذ “الحركة التصحيحية” عام 1970، أنتج نظام البعث دولةً أمنيةً متغوّلة، عطّلت السياسة، وخنقت المجتمع، وأطلقت يد المخابرات لتتحكم في تفاصيل الحياة اليومية.مجزرة حماة 1982 لم تكن مجرد محطة دامية، بل صكّ ملكية للنظام في ممارسة الوحشية.ثم جاء بشار الأسد، فحوّل الإرث القمعي إلى إعادة تدوير للفساد بشكل “نيوليبرالي” زاد الأغنياء ثراءً، وترك ملايين السوريين فريسة الفقر والجفاف والبطالة. عندما اعتُقل أطفال درعا عام 2011 لأنهم كتبوا “إجاك الدور يا دكتور”، لم يكن النظام يعلم أنه أشعل فتيل بركان مكبوت منذ عقود. خرج السوريون يطالبون بالحرية… فواجههم بالرصاص. من السلمية إلى حمام الدم اختار النظام منذ اللحظة الأولى الحلّ العسكري. قنصٌ واعتقالاتٌ وتعذيبٌ ومجازر دفعت الحراك السلمي نحو العسكرة، مع انشقاق آلاف الضباط وتأسيس “الجيش الحر”.لكن سوريا سرعان ما تحوّلت إلى ساحة حربٍ متعددة الطبقات: انقلابٌ مسلّح على الشعب، صراع نفوذٍ إقليمي، وتدخلات دولية جعلت البلاد مسرحًا للحرب بالوكالة. الكارثة الإنسانية كانت بلا سقف:• ما بين 350 ألفًا ونصف مليون قتيل.• مئات الآلاف من المعتقلين والمختفين.• أكثر من 6.6 مليون نازح داخلي، و6.7 مليون لاجئ في الشتات.• دمار اقتصادي يُقدَّر بـ 800 مليار دولار.• فقرٌ يلتهم 90% من السوريين. كانت سوريا تتفكك أمام العالم… والعالم يكتفي بالتفرّج. منذ “الحركة التصحيحية” عام 1970، أنتج نظام البعث دولةً أمنيةً متغوّلة، عطّلت السياسة، وخنقت المجتمع، وأطلقت يد المخابرات لتتحكم في تفاصيل الحياة اليومية. أمراء الحرب وصنّاع القرار الحرب لم تكن سورية فقط. إيران ضخّت المال والسلاح والميليشيات. حزب الله دخل بثقله العسكري لحماية النظام. روسيا غيّرت قواعد اللعبة في 2015 حين قررت أن تمنع سقوط الأسد مهما كان الثمن. في المقابل، وقفت الولايات المتحدة وحلفاؤها في موقع المتردد، منشغلين بمحاربة “داعش”، تاركين المعارضة المعتدلة وحيدةً في مواجهة آلة القتل. تركيا دعمت فصائل المعارضة لكنها خاضت معاركها الخاصة على الحدود وضد النفوذ الكردي. ودول الخليج تنافست بدعم فصائل متباينة في سياق معركتها مع إيران. سوريا أصبحت لوحة شطرنج تعلوها رائحة البارود والخراب. بناء على ركام بعد سقوط النظام، واجهت الحكومة الانتقالية برئاسة أحمد الشرع إرثًا ثقيلًا. لكنّها نجحت في عامها الأول في إعادة وصل ما انقطع: فُتحت أبواب دمشق سياسيًا بعدما أُغلقت لعقدٍ كامل، واستعادت سوريا حضورها العربي والدولي. عادت العلاقات مع تركيا والسعودية وقطر، وبدأت سياسة جديدة تقوم على الانفتاح لا على العداء. في الداخل، أطلقت الحكومة مسار العدالة الانتقالية: تحرير المعتقلين، لجانٌ للبحث عن المفقودين، تحقيقات أولية في جرائم الحرب، وفتح ملفات حقوق الإنسان المغلقة منذ عقود. عاد أكثر من 3 ملايين لاجئ ونازح، وبدأت خطوات حقيقية لمحاربة الفساد، وتحريك عجلة الاقتصاد وجذب الاستثمارات وخطط إعادة الإعمار. الانهيار الإيراني… وتبدل الخرائط سقوط الأسد مثّل ضربةً قاصمة لإيران؛ ففقدت أحد أهم أعمدة نفوذها في الشرق الأوسط، واضطرت لسحب ميليشياتها وقواتها من سوريا.انكسر “محور المقاومة” سياسيًا وعسكريًا، بينما فتحت روسيا قنوات تواصل مع القيادة الجديدة لضمان استمرار مصالحها العسكرية. وبدأت سوريا الجديدة بالتموضع ضمن محيطها العربي، في خطوةٍ تعيد التوازن الإقليمي وتقلّل من منسوب التوتر الذي أشعلته سنوات الحرب. معركة المستقبل… لم تبدأ بعد برغم الانتصار، يواجه السوريون امتحانًا أصعب: بناء الدولة التحديات تملأ الطريق: إعادة الإعمار، تفكيك الميليشيات، استعادة الاقتصاد، ترسيخ العدالة والمحاسبة، وقطع الطريق أمام عودة الاستبداد بأي شكل. نجاح سوريا مرهون بإصرار شعبها، وبحكمة قيادتها، وبمدى استعداد العالم لتعويض سنوات الصمت عن المأساة السورية. فالسوريون لم يسقطوا نظامًا فحسب… بل دفعوا ثمنًا عن الإنسانية كلّها.