في زمنٍ كانت فيه بيروتُ تبحثُ عن فسحةِ ضحكٍ وسطَ التوتّراتِ السياسيّةِ والاجتماعيّة، صعدَ شابٌّ نحيلٌ بوجهٍ طفوليٍّ وشاربينِ كثيفينِ إلى الخشبة، حاملًا اسمًا فنّيًا بسيطًا: شوشو. سرعان ما تحوّل هذا الاسمُ إلى مرادفٍ للمسرحِ نفسه؛ فـ«المسرحُ الوطنيّ» الذي أسّسه صار في ذاكرةِ الناس «مسرحَ شوشو»، والممثّلُ الشابّ غدا أيقونةً لضحكةِ الفقراء وهمومِهم في آنٍ واحد. من أحياء بيروت إلى خشبة التاريخ وُلِدَ حسنُ علاء الدين، المعروف بـ«شوشو»، عام 1939، وتعودُ أصولُ عائلته إلى بلدةِ جون في قضاءِ الشوف، قبل أن يتربّى في أحياءِ بيروتَ الشعبيّة، ولا سيّما منطقةَ البسطة التي شكّلت مسرحَ حياته الأوّل. هناك التقطَ تفاصيلَ الناسِ ولغتَهم، وحوّلها لاحقًا إلى شخصيّاتٍ و«نكاتٍ» حيّةٍ على الخشبة.بدأ طريقَه مع فرقِ الهواة، قبل أن يلتقيَ المخرجَ والكاتبَ محمّد شامل في منتصفِ الستينيّات، فيفتحَ له أبوابَ الإذاعةِ والتلفزيون. ومن كواليسِ البرامجِ الإذاعيّةِ والتلفزيونيّة خرجت جملةُ «كيفك يا شخص؟» لتصبح «كلمةَ السرّ» التي تعرّفَ الناسُ من خلالها إلى الصوتِ الجديدِ القادمِ من قلبِ الشارع. حجرٌ ثقافيّ في قلب بيروت عام 1965، شاركَ شوشو المخرجَ نزار ميقاتي في تأسيسِ «المسرحِ الوطنيّ اللبنانيّ»، في مغامرةٍ بدت حينها ضربًا من الجنون: مسرحٌ يوميّ، يفتحُ أبوابَه للجمهورِ بشكلٍ متواصل، ويقدّمُ عروضًا شعبيّةً بأسعارٍ في متناولِ الطبقةِ الوسطى والفقيرة.تحوّل المسرحُ إلى معلَمٍ ثقافيّ في قلبِ المدينة، فالتذكرةُ إليه كانت أشبهَ بتذكرةِ عبورٍ إلى عالمٍ يعكسُ حياةَ الناسِ بصدق، ويمنحُهم حقَّ الضحكِ على واقعِهم المرّ. لم تكن بيروتُ تعرفُ الاسمَ الرسميّ للمكان بقدرِ ما عرفت صاحبَه؛ يكفي أن يقولَ سائقُ التاكسي «مسرح شوشو» حتّى ينطلقَ بلا سؤال، كأنّه يذهبُ إلى ذاكرةٍ مشتركةٍ لا إلى عنوان.على تلك الخشبة قدّم شوشو عشراتِ المسرحيّاتِ التي مزجتِ الكوميديا بالنقدِ السياسيّ والاجتماعيّ، من بينها مسرحيّةُ «آخ يا بلدنا» التي عُرِضت عام 1973، واعتُبِرَت علامةً فارقةً في تاريخِ المسرحِ اللبنانيّ لحدّةِ نقدِها وجرأتِها في مقاربةِ قضايا الفقرِ والفسادِ والسلطة. ضحكٌ مرّ على وجع بلد لم تكن شخصيّةُ شوشو مجرّد «مهرّج» يُضحكُ الجمهور، بل كانت صورةً مركّبةً للإنسانِ البيروتيّ البسيط: ثيابٌ متواضعة، قبّعةٌ أو طربوش، حركاتٌ غيرُ متناسقة، ولسانٌ ساخرٌ يطلقُ المزاحَ ليكشفَ تناقضاتِ المجتمعِ والسلطة. عبر هذه الشخصيّة، استطاع أن يحوّلَ المسرحَ إلى مساحةِ نقاشٍ حيّةٍ بين الناسِ والواقعِ الذي يعيشونه.كانت عروضُه اليوميّة بمثابةِ نشرةٍ سياسيّةٍ شعبيّة، تتناولُ ارتفاعَ الأسعار، وفسادَ بعضِ المسؤولين، وتهميشَ الطبقاتِ الفقيرة، لكن بلغةِ الضحك لا بلغةِ الشعارات. لذلك أحبَّه الناس، وشعرَ كثيرون أنّه يتكلّمُ بلسانِهم، ويدافعُ عنهم من فوقِ الخشبة. المرضُ والديون هذه المغامرةُ المسرحيّةُ «الانتحاريّة» كانت لها كلفتُها القاسية. فالإصرارُ على مسرحٍ يوميٍّ بأسعارٍ متواضعة، مع ضعفِ الدعمِ الرسميّ وغيابِ البنيةِ الثقافيّةِ المستقرّة، راكمَ على شوشو ديونًا كبيرة. ومع بداياتِ الحربِ الأهليّةِ اللبنانيّة عام 1975، تراجعتِ الحركةُ المسرحيّة، وتفاقمت أزمتُه الماليّةُ والصحّيّةُ في آنٍ واحد.في 23 من تشرين الثاني/نوفمبر 1975، رحلَ شوشو عن 36 عامًا فقط، إثرَ نوبةٍ قلبيّةٍ بحسبِ روايات، تاركًا وراءه مسرحًا مثقلًا بالديون، وجمهورًا مصدومًا برحيلِ من اعتادَ أن يمسحَ عن وجهِه غبارَ الأيّامِ بالضحكة. لقد غلبَه المرضُ والدَّين، لكنّهما لم ينجحا في محوِ أثرِه من وجدانِ اللبنانيّين. من «مسرح شوشو» إلى شاشة غوغل بعد نصفِ قرنٍ على رحيلِه، ما زالت مسرحيّاتُ شوشو تُستعادُ على شاشاتِ التلفزيون ومنصّاتِ التواصل، وما زالت عباراته حاضرةً في ذاكرةِ أجيالٍ لم تعاصرْه. وفي عام 2014، خصّصت شركةُ «غوغل» رسمةً على صفحتِها الرئيسيّة في الذكرى الخامسة والسبعين لميلادِه، لتذكّرَ العالمَ بفنّانٍ لبنانيّ جعلَ من الكوميديا وسيلةً لمقاومةِ القهرِ اليوميّ. رحلَ شوشو فقيرًا كما بدأ، لكنّه تركَ وراءه ثروةً فنّيّةً حقيقيّة، ونموذجًا لمسرحٍ شعبيٍّ ملتزم، ودرسًا في أنّ الضحكَ يمكنُ أن يكونَ أداةَ مقاومة، لا مجرّدَ ترفٍ ترفيهيّ. وفي بلدٍ ما زال يعيشُ الأزماتِ نفسها من فقرٍ وفسادٍ وانقسام، يبدو أنّ صرخةَ شوشو في «آخ يا بلدنا» ما زالت صالحةً لزمنِنا، وأنّ بيروتَ التي عرفت مسرحَه لن تنسى بسهولةٍ من منحَها أجملَ ضحكاتِها في أحلكِ أيّامِها.
تقفُ مدينةُ صَيْدا على ساحلِ البحرِ الأبيضِ المُتوسِّطِ كشاهدةٍ حيّةٍ على آلافِ السنينِ من الحضارةِ الإنسانيّة. فهذه المدينةُ اللبنانيّة، التي يعودُ تاريخُها إلى أكثرَ من ستّةِ آلافِ سنة، كانت في يومٍ من الأيّامِ عاصمةَ الحضارةِ الفينيقيّة ومركزًا تجاريًّا عالميًّا لا مثيلَ له. غيرَ أنَّ المُفارقةَ المُؤلِمةَ تكمنُ في أنَّه، وحتى يومِنا هذا، تفتقرُ المدينةُ العريقةُ إلى مُتحفٍ أثريٍّ يليقُ بتاريخِها ويروي قصّصها صيدا عبر التاريخ تُعتَبَرُ صَيْدا من أقدمِ المدنِ الفينيقيّة التي أسّسها الكنعانيّون حوالي عامَ 2800 قبلَ الميلاد، وَفقًا للمؤرّخِ الفرنسيّ جاك نانتي. وقد سُمِّيَت المدينةُ باسمِ صِيدون، ابنِ كنعانَ البِكر، وأصبحت مع مرورِ الزمنِ مركزًا حضاريًّا وتجارِيًّا بارزًا على البحرِ المتوسِّط. كان موقعُها الساحليُّ الاستراتيجيُّ السببَ الأساسِيَّ في ازدهارِها، إذ وفَّرَ لها ميناءً طبيعيًّا مثاليًّا للتجارةِ البحريّةِ والملاحة.خلالَ العصرِ الحديديّ، برزت صَيْدا كواحدةٍ من أهمِّ المدنِ الفينيقيّة، بل لعلّها كانت الأقدمَ والأكثرَ أهمّيّة. وقد اشتهرت بصناعاتٍ أسطوريّةٍ في ذلكَ الزمان: صناعةِ الزجاجِ التي كانت تمثّل أهمَّ مشروعٍ اقتصاديٍّ في المدينة، وصناعةِ الصبغةِ الأرجوانيّةِ الفاخرةِ المُستخرَجةِ من صدفِ الموريكس، وفنِّ التطريزِ الرقيقِ الذي اشتهرت به نساءُ صَيْدا. وكان هوميروس نفسُه يشيدُ بمهارةِ حرفيّيها وإبداعِهم. لا تزال هناك تحدّياتٌ كبيرةٌ تعترضُ إنجازَ المتحف بالكامل، فقد كشف وزيرُ الثقافةِ غسان سلامة بأنَّ 50% من أعمالِ البناء قد أُنجِزت، وأنَّ هناك حاجةً إلى نحوِ 5 ملايينَ دولارٍ إضافيّةٍ لاستكمالِ المشروع نشأة المشروع والرؤية في 27 يونيو 2009، وُضِعَ حجرُ الأساسِ لمشروعِ “متحفِ صَيْدا التاريخيّ” في موقعِ الفرير، وهو موقعٌ أثريٌّ استثنائيّ يقعُ في قلبِ المدينةِ القديمة. كان هذا الحدثُ بمثابةِ نقطةِ تحوُّلٍ في تاريخِ المدينة، إذ أعطى الأملَ في أن تحظى صَيْدا أخيرًا بالمعلمِ الثقافيِّ الذي تستحقّه.الموقعُ الأثريُّ نفسُه يحكي قصةً حضاريّةً غنيّة. فقد كشفت الحفريّاتُ التي أجرتها بعثةُ المتحفِ البريطانيّ، بإشرافِ المديريّةِ العامّةِ للآثارِ اللبنانيّة، عن طبقاتٍ حضاريّةٍ متعدّدةٍ تعودُ إلى أكثرَ من 6000 عام. وقد تمَّ استخراجُ ما يقرُبُ من 1400 قطعةٍ أثريّةٍ من الموقع، تُغطّي فتراتٍ زمنيّةً تمتدُّ من الألفِ الثالثِ قبل الميلادِ وحتى العصورِ الوسطى. وتمثّل هذه القطعُ شهاداتٍ حيّةً على التنوّعِ الحضاريِّ الذي عاشَتْه المدينةُ عبرَ العصور. التمويل والشركاء الدوليون كان تمويلُ المشروعِ يعتمدُ على دعمٍ دوليٍّ سخيّ؛ فقد قدّم الصندوقُ الكويتيُّ للتنميةِ الاقتصاديّةِ العربيّة، والصندوقُ العربيُّ للإنماءِ الاقتصاديِّ والاجتماعيِّ، هباتٍ كبيرةً لإنجازِ هذا المشروع. وكان الرئيسُ الأسبقُ فؤادُ السنيورة، الذي كان رئيسًا للحكومةِ في ذلكَ الوقت، له دورٌ أساسيٌّ في تأمينِ هذا التمويلِ والعملِ على إطلاقِ المشروع.تولّت “الشركةُ العربيّةُ للأعمالِ المدنيّة” مسؤوليةَ تنفيذِ الأعمالِ الإنشائيّة، بينما قدّمت شركةُ “خطيب وعلمي” الاستشاراتِ الهندسيّة. وكان المشروعُ مُقسّمًا إلى عدّةِ مراحلٍ تتضمّن المرحلةُ الأولى منها بناءَ القاعاتِ الرئيسيّةِ والمساحاتِ المخصّصةِ للقطعِ الأثريّة.للأسف، لم يسرِ المشروعُ وَفقًا للخطةِ الموضوعة؛ فقد شهد توقُّفًا طويلًا استمرَّ سنواتٍ عديدة، ما أدّى إلى تأخيرٍ كبيرٍ في إنجازِه. ويعود السببُ الرئيسيُّ لهذا التأخيرِ إلى الأزمةِ الاقتصاديّةِ والماليّةِ الحادّةِ التي ضربت لبنان منذ عام 2019.لم يقتصر تأثيرُ الأزمةِ على القطاعِ الخاصّ، بل امتدَّ إلى كافّةِ جوانبِ الحياةِ العامّة، بما فيها المشاريعُ الحكوميّةُ والبلديّة، وبينها المشاريعُ الثقافيّةُ والأثريّةُ التي تراجعت أولويّاتُها في ظلِّ الانهيار.وفي هذا السياق، توقّف مشروعُ متحفِ صَيْدا عن الحركةِ بشكلٍ فعليّ، رغم الحاجَةِ الملِحّة إليه كمعلمٍ قادرٍ على تنشيطِ الاقتصادِ المحلّي وجذبِ السيّاح. رسم متخيل لصيدا في الحقبة الفينيقية التحديات المتبقية والتمويل الناقصفي أكتوبر 2025، أعلن السنيورة، خلال زيارةٍ تفقديّةٍ لموقعِ المتحف، عن استئنافِ العملِ في المشروعِ بعد توقّفٍ قسريٍّ استمرَّ سنوات. وقال إنّ المرحلةَ الأولى من المشروعِ على وشكِ الانتهاء، ما يفتح البابَ أمام إمكانيةِ افتتاحٍ جزئيٍّ للمتحفِ في المستقبلِ القريب.خلال الزيارة، اطّلع السنيورة والوفدُ المرافقُ على تقدّمِ الأعمالِ في القاعاتِ الكبرى والباحاتِ المُطلّةِ على الطبقاتِ الأثريّة، كما جرى التأكيدُ على استمرارِ الدعمِ من الصندوقِ الكويتيّ والصندوقِ العربيّ.رغم الأخبارِ الإيجابيّة، لا تزال هناك تحدّياتٌ كبيرةٌ تعترضُ إنجازَ المشروعِ بالكامل. فقد صرّح وزيرُ الثقافةِ غسّان سلامة في سبتمبر 2025 بأنَّ 50% من أعمالِ البناء قد أُنجِزت، وأنَّ هناك حاجةً إلى نحوِ 5 ملايينَ دولارٍ إضافيّةٍ لاستكمالِ المشروع.ورغمَ أنَّ هذا المبلغَ يبدو كبيرًا في ظلِّ الأزمةِ الراهنة، إلّا أنّه استثمارٌ ضروريٌّ في الهويةِ الثقافيّةِ للمدينةِ والبلد. ويتطلّب تأمينُه تضافرَ جهودِ الحكومةِ والجهاتِ المانحةِ والمجتمعِ المحليّ.يمثّل متحفُ صَيْدا أكثرَ من مجرّدِ مبنى يحتوي على قطعٍ أثريّة؛ إنَّه رسالةٌ حضاريّةٌ إلى العالمِ بأنّ صَيْدا، رغم التحدّيات، لا تزال تفتخرُ بإرثِها وتسعى للحفاظِ عليه. فالمتحفُ سيقدّم منصّةً لروايةِ قصّةِ 6000 سنةٍ من التاريخِ الإنسانيّ، من الحضارةِ الفينيقيّةِ إلى العصورِ الوسطى، بما يُعزِّز الهويّةَ الثقافيّةَ لصَيْدا وجنوبِ لبنان.كما سيمنحُ الأجيالَ الحاليّةَ والقادمةَ فرصةً لفهمِ جذورِهم الحضاريّةِ والتعرّفِ إلى إنجازاتِ أسلافِهم.الفوائد الاقتصادية والسياحيةاقتصاديًّا، يمكن لمتحفِ صَيْدا أن يتحوّل إلى عاملِ جذبٍ سياحيٍّ رئيسيّ، إذ تُظهر التجاربُ العالميّةُ أنَّ المتاحفَ الكبرى تستقطبُ السيّاحَ وتُنشّطُ الاقتصادَ المحليّ وتخلقُ فُرصَ عمل. وفي ظلِّ الأزمةِ الراهنة، يحتاج لبنان بشدّةٍ إلى مشاريعَ كهذه تُعيد الحيويّةَ إلى القطاعِ السياحيّ.وصَيْدا، بموقعِها وتاريخِها، تمتلكُ كلَّ المقوّماتِ لتصبحَ وجهةً عالميّةً إذا ما اكتملت بنيتُها الثقافيّة. مَن يتحمّل المسؤولية؟ تأخيرُ المشروعِ لأكثرَ من 15 سنة يطرحُ أسئلةً حولَ المسؤوليّة: هل الحكومةُ مسؤولةٌ عن عدمِ تأمينِ التمويلِ؟ هل بلديّةُ صَيْدا قصّرت في الإشراف؟ هل كان يجب على الجهاتِ الدوليّةِ الضغطُ أكثر؟ الإجابةُ معقّدةٌ، لكنّ الواضحَ أنّ جميعَ الأطرافِ تتحمّل جزءًا من المسؤوليّة، وأنَّ الأزمةَ الاقتصاديّةَ، رغم حدّتِها، لا تُبرِّر التأخيرَ بالكامل. ويجبُ أن يكون هذا التأخيرُ درسًا للحكومةِ والبلديّاتِ حولَ أهميّةِ الاستثمارِ في الثقافةِ والتراث، فالثقافةُ ليست رفاهيّةً، بل عنصرًا أساسيًّا لبناءِ الهُويّةِ وجذبِ الاستثمارِ والسياحة. وعلى الرغمِ من التأخيرات، يبقى الأملُ قائمًا في أن يرى المتحفُ النورَ قريبًا؛ فاستئنافُ العملِ، ولو جزئيًّا، خطوةٌ إيجابيّةٌ على الطريقِ الصحيح. وصَيْدا، التي تمتدُّ أسطورتُها عبرَ آلافِ السنين، تستحقُّ متحفًا يروي قصّتَها بفخرٍ وعظمة، ويُضيفُ لَمعةً جديدةً إلى خريطةِ المتاحفِ العالميّة.
في لحظةٍ يعيش فيها لبنان أحد أقسى فصولِ أزمته الاقتصادية والسياسية، يأتي اختيار مدينة صيدا، إلى جانب قرطبة الإسبانية، “عاصمة متوسطيّة للثقافة والحوار لعام 2027” بقرار من وزراء خارجية دول الاتحاد من أجل المتوسّط وبالشراكة مع مؤسّسة آنا ليند للحوار بين الثقافات هذا القرارُ يبدو للوهلة الأولى تكريمًا ثقافيًا، لكنه في العمق فرصةٌ استراتيجيةٌ لصيدا ولبنان على المستويين الاقتصادي والثقافي، إذا أُحسِن استغلالُها وخُطِّط لها مبكرًا. ماذا يعني اللقب؟ لا يقتصر اللقب على شعارٍ احتفاليٍّ فحسب، فالمبادرة تفرض على صيدا وقرطبة إعداد برنامجٍ مشترك لعام 2027 يركّز على الحوار بين الثقافات والأديان، حماية التراث المادي واللامادي، الاستدامة البيئية، مشاريع فنية وتعليمية وتبادلات شبابية بين ضفّتي المتوسّط.أي إنّ المدينة ستتحوّل، ولو لعامٍ واحد، إلى منصّة عرضٍ كبرى تستضيف مهرجانات، معارض، مؤتمرات، إقامات فنية، فعاليات جامعية ومدرسية، ومسارات سياحية مرتبطة بتاريخها البحري والتجاري والديني. هذه البرمجة، إذا ارتكزت إلى رؤيةٍ واضحة، يمكن أن تجعل من 2027 سنةً مفصليةً في تاريخ صيدا الحديث، شبيهةً بما حقّقته “عواصم الثقافة الأوروبية” في مدنٍ عدّة حيث أدّت إلى قفزةٍ في عدد الزوّار ونشاط القطاعات الثقافية والسياحية.تُشير تقييمات الاتحاد الأوروبي إلى أنّ المدن التي حملت اللقب شهدت زيادةً في أعداد الزوّار تتراوح بين 30 و40 في المئة خلال سنة الحدث، إلى جانب قفزة كبيرة في عدد الأنشطة الثقافية. ليس اختيار صيدا عاصمةً متوسطيّةً للثقافة والحوار لعام 2027 مجرّد خبرٍ مُفرِحٍ في زمن الأخبار السيئة، إنّه فرصةُ اختبار: هل يستطيع لبنان، من بوابة صيدا، أن يحوّل الثقافة إلى رافعةٍ للتنمية الاقتصادية وصورةٍ جديدةٍ للبلد؟ استعادة دور المدينةِ اختيار صيدا لم يأتِ من فراغ، فهذه المدينة الساحلية التي يعود تاريخها لأكثر من ستة آلاف عام، تُعَدّ واحدةً من أقدم المرافئ على المتوسّط، ومرّت عليها حضاراتٌ فينيقية ورومانية وعربية وصليبية وعثمانية، ما جعلها أرشيفًا حيًّا للتاريخ المتوسّطي.فالخطاب الرسمي اللبناني، من رئاسة الجمهورية ووزارة الخارجية إلى شخصياتٍ سياسيةٍ وثقافية، ركّز على أن صيدا “بوابة الجنوب” و”جسرٌ بين الشرق والغرب” ومدينة تعايشٍ وتنوّعٍ ديني وثقافي. سنة 2027 يمكن أن تكون فرصةً لتحديث البنية التحتية الثقافية (ترميم خاناتٍ وأسواقٍ قديمة، تجهيز قاعات عرض، إنشاء مسارات متحفية)، ما يرفع مستوى العمل الثقافي لسنواتٍ بعد انتهاء الحدث، الأمر الذي يمكن أن يترجم لاحقًا إلى تعاونٍ جامعي، تبادلٍ طلابي، وربما شراكات اقتصادية وسياحية.اللقب يضع المدينة على خريطة الإعلام الإقليمي والدولي، ويمنحها رأسمالًا رمزيًا يمكن استثماره في المفاوضة على مشاريعَ وتمويلات. المردود الاقتصادي في بلدٍ يعاني من انهيار العملة وارتفاع البطالة وتراجع الاستثمارات، كلّ مبادرةٍ قادرة على جذب الزوّار والتمويل تُشكّل أكسجينًا اقتصاديًا. فما الذي يمكن أن يقدّمه هذا اللقب لصيدا ولبنان اقتصاديًا؟ فالدراسات حول “عواصم الثقافة” الأوروبية تُظهِر أنّ هذه الفعاليات تزيد عدد الزائرين وتشجّع نوعًا خاصًا من السياحة ذات الإنفاق المرتفع نسبيًا، أي السياحة الثقافية، بالإضافة إلى أن صيدا تمتلك مقوّماتٍ جاهزة مثل قلعة البحر، السوق القديم، خان الإفرنج، المساجد والكنائس التاريخية، متحف الصابون، والأحياء الشعبية المطلة على البحر. كما إنّ كلّ فعاليةٍ ثقافية تعني حاجةً إلى خدمات فنادق وشققٍ مفروشة، مطاعم ومقاهٍ، نقل، شركات تنظيم فعاليات، مصمّمين، مترجمين، مرشدين سياحيين، مبرمجين ومصوّرين وصحافيين… وفي حال وُضع برنامجٌ سنوي موزّع على أشهر العام، يمكن أن يخلق ذلك فرصَ عملٍ مباشرةٍ وغير مباشرة لمئات الشباب في المدينة وضواحيها، بما في ذلك مخيمات اللاجئين والقرى المجاورة. جذب تمويلات ومشاريع تطوير مبادرة “عواصم الثقافة والحوار المتوسطي” تُطرح كمنصّةٍ للتعاون بين بلديات، مؤسساتٍ مانحة، اتحاداتٍ أوروبية ومتوسطية، وجامعات، وهذا يعني إمكانية تمويل مشاريع بنى تحتية ثقافية وسياحية (تحسين الواجهة البحرية، تهيئة مساراتٍ للمشاة والدراجات، تطوير النقل العام داخل المدينة)، ما سينعكس على قيمة الأراضي والعقارات وعلى جاذبية صيدا للاستثمار طويل الأمد. يتجه العالم اليوم إلى الاقتصاد المعرفي والإبداعي، حيث تصبح الموسيقى، والسينما، والتصميم، والألعاب الإلكترونية، والمنتجات الحرفية عناصرَ ذات قيمة اقتصادية حقيقية. فإذا استُخدِم لقب 2027 لإطلاق حاضنات أعمالٍ ثقافية ومساحات عملٍ مشتركة للفنانين والروّاد، يمكن لصيدا أن تتحوّل إلى مركزٍ إقليمي للصناعات الإبداعية في الجنوب اللبناني. هذه الصورة قد تساعد في استعادة ثقة جزءٍ من الجاليات اللبنانية في الخارج والمستثمرين، وتشجّعهم على العودة ببرامج دعم أو استثمار في قطاعات الثقافة والسياحة، وفتح باب الاستثمار طويل الأمد مع دولٍ متوسطية. تعميم التجربة على مدنٍ أخرى، نجاح صيدا في هذا الاختبار يمكن أن يشجّع مدنًا لبنانيةً أخرى (صور، طرابلس، زحلة، بعلبك…) على تطوير استراتيجياتٍ ثقافية وسياحية خاصة بها، بدل الاكتفاء بالانتظار السلبي لقرارات المركز. بهذا المعنى، اللقب لا يخص صيدا وحدها، بل قد يكون نموذجًا لإعادة التفكير في دور المدن اللبنانية كفاعلين اقتصاديين وثقافيين مستقلّين نسبيًا عن الدولة المركزية المتعثّرة. ليس اختيار صيدا عاصمةً متوسطيّةً للثقافة والحوار لعام 2027 مجرّد خبرٍ مُفرِحٍ في زمن الأخبار السيئة، إنّه فرصةُ اختبار: هل يستطيع لبنان، من بوابة صيدا، أن يحوّل الثقافة إلى رافعةٍ للتنمية الاقتصادية وصورةٍ جديدةٍ للبلد؟ إذا نجحت المدينة في تحويل اللقب إلى مشروعٍ متكامل يُعيد الحياة إلى أسواقها القديمة، ويفتح أبوابًا جديدة لفرص العمل لشبابها، ويُكرّسها كمساحة حوارٍ حقيقي بين ضفّتي المتوسّط، عندها يمكن القول إن عام 2027 لم يكن مجرد عنوان ثقافي… بل بداية مرحلةٍ جديدة لصيدا ولبنان معًا.