مع تسارُعِ التكنولوجيا، تتحوَّلُ المنصّاتُ الرقميّةُ إلى مختبرٍ واسعٍ لإنتاجِ واقعٍ بديل. ظاهرةُ “مزارعِ شرائحِ” الـSIM لم تَعُدْ محصورةً في نطاقِ الجرائمِ الإلكترونيّة، بل باتت منظوماتٍ معقّدةً تُعيدُ تشكيلَ الوعيِ العامِّ بطريقةٍ تُشبهُ عملَ المصانعِ التي تُكرِّرُ المنتجاتِ على خطِّ إنتاجٍ لا يتوقّف تبدو هذه المزارعُ في ظاهرِها غرفًا مزدحمةً بالهواتف، لكن في جوهرِها هي منشآتٌ تُدار بعقلٍ استثماريٍّ—سياسيٍّ. هاتفٌ واحدٌ يُشغِّلُ عشراتِ الشرائح، وكلُّ شريحةٍ تستولدُ مئاتِ الحساباتِ التي تُشاركُ في النقاشات، تخلقُ جدالاتٍ، تصنعُ موجاتِ رأيٍ، وتُعيدُ تدويرَ سرديّاتٍ مقصودة. ما نعتقدُ أنّه “تفاعلٌ طبيعيّ” قد يكونُ مجرّدَ محاكاةٍ دقيقةٍ صُمِّمَت لتوجيهِ المزاجِ العامّ. عمليّة لاتفيا الإعلانُ الأخيرُ لـ”يوروبول” عن تفكيكِ مزرعةٍ رقميّةٍ في جمهوريّةِ لاتفيا أدارت نحو تسعةٍ وأربعينَ مليونَ حسابٍ مزيّفٍ يُشكّلُ دليلًا صارخًا على حجمِ الظاهرة. منشأةٌ واحدةٌ قادرةٌ على قلبِ نتائجِ انتخاباتٍ، ودفعِ رواياتٍ محدَّدةٍ إلى واجهةِ النقاش، وتشويهِ الحقائقِ على نطاقٍ دوليّ. وهذا مجرّدُ نموذجٍ واحد… فيما العالمُ يعجُّ بمزارعَ لم تَصِلْها الأعينُ بعد. كيف تتحوَّلُ المزارعُ الرقميّةُ إلى ماكينةٍ انتخابيّة؟ الحساباتُ المزيّفةُ تخلقُ ديناميّةً كاملة: موجاتُ دعمٍ مصطنعةٌ لمرشّحين بلا قواعد، حملاتُ تشويهٍ مُمنهجةٌ ضدّ آخرين من الشوارعِ إلى الشاشات في لبنان، ومع اقترابِ الانتخاباتِ النيابيّة، يصبحُ السؤالُ ليس عمّا إذا كان المالُ السياسيُّ سيُضَخُّ، بل أين سيُضَخُّ هذه المرّة. المالُ الذي كان يُصرَفُ على الحشودِ والمهرجاناتِ بات يجدُ في هذه المزارعِ الرقميّةِ فرصةً ذهبيّةً: جمهورٌ افتراضيٌّ جاهز، طيّع، سريعُ الاستجابة، قادرٌ على تضخيمِ مرشّحٍ وجعلِ خصمِه يبدو محاصَرًا برأيٍ شعبيٍّ غاضبٍ، ولو كان هذا “الرأي” مصنوعًا بالكامل. كيف تتحوَّلُ المزارعُ الرقميّةُ إلى ماكينةٍ انتخابيّة؟ الحساباتُ المزيّفةُ تخلقُ ديناميّةً كاملة: موجاتُ دعمٍ مصطنعةٌ لمرشّحين بلا قواعد، حملاتُ تشويهٍ مُمنهجةٌ ضدّ آخرين، تسريبُ معلوماتٍ مُضلِّلة، افتعالُ معاركٍ وهميّةٍ تشغلُ الرأيَ العامّ، وتوليدُ ضوضاءٍ متعمّدةٍ تحجبُ القضايا الجوهريّة. وهكذا يدخلُ الناخبُ اللبنانيُّ إلى ساحةٍ سياسيّةٍ يختلطُ فيها الحقيقيُّ بالمصنَّع، والصوتُ الحقيقيُّ بصدى آلةٍ تعملُ في مكانٍ مجهول. المشهدُ اللبنانيّ: بين الناخبِ والآلة كلّما اقتربتِ الانتخاباتُ، زاد خطرُ أن تتحوّلَ المنصّاتُ إلى مسرحِ صراعٍ غيرِ متكافئ، لا بين المرشّحين وحدَهم، بل بين الناخبِ والآلة. فمَن يمتلكُ القدرةَ على شراءِ مئاتِ آلافِ التفاعلاتِ المصطنعةِ يمتلكُ القدرةَ على صناعةِ “ظاهرةٍ” انتخابيّةٍ، أو دفنِ منافسِه تحتَ موجةٍ من الضجيجِ المبرمج. في بيئةٍ مُشبعةٍ بالحساباتِ الوهميّة، يتلاشى النقاشُ الحقيقيّ. القضايا الأساسيّة—الإصلاح، الاقتصاد، القضاء، الخدمات—تغيبُ تحت ضغطِ السرديّاتِ المصنَّعة، بينما ينجُرُّ المواطنُ إلى جدالاتٍ مع خصومٍ قد لا وجودَ لهم خارجَ شريحةِ هاتفٍ في غرفةٍ لا تُعرَفُ ماهيّتُها. وهكذا يُصبِحُ الرأيُ العامُّ نفسُه ضحيّةً، وتُصبِحُ الديمقراطيّةُ عُرضةً للتلاعبِ قبل الوصولِ إلى صناديقِ الاقتراع. المشكلةُ ليست فقط في وجودِ هذه المزارعِ، بل في أنّ معظمَ الناسِ لا يُدرِكونَ عمقَ تأثيرِها. كلُّ موجةِ رأيٍ مفاجِئة، كلُّ خبرٍ ينتشرُ كالنارِ في الهشيم، كلُّ تعليقٍ يُثيرُ غضبًا، قد يكونُ جزءًا من ماكينةٍ ضخمةٍ هدفُها توجيهُ النقاشِ، أو تضليلُ الجمهور، أو خلقُ صورةٍ انتخابيّةٍ لا علاقةَ لها بالميدان. بين مزارعِ شرائحِ الـSIM والمالِ السياسيّ، تدخلُ الانتخاباتُ اللبنانيّةُ مرحلةً جديدةً من المعركة. معركةٌ لا تُخاضُ فقط في الشارعِ أو عبرَ التلفزيون، بل داخلَ هواتفِنا. والسؤالُ الذي يجبُ أن يطرحَ نفسَه منذ الآن: كم من الأصواتِ التي ستعلو في الموسمِ الانتخابيِّ المقبل ستكونُ حقيقيّةً؟ وكم منها سيكونُ مجرّدَ صدى قادمٍ من مزرعةٍ مجهولة؟
في لُبنان، حيثُ تتداخلُ السُّلطةُ القضائيّةُ مع السياسةِ وتتعـرّضُ للمحاسبةِ الضَّعيفةِ، لا يُعَدُّ التَّحوُّلُ الرَّقميُّ رَفاهيةً بل ضرورةً لإعادةِ بناءِ الثقةِ. يتجاوزُ الأمرُ مُجرَّدَ تطويرِ منصّةٍ إلكترونيّةٍ أو نظامِ مُرافعاتٍ عن بُعد، إنَّه مَسعى لتحويلِ القضاءِ إلى جهازٍ ذكيٍّ وشفّاف، قادرٍ على حمايةِ ذاتهِ من تَدخُّلاتِ السُّلطةِ وتحيّزِها. تراجُعٌ الأبطالِ القانونيّين من أبرزِ التَّحدّياتِ التي تُواجِهُ العدالةَ اللُّبنانيّةَ اليومَ هو شُغورُ القُضاةِ: تُقدَّرُ نسبةُ الشُّغورِ في الجِسمِ القضائيِّ بحوالي 30% بحسبِ تقاريرَ محلِّيّة، بينما حوالي 120 قاضيًا حديثَ التخرّجِ ينتظرونَ تعيينَهم.هذا النَّقصُ ليس رقمًا ثانويًّا، إنَّه يُؤثِّرُ مباشرةً على قُدرةِ المحاكمِ على البتِّ في القضايا ويُسهمُ في التأخيرِ المُزمِن. المؤشِّرُ الأهمّ: عددُ القُضاةِ النَّشِطينَ يُقدَّرُ بحوالي 570 قاضيًا فقط، كثيرٌ منهم يعملونَ كقضاةٍ مُؤقَّتين وبأعباءٍ مُتعدِّدةٍ لدى أكثرَ من محكمة.إضافةً إلى ذلك، تبرزُ أيضًا قضيّةُ الاستقالاتِ والتقاعدِ المُبكِّر، حيثُ زادت “نَزعةُ النُّزوحِ القضائيِّ” من النِّظامِ الرسميِّ بعد انهيارِ الأجورِ بالدولار. أزمة هيكلية التَّراكُمُ في القضايا ليس مشكلةً هامشيّةً، بل أزمةً هيكليّة. وفقَ تقريرِ الأداءِ القضائيِّ لعام 2023، بلغ عددُ القضايا المتأخّرة (backlog) حوالي 2,594 قضيّة على مستوى مختلفِ درجاتِ المحاكم، ما يُشكِّلُ نحو 5% من مجموعِ القضايا المفتوحة آنذاك، بعدما كان التأخّرُ 6% في 2022.هذا التحسُّنُ الطفيفُ لم يأتِ صدفةً، بل بفضلِ “برنامجِ مَسحٍ وتأجيلٍ استراتيجيّ” تضمَّنَ تعيينَ قضاةٍ جُدُد (مثل 10 قُضاة لدى محاكمِ الاستئناف، و20 قاضيًا في محاكمِ الدَّرجةِ الأولى)، مع تفعيلِ تكنولوجيا المعلوماتِ في إدارةِ القضايا، وفقَ التقرير.ومع ذلك، لا يمكنُ التغاضي عن وجودِ تقاريرَ تشيرُ إلى أنَّ بعضَ القضاةِ يُضطرّونَ للعملِ في أكثرَ من محكمةٍ بسببِ نَقصِ التعيينات، ما يُقلِّلُ من تركيزِهم ويُؤثِّرُ في جودةِ الأحكام. لكي يقودَ الذكاءُ الاصطناعيُّ هذا النوعَ من الإصلاح، لا بدّ أوّلًا من وجودِ بُنيةِ بياناتٍ قويّةٍ ومتكاملة. ما ينقصُ لبنان اليوم هو أرشيفٌ قضائيٌّ مُوحّد، منصّةٌ تجمعُ بياناتِ جميعِ المحاكم وتربطُها بخوارزميّاتِ تحليلِ الأداء الضُّغوطُ الماليّةُ وتأثيرُها لم يُعفِ الانهيارُ الاقتصاديُّ القضاءَ من تداعياتِه. بعد تراجُعِ العملةِ وتآكُلِ الأجور، واجهَ القضاةُ صعوباتٍ ماليّةً كبيرةً، ما أدّى إلى إضراباتٍ مُتكرّرة: في بعضِ الأحيانِ شاركَ نحو 80% من القضاةِ في الإضراب، ما عرقلَ نشاطَ المحاكمِ بشكلٍ كبير.في المشهدِ اليوميّ، يعرفُ القضاةُ أوقاتَ عملِهم ليس من حرارةِ الأعمالِ القانونيّة، بل من وجودِ المُولّداتِ أو مدى توافُرِ الوقود، ومن ساعاتِ توفُّرِ الكهرباءِ في قصورِ العدل.إلى ذلك، يشيرُ تقريرٌ تفصيليٌّ إلى أنَّ البُنيةَ التحتيّةَ القضائيّةَ غيرُ مُلائمةٍ في كثيرٍ من المحاكم: قاعاتٌ ضيّقة، ضعفٌ في الأرشيف، غيابُ تجهيزاتٍ أمنيّةٍ وتقنيّةٍ شِبهِ تامّ. عدالةٌ رقميّةٌ مدعومةٌ في ظلِّ هذه الضُّغوط، يصبحُ الذكاءُ الاصطناعيُّ أكثرَ من خيارٍ تكنولوجيّ: إنَّه “مراقبٌ مُحايِد” لا يخضعُ للمنطقِ السياسيّ. يمكنُ لخوارزميّاتِ الذكاءِ الاصطناعيِّ تحليلُ ملايينِ البياناتِ القضائيّة، واكتشافُ الأنماطِ غيرِ الطبيعيّةِ في تأخيرِ الأحكام، أو في توزيعِ القضايا بين القضاة، أو في معدّلاتِ الاستئناف. هذا النوعُ من المراقبةِ لا يُخضعُ القاضيَ فقط للمساءلة، بل يخلُقُ أساسًا للدقّةِ والشفافيّة التي يمكنُ للجميعِ رؤيتُها.بفضلِ تقنيّةِ التنبّؤِ القضائيّ، يمكنُ للمنصّةِ الرقميّة أن تُشيرَ إلى حالاتِ “إنذارٍ مُبكّر”: مثل القضايا التي تجاوزت متوسّطَ زمنِ البتِّ في ملفاتٍ مماثلة، أو التي تشهدُ تأخيرًا مُفرطًا مقارنةً بمحاكمَ أخرى. هذه الميزةُ لا تُقلِّلُ من دورِ القاضي البشريّ، بل تدعمُ قراراتِه وتُجهِّزُ النِّظامَ الأساسيَّ لمراجعةِ الأداء.كما أنَّ الذكاءَ الاصطناعيَّ يمكن أن يكونَ أداةً قويّةً للكشفِ عن الانحياز: تحليلُ لغةِ الأحكام، وتكرارُ بعضِ القراراتِ لدى فئاتٍ معيّنة، وربما كشفُ ميلٍ نحو التمييزِ بسببِ المحسوبيّةِ أو التوزيعِ الطائفيِّ أو السياسيّ. من التَّجزئةِ إلى الوحدة لكي يقودَ الذكاءُ الاصطناعيُّ هذا النوعَ من الإصلاح، لا بدّ أوّلًا من وجودِ بُنيةِ بياناتٍ قويّةٍ ومتكاملة. ما ينقصُ لبنان اليوم هو أرشيفٌ قضائيٌّ مُوحّد، منصّةٌ تجمعُ بياناتِ جميعِ المحاكم وتربطُها بخوارزميّاتِ تحليلِ الأداء. كما يحتاجُ النِّظامُ إلى إطارٍ قانونيٍّ صارمٍ لتنظيمِ استخدامِ الذكاءِ الاصطناعيّ، يُحدّدُ الشفافيّة، ويمنعُ الانحياز، ويضمنُ مراجعةً بشريّةً للقراراتِ التي تظهرُ عبر التحليلِ الآليّ.وبدونِ هذه البُنية، تظلُّ بعضُ المبادراتِ الرقميّةِ جزئيّةً وغيرَ فعّالة، وقد تتفاقمُ الأزماتُ بدلَ أن تُحَلّ. التقنيةُ كقوّةٍ دستوريّة أهميّةُ العدالةِ الرقميّةِ التي تدعمُها الذكاءُ الاصطناعيّ لا تقتصرُ على التشغيل؛ هي استعادةٌ لشرعيّةِ القضاء. يستطيعُ المواطنُ أن يرى مسارَ قضيتِه في الزمنِ الحقيقيّ، أن يعرفَ أين تكمنُ عقبةُ التأخير، وأن يطمئنّ إلى أنَّ النّظامَ يُراقبُ ذاتَه. هذا النوعُ من الشفافيّةِ لا يُبنى بعقودٍ سياسيّة، بل بخوارزميّاتٍ وإشعاراتٍ رقميّة.عندما تصبحُ التكنولوجيا ليست أداةً لتسريعِ العملياتِ فقط، بل أداةً لضمانِ سلامةِ الحُكمِ واستقلالِ القضاء، فإنّها تتحوّلُ إلى ضمانةٍ دستوريّةٍ بذاتِها.لبنان لا يحتاجُ فقط إلى “قضاءٍ أكثرَ ذكاءً”؛ بل إلى “نظامٍ قضائيٍّ أصدق”، نظامٍ قائمٍ على التكنولوجيا، يمكنه أن يُحاسِبَ نفسَه، يُراقبَ أداءَه، ويكشفَ التحيّزَ دون خوف. في ظلِّ أزمةِ الشُّغورِ القضائيّ، وتراكُمِ القضايا، والضُّغوطِ الماليّةِ، والتسييس، الذكاءُ الاصطناعيُّ المدعومُ بالعدالةِ الرقميّةِ ليس رَفاهيةً، بل أداةُ إصلاحٍ حيويّة. هذه هي الفُرصةُ لإعادةِ بناءِ مرفقِ العدالة على أسُسٍ لا تحتملُ التلاعب، بل تفرضُ النَّزاهةَ والشفافيّة.
لطالما ظنّ الإنسانُ أنَّ الحظَّ نَفَسٌ غامضٌ تَهَبُه قوى خفيّة أو تَسحَبُه متى شاءت. لكن كلما تَوَغَّلَ العلمُ في أعماقِ الوعي، بدا أنَّ الحظَّ ليس مجرد رَميةِ نردٍ، بل إشارةٌ كونيةٌ تنتظرُ مَن يفهمُ لغتَها في مختبراتِ الفيزياء الحديثة، حين وُجِّهت أعينُ العلماءِ إلى جسيمٍ صغيرٍ يمرّ بين شقّين، غيّر مسارَه فورًا، كأنَّه خَجِلَ من أنْ يُرى. هكذا وُلد “تأثيرُ المُراقِب”، الدليلُ الأولُ على أنَّ الوعيَ ليس مُتفرِّجًا، بل مُمثِّلًا في مسرحِ الوجود. منذ تلك اللحظة، بدأ السؤالُ يتبدّل: هل نعيش في واقعٍ موضوعيٍّ صُلب؟ أم في حقلٍ من الاحتمالات يتّخذُ شكلَه وِفقَ ما نُؤمِنُ به ونَنتَبِهُ إليه؟ الإيمانُ كمعمارٍ خفي حين يقولُ أحدهم: “أنا محظوظ”، لا يتحدثُ عن معجزة، بل عن هندسة. دماغُه يُعيدُ ترتيبَ إدراكِه مثل خوارزميةٍ تبحثُ في الضجيجِ عن معنى. في مكانٍ ما خلف الجمجمة، يعمل نظامٌ عصبيٌّ دقيق، نظامُ التنشيطِ الشبكي، كعدسةٍ تختار ما يستحقُّ أن يُرى. هو لا يَخلُقُ الأحداث، لكنه يُوجِّهُ الضوءَ إليها. يشبه الإيمانُ بالحظ إعادةَ برمجةِ الوعي على تردّدٍ معيّن، كأنك تُضبِطُ موجةً إذاعيةً لا يسمعُها إلا مَن آمن بوجودِها. وفي تلك اللحظة، يُصبح العالمُ كريمًا، لا لأنه تغيّر، بل لأنك تغيّرتَ في رؤيتِه. الحظُّ ليس وعدًا من السماء، بل صدىً يصدُر عن الداخل ويعودُ في شكلِ فرصة الذكاءُ الاصطناعي… المرآةُ الجديدةُ للحظ في عوالمِ الذكاء الاصطناعي تتكرّر القصةُ نفسها. الخوارزميات لا “تعرِف” أكثر منا، لكنها تتعلم كيف ترى الأنماطَ المُخفية في العشوائية. إنّها تبحثُ عمّا يتكرّر، عمّا يَتناغم، تمامًا كما يفعل وعينا حين يُؤمن بأنَّ حدثًا ما “كان مُقدَّرًا له أن يحدث”. الذكاءُ الاصطناعي هو التجسيدُ الميكانيكيُّ لفكرةِ الحظ القديمة: مجموعةٌ من الحسابات الدقيقة التي تُحوِّل الفوضى إلى احتمالٍ مفهوم. وكما أنَّ الإنسانَ المحظوظ يرى في الصدفةِ فرصة، يرى الذكاءُ الاصطناعي في الضوضاءِ إشارة. في جامعةِ برينستون، ربط العلماءُ مُولِّداتِ أرقامٍ عشوائيةٍ بعقولِ أشخاصٍ طُلِبَ منهم التركيزُ على نِيّةٍ محددة. النتيجة: خرجت الأرقامُ عن العشوائية. مجردُ التفكير غيّر النتيجة.قد يبدو هذا ضربًا من السحر، لكنه أقربُ إلى الموسيقى: النيةُ نغمة، والمادةُ آلةٌ تستجيبُ للتردّدِ الصحيح. وحين يَتناغم الاثنان، يُولَد ما نُسميه “الحظ”. في أعماق الأمر، يبدو أنَّ الحظَّ والذكاءَ الاصطناعي يتحدثان اللغةَ نفسها: لغةَ الاختيار من بين ملايينِ الاحتمالات. لكن بينما يفعلُ الذكاءُ الاصطناعي ذلك عبر حساباتٍ ومعادلات، يفعله الوعي عبر الإيمان والنية والانتباه. الحظُّ ليس وعدًا من السماء، بل صدىً يصدُر عن الداخل ويعودُ في شكلِ فرصة. وكما تحتاجُ الخوارزميةُ إلى “بياناتٍ نظيفة” لتنتج نتائج دقيقة، يحتاجُ الوعي إلى نِيّةٍ نقيّة ليجذبَ تردُّدَه الصحيح. الحظُّ ليس عشوائية، ولا معجزة، ولا مصادفة، إنَّه لحظةُ توازنٍ بين العقلِ والكون، حيث تُصغي المادةُ إلى مَن يُؤمن أنّه قادرٌ على توجيهِها. في زمنِ الذكاء الاصطناعي، لم يَعُد الحظُّ امتيازًا روحيًا فحسب، بل فنًا إدراكيًا يمكنُ تعلُّمُه:فنّ اختيارِ الاحتمالِ الصائب وسط الضوضاء، فنّ جعلِ العالمِ يستجيب كما لو كان يُفكّر معنا. فالحظّ، في جوهره، ليس شيئًا نَملكُه، بل وعيًا نُدرّبه حتى يُصبح هو الذكاءَ الحقيقي… ذكاءً يصنعُ واقعَه كما تصنعُ الخوارزميةُ مُعجزتَها الرقمية.