لطالما انقَسَمَ المَشهَدُ الفِكريُّ والأكاديميُّ بينَ ما يُمكنُ اعتباره “ثَقافتين” أَساسيتين: الثَّقافةُ “الأدَبيَّةُ” الَّتي تَشمَلُ الفُنونَ والفَلسفةَ والتَّاريخ، والثَّقافةُ “العِلميَّةُ” الَّتي تَقودُ إلى الطِّبِّ والهَندسةِ والعُلومِ البَحتة. تَبدو هذِه الثُّنائيَّةُ، الَّتي شَكَّلَت أَساسَ النُّظُمِ التَّعليميَّةِ الحَديثة، اليَومَ قاصِرَةً بِشَكلٍ مُتَزايدٍ أَمامَ ثَورةٍ مَعرفيَّةٍ جَديدةٍ يَقودُها الذَّكاءُ الاصطناعيُّ. نَحنُ على أَعتابِ ما يُمكنُ تَسميتُه بـ “الثَّقافةِ الرَّابعة”، وهي لَيسَت مُجرَّدَ امتدادٍ لِلثَّقافاتِ السَّابقةِ، بَل هِي بُنيَةٌ جَديدةٌ تُذيبُ الفَواصلَ التَّقليديَّةَ بَينَ المَعارفِ، وتُعيدُ طَرحَ الأَسئِلةِ الوُجوديَّةِ الكُبرى: مَن يَملِكُ المَعرِفَة؟ ومَن يَملِكُ السُّلطةَ في عَصرِ الآلةِ الذَّكيَّة؟ إعادةُ بَناءِ هَندسةِ الوَعيلِفَهمِ عُمقِ التَّحوُّلِ الَّذي نَعيشُه، لا بُدَّ مِن العَودةِ إلى الجُذورِ التَّاريخيَّةِ لِلنِّقاش. في عامَ 1959، أَلقى العالِمُ والرِّوائيُّ البِريطانيُّ سي. بي. سْنو (C.P. Snow) مُحاضَرَتَهُ الشَّهيرةَ بعنوان “الثَّقافتان والثَّورةُ العِلميَّة”، حيثُ حَذَّرَ مِن “هُوَّةٍ مِن سُوءِ الفَهمِ المُتبادَلِ” بَينَ المُثقَّفينَ الأَدَبيِّينَ والعُلَماءِ. رَأى سْنو أنَّ هذا الانقِسامَ يُعيقُ قُدرَةَ المُجتَمَعِ على مُواجَهَةِ التَّحدِّياتِ الكُبرى.“مَرَّاتٍ عَديدة، كُنتُ حاضِراً في تَجَمُّعاتٍ لأَشخاصٍ، بِمَعاييرِ الثَّقافةِ التَّقليديَّةِ، يُعتَبَرونَ على دَرَجَةٍ عالِيَةٍ مِنَ التَّعليمِ، وكانوا يُعَبِّرونَ بِحَماسٍ عن عَدمِ تَصديقِهِم لأُمِّيَّةِ العُلَماءِ. في إحدَى المَرَّاتِ، استفزَزتُ وسَألتُ الحاضِرينَ كَم مِنهُم يَستطيعُ وَصفَ القانونِ الثَّاني لِلدِّيناميكا الحَراريَّة. كانَ الرَّدُّ بارِداً: وكانَ سَلبِيّاً أَيضاً. ومَعَ ذلِكَ، كُنتُ أَسأَلُ شَيئاً يُعادِلُ عِلمِيّاً: هَل قَرأتَ عَمَلاً لِشِكسبير؟”بَعدَ عُقودٍ، وتَحديداً في عامَ 1995، جاءَ جون بروكمان (John Brockman) ليَطرَحَ مَفهومَ “الثَّقافةِ الثَّالِثة” في كِتابِه الَّذي يَحمِلُ نَفسَ الاسم. رَأى بروكمان أنَّ جيلاً جَديداً مِنَ العُلَماءِ والمُفكِّرينَ بَدأوا يَتَجاوَزونَ هذا الانقِسامَ، مِن خِلالِ مُخاطَبَةِ الجُمهورِ مُباشَرَةً وشرحِ أَفكارِهِم العِلميَّةِ بِلُغةٍ مَفهومةٍ، لِيَحُلُّوا مَحلَّ المُثقَّفينَ التَّقليديِّينَ كَصُنَّاعٍ لِلثَّقافة.اليَومَ، يَتَجاوَزُ الذَّكاءُ الاصطناعيُّ دَورَ الأَداةِ المُساعِدةِ أَو حَتَّى مَوضوعَ النِّقاشِ. إنَّهُ يَفرِضُ نَفسَهُ كَبُنيَةٍ تَحتِيَّةٍ سِياسيَّةٍ وثَقافيَّةٍ واقتِصاديَّةٍ مُتكامِلَةٍ، مِمَّا يَجعَلُ “الثَّقافةَ الرَّابعةَ” ضَرورَةً وُجوديَّةً لِمُساءَلةِ هذا التَّحوُّلِ الجَذريِّ وفَهمِ أَبعادِهِ العَميقَة. مدينة تستحق أن تكون مركزًا معرفيًا متطورًا.. تحوّلت إلى حي فقير رقميًا بَينَ بروميثيوس وفاوست: القَرارُ السّياسيُّ في عصرِ الخوارزميّاتِ في نِهايةِ المطافِ، يَعودُ بِنا النِّقاشُ إلى استعاراتٍ كلاسيكيّةٍ تُلخِّصُ المأزِقَ البَشريَّ أمامَ القُوّةِ السّاحِقةِ. هل نَسمَحُ للذّكاءِ الاصطناعيِّ أنْ يكونَ “بروميثيوس” الجديدَ، الّذي يَسرِقُ النّارَ (المَعرِفةَ) مِن الآلِهةِ (الطّبيعةِ) ويَمنَحُها للبشريّةِ، فاتِحاً عصراً جديداً مِن النّورِ والازدهارِ؟ أم أنَّنا سَنُكرِّرُ مَأساةَ “فاوست”، الّذي باعَ رُوحَهُ للشّيطانِ (مفيستوفيليس) مُقابِلَ المَعرِفةِ المُطلَقةِ والسّلطةِ المُؤقّتةِ، ليَكتَشِفَ في النّهايةِ أنَّ الثّمنَ كان باهِظاً؟ هذا السّؤالُ ليس مُجرَّدَ تَرَفٍ فلسفيٍّ، بل هو سُؤالٌ سياسيٌّ بِامتيازٍ. إنَّ المُستقبَلَ لن تُحدِّدَهُ الخوارزميّاتُ وحدَها، بل سَتُحدِّدُهُ الإرادةُ السّياسيّةُ للمُجتمعاتِ والأفرادِ. الخِياراتُ الّتي نَتَّخِذُها اليومَ حولَ كيفيّةِ تَطويرِ الذّكاءِ الاصطناعيِّ، وتنظيمِه، وتَوزيعِه، سَتُشكِّلُ عالَمَ الغَدِ. هل سَنبني أنظِمَةً تُعزِّزُ الكرامةَ الإنسانيّةَ والعدالةَ والحُرّيّةَ، أم أنظِمَةً تُكرِّسُ الهيمنةَ والرّقابةَ وعَدمَ المُساواةِ؟ إنَّ صِياغةَ ثقافةٍ رابعةٍ لا تُدارُ مِن الخارجِ، بل تُنتَجُ مِن الدّاخلِ، وتَخدِمُ الإنسانَ بدلاً مِن أنْ تَستَعبِدَهُ، هو التّحدّي الأكبرُ الّذي يُواجِهُ جيلَنا. إنَّهُ يَتطلَّبُ رُؤيةً بعيدةَ المَدى، وشَجاعةً أخلاقيّةً، وقَراراتٍ سياسيّةً حاسِمةً. تَنويرٌ جَديدٌ أَم سِلاحُ هَيمَنة؟إِنْ كانَتِ الطِّباعةُ قد أَشعَلَت شَرارةَ الحَداثةِ الأُوروبيَّةِ مِن خِلالِ دَمجْرَطَةِ المَعرِفَةِ، فَإِنَّ الذَّكاءَ الاصطناعيَّ يُشعِلُ ثَورةً جَديدةً ذاتَ طَبيعةٍ مُزدَوَجةٍ. إِنَّهُ، في آنٍ واحِدٍ، أَداةُ تَنويرٍ وسِلاحُ سَيطَرَةٍ، مِمَّا يَجعَلُهُ أَكثَرَ تَعقيداً وخُطورَةً مِن أَيِّ تِقنيَّةٍ سابِقَة. يُعيدُ الذَّكاءُ الاصطناعيُّ تَعريفَ حُدودِ الإبداعِ البَشريِّ، ويَفتَحُ آفَاقاً جَديدةً في البَحثِ العِلميِّ، ويُغيِّرُ طَبيعَةَ العَمَلِ والهُويَّةِ الفَرديَّةِ والجَماعيَّة. في المُقابِلِ، يُستَخدَمُ كَأداةٍ في الحُروبِ الحَديثةِ، والرَّقابَةِ الشَّامِلَةِ، وإِعادةِ تَشكيلِ خَرائِطِ النُّفوذِ الدَّوليِّ، مِمَّا يُمَنِّحُ الدُّوَلَ والشَّركاتِ الَّتي تُسيطِرُ عَلَيهِ قُوَّةً غَيرَ مَسبوقَة. تَتَجلَّى هذِه المُفارَقَةُ بِوُضوحٍ في التَّناقُضِ بَينَ الرُّوبوتِ الجَرَّاحِ الَّذي يُنقِذُ الأَراوِحَ بِدِقَّةٍ فائِقَة، والطَّائِرَةِ المُسَيَّرَةِ الَّتي تُدارُ بِخَوارِزميَّاتٍ قِتاليَّةٍ لِاتِّخاذِ قَراراتِ الحَياةِ والمَوتِ بِشَكلٍ مُستَقِلٍّ. هُنا، تَتَجلَّى المَعضِلَةُ الأَساسيَّةُ لِلثَّقافةِ الرَّابعةِ: كَيفَ يُمكِنُ تَسخيرُ قُوَّةِ المَعرِفَةِ لِخِدمةِ الإنسانيَّةِ، مَعَ كَبحِ جِماحِ التِّقنيَّةِ كَوَسيلَةٍ لِلهَيمَنَةِ والدَّمار؟ مِنَ العِيادَةِ إلى البُورصَةِ وساحَةِ المَعرَكَةيَتَغَلغَلُ الذَّكاءُ الاصطناعيُّ في كُلِّ مَفاصِلِ الحَياةِ المُعاصِرَةِ، مُزيلاً الحُدودَ الفاصِلَةَ بَينَ المَجالاتِ الَّتي كانَت تَبدو مُنفَصِلَةً في السّابِق. في الطِّبِّ، تَقومُ أَنظِمَةُ الذَّكاءِ الاصطناعيِّ بِتَشخيصِ الأَمراضِ بِدِقَّةٍ تَفوقُ أَحياناً دِقَّةَ الأَطبَّاءِ البَشرِ، وتَحلِيلِ الصُّوَرِ الطِّبيَّةِ، واقتِراحِ خُطَطٍ عِلاجيَّةٍ مُخصَّصَة. وفي الاقتِصادِ، تَتحكَّمُ الخَوارِزميَّاتُ في أَسواقِ المالِ العالَميَّةِ، وتَتَّخِذُ قَراراتِ بَيعٍ وشِراءٍ في أَجزاءٍ مِنَ الثَّانِيَةِ، مِمَّا يُثيرُ تَساؤُلاتٍ جِدِّيَةً حَولَ سِيادَةِ الدُّوَلِ على اقتِصاداتِها وقُدرَتِها على مُواجَهَةِ الأَزماتِ المَالِيَّةِ الَّتي قَد تُسَبِّبُها هذِه الأَنظِمَة. أَمَّا في السِّياسَةِ الدُّوليَّةِ، فَقَد تَحَوَّلَ الذَّكاءُ الاصطناعيُّ إلى ساحَةِ صِراعٍ جِيُوسياسيٍّ مُحتَدِم. تُخاضُ واشِنطُن وبِكين سِباقاً شَرساً لِلسَّيطَرَةِ على بَراءاتِ الاخترَاعِ، وتَصنيعِ الرَّقائِقِ الإلكتُرونيَّةِ المُتَقَدِّمَةِ، ووَضعِ المَعاييرِ العالَميَّةِ لِهذِه التِّقنيَّة. في غُضونِ ذلِكَ، يُحاوِلُ الاتِّحادُ الأُوروبيُّ فَرضَ أُطُرٍ قانونيَّةٍ وأَخلاقيَّةٍ تَهدِفُ إلى الحَدِّ مِن “تَغَوُّلِ” الشَّركاتِ التِّكنولوجيَّةِ العِملاقَةِ وضَمانِ استِخدامٍ مَسؤولٍ لِلذَّكاءِ الاصطناعيِّ. تَصِلُ هذِه التَّقاطُعاتُ إلى ذِروَتِها في ساحَةِ المَعرَكَة. في النِّزاعاتِ الحَديثَةِ، مِن أُوكرانيا إلى غَزَّة، لَم يَعُدِ القَرارُ العَسكَريُّ مَحصوراً بِالقِياداتِ البَشَريَّة. أَصبَحَتِ القَراراتُ المُتَعَلِّقَةُ بالاستِهدافِ، وتَقييمِ المَخاطِرِ، وتَحديدِ احتِمالاتِ الرِّبحِ والخَسارَةِ، مَشروطَةً بِشَكلٍ مُتَزايدٍ بِما تُقترِحُهُ الخَوارِزميَّات. هَذا الواقِعُ الجَديدُ، الَّذي يُطلِقُ عَلَيهِ البَعضُ “الحَربَ الخَوارِزميَّة” (Algorithmic Warfare)، يُطمِسُ الخُطوطَ الفاصِلَةَ بَينَ الطِّبِّ (إِنقاذِ الأَراوِح) والحَربِ (إِزهاقِها)، وبَينَ الاقتِصادِ (حِساباتِ الرِّبحِ والخَسارَة) والأَمنِ القَوميِّ، وبَينَ الثَّقافَةِ (القِيمِ والأَخلاق) والسُّلطةِ (القَرارِ السِّيادِيِّ). مَن يَكتُبُ الوَعيَ الجَمعيّ؟لعلَّ السّاحةَ الأكثرَ خُطورَةً وتأثيراً في عصرِ الثّقافةِ الرّابعةِ هي الإعلامُ وكيفيّةُ تشكيلِ الوعيِ الجمعيّ. لم تَعُدْ منصّاتُ التّواصُلِ الاجتماعيِّ مُجرَّدَ فضاءاتٍ مُحايدةٍ للتّعبيرِ والنّقاشِ، بل تَحوَّلَتْ إلى بُنى تحتيّةٍ معرفيّةٍ تَهيمنُ عليها خوارزميّاتُ التّوصيةِ (Recommendation Algorithms). هذه الخوارزميّاتُ لا تَعرضُ لنا العالَمَ كما هو، بل نُسخةً مُخصّصةً ومُفلترةً منه، مُصمَّمةً لإبقائِنا مُنخرطينَ لأطوَلِ فترةٍ مُمكنةٍ. هي تُحدِّدُ ما نَعرِفُه وما نَجهَلُه، ما نَراهُ مُهمّاً وما نَتجاهَلُه، وبالتّالي تُشكِّلُ تَصوّراتِنا عن الواقِعِ. يَزدادُ الأمرُ تَعقيداً مع ظُهورِ الذّكاءِ الاصطناعيِّ التّوليديِّ (Generative AI). الأخبارُ والتّحليلاتُ والمُحتوى المرئيُّ والمسموعُ يُمكِنُ الآنَ إنتاجُها بشكلٍ آليٍّ وبتكلفةٍ زهيدةٍ، ممّا يَفتحُ البابَ أمامَ فَيضٍ من المعلوماتِ المُضلِّلةِ والدّعايةِ المُوجّهةِ الّتي يَصعُبُ التَّحقُّقُ منها. النّتيجةُ هي تآكُلُ الثّقةِ في مَصادرِ المعلوماتِ التّقليديّةِ ونُشوءُ “فُقاعاتِ تَصفيةٍ” (Filter Bubbles) و”غُرفِ صدىً” (Echo Chambers) تُعزِلُ الأفرادَ داخِلَ رُؤاهم الخاصّةِ للعالَمِ، مِمّا يُغذّي الاستقطابَ السّياسيَّ والاجتماعيَّ. باتَ الوَعيُ الجَمعيُّ في القَرنِ الحادي والعِشرين خاضعاً لِمِلكيّةٍ غيرِ مُعلَنةٍ، تَتَقاسَمُها شَركاتُ التّكنولوجيا الكُبرى الّتي تُطوِّرُ هذه الخوارزميّاتِ، والدّولُ الّتي تَسعى لاستِغلالِها كأدواتٍ للقُوّةِ النّاعِمةِ والتّأثيرِ الجيوسياسيِّ. السّؤالُ لم يَعُدْ: “مَن يَملِكُ وسائلَ الإعلام؟” بل “مَن يَملِكُ الخوارزميّاتِ الّتي تُديرُ تدفُّقَ المعلوماتِ العالَميّ؟”. الخِيارُ العَربيُّ بَينَ التّبعيّةِ التِّقنيّةِ والسّيادةِ الرَّقميّةفي هذا السّياقِ العالَميِّ المَحمومِ، تَبدو الثّقافةُ الرّابعةُ في العالَمِ العربيِّ ليست تَرَفاً فكريّاً، بل مَسألةَ سيادةٍ ومُستقبَلٍ. الخَياراتُ المطروحةُ أمامَنا تَتجاوزُ مُجرَّدَ استيرادِ التّكنولوجيا؛ إنّها تَتعلَّقُ بتحديدِ مَوقعِنا