في منتصف القرن الثاني عشر، اهتز العالم الصليبي بسقوط مملكة الرها، أولى الإمارات الصليبية التي تأسست في الشرق خلال الحملة الصليبية الأولى. كان هذا السقوط على يد القائد المسلم عماد الدين زنكي، الذي وحّد قواته وأعاد للمسلمين هيبتهم في شمال الشام شكل هذا الحدث صدمة عنيفة في أوروبا، مما دفع البابا إيجين الثالث إلى إطلاق نداء لحملة صليبية ثانية، استجاب لها أقوى ملوك أوروبا في ذلك الوقت: لويس السابع ملك فرنسا، وكونراد الثالث ملك ألمانيا. كانت هذه هي المرة الأولى التي يشارك فيها ملوك أوروبا بأنفسهم في حملة صليبية، مما أضفى عليها أهمية استثنائية.كان الهدف المعلن للحملة هو استعادة الرها ومعاقبة زنكي، لكن الأهداف الخفية كانت تتجاوز ذلك بكثير، حيث كانت القوى الأوروبية تطمح إلى السيطرة على دمشق، المدينة الاستراتيجية التي ظلت صامدة في وجه المحاولات الصليبية السابقة. تحركت جيوش جرارة من فرنسا وألمانيا، متجهة نحو الأراضي المقدسة عبر الأناضول، التي كانت تحت سيطرة الدولة السلجوقية بقيادة السلطان ركن الدين مسعود. ركن الدين مسعود..حائط الصد كان السلطان ركن الدين مسعود قائدًا فذاً وحاكمًا لدولة سلاجقة الروم التي تمرست في قتال البيزنطيين والصليبيين. أدرك مسعود ببعد نظره الاستراتيجي أن تقدم الجيوش الصليبية عبر أراضيه سيشكل خطرًا ليس فقط على دولته، بل على العالم الإسلامي بأسره. فلو تمكنت هذه الجيوش من الوصول إلى الشام، فإنها ستشكل تهديدًا مباشرًا لدمشق، وقد تنجح في استعادة الرها، مما سيقوض الانتصارات التي حققها عماد الدين زنكي وابنه نور الدين محمود.قرر ركن الدين مسعود أن يتصدى لهذه الحملة بنفسه، مدركًا أن جيشه الصغير، الذي لم يتجاوز عشرة آلاف مقاتل، لا يمكنه مواجهة الجيوش الصليبية الضخمة في معركة مباشرة. لذلك، اعتمد على تكتيكات حربية ذكية تعتمد على الاستنزاف والمناوشات السريعة، مستغلاً معرفته الدقيقة بتضاريس الأناضول الوعرة. رفض مسعود عرض المساعدة من الزنكيين في الشام، مؤكداً لهم أن بإمكانه التعامل مع الموقف، وطالباً منهم فقط الدعاء له بالنصر. رفض مسعود عرض المساعدة من الزنكيين في الشام، مؤكداً لهم أن بإمكانه التعامل مع الموقف، وطالباً منهم فقط الدعاء له بالنصر. سحق الجيش الألمانيوصل الجيش الألماني بقيادة كونراد الثالث إلى الأناضول أولاً. كان كونراد قائدًا متعجرفًا، يستهين بقوة السلاجقة، ويتقدم بجيشه دون اتخاذ الاحتياطات اللازمة. استغل ركن الدين مسعود هذا الغرور، وأرسل فرقة من فرسانه بقيادة القائد “بريجادين بن أرسلان” لمهاجمة مؤخرة الجيش الألماني، حيث تم تدمير الإمدادات والمؤن، مما أدى إلى إرباك الجيش الألماني وإصابته بالإرهاق. أجبر هذا الهجوم كونراد على تغيير خططه، وأمر جيشه بالتحرك ككتلة واحدة، مما زاد من معاناتهم في التضاريس الجبلية القاسية. كان الجيش الألماني يعاني من العطش الشديد، وكان كل همهم هو الوصول إلى نهر “لبيتيس” لإنقاذ جنودهم وخيولهم. وهنا، كان ركن الدين مسعود قد نصب لهم فخًا محكمًا.عندما وصل الألمان إلى منطقة جبال “دوريليوم”، انقض عليهم الرماة السلاجقة من كل جانب، بينما كان فرسان ركن الدين يهاجمون مقدمة الجيش. كانت مذبحة مروعة، حيث تم إبادة معظم الجيش الألماني. نجا كونراد الثالث بصعوبة مع حفنة من رجاله، وفروا إلى الجيش الفرنسي، حاملين معهم أخبار الهزيمة المذلة. كمين للجيش الفرنسيلم يكتف ركن الدين مسعود بهذا النصر الساحق، بل توجه بجيشه لملاقاة الجيش الفرنسي الذي كان يتقدم ببطء. تعلم لويس السابع من أخطاء كونراد، وحاول أن يكون أكثر حذراً، لكنه لم يكن مستعدًا للكمين الذي أعده له البطل المسلم.عندما وصل الجيش الفرنسي إلى بلدة “إزنيق”، حاصرهم ركن الدين مسعود وبدأ في قصفهم بالسهام. لم يتمكن الفرنسيون من الصمود، وحاولوا الهرب، لكنهم وجدوا أنفسهم محاصرين من كل جانب. في خطوة يائسة، أمر لويس السابع جيشه بالخروج دفعة واحدة، في محاولة لكسر الحصار، لكن هذه المحاولة باءت بالفشل، وأدت إلى مقتل نصف الجيش الفرنسي وأربعة من أمرائه. نهاية الحملة الصليبية فر لويس السابع مع من تبقى من جيشه إلى أنطاكية، حيث استقبلهم السكان بسخرية وازدراء. كانت الهزيمة قاسية ومذلة، وفقدت الحملة الصليبية الثانية كل زخمها. حاول الصليبيون بعد ذلك مهاجمة دمشق، لكنهم فشلوا فشلاً ذريعاً، وعادوا إلى أوروبا يجرون أذيال الخيبة والعار. هكذا، انتهت الحملة الصليبية الثانية التي قادها أعظم ملوك أوروبا بهزيمة نكراء، بفضل الله ثم بفضل حنكة وشجاعة السلطان ركن الدين مسعود، الذي تمكن بجيش صغير من سحق جيوش أوروبا مجتمعة، وتلقينهم درسًا لن ينسوه. يظل ركن الدين مسعود بطلاً منسياً في تاريخنا، على الرغم من أن انتصاراته كانت حاسمة في حماية العالم الإسلامي من خطر الحملات الصليبية.
لطالما شكَّلت آراءُ المفكِّر العربي الكبير عبدُ الرَّحمن بن خلدون حول طبائع الأمم والشعوب، وخاصَّة العرب، مادَّةً خصبةً للجدل والتحليل. ففي مقدمته الشهيرة، قدَّم ابن خلدون رؤًى عميقةً حول العصبيَّة، والتوحُّش، وطبيعة الملك، وتأثير الدِّين على المجتمعات… مع تصاعد الأحداث في المنطقة العربيَّة، وتحديدًا الصراع العربي ـ الإسرائيلي الذي بلغ ذروته في المجازر التي تشهدها غزَّة اليوم، يبرز تساؤل مُلحّ: هل يمكن لآراء ابن خلدون أن تقدِّم لنا إطارًا لفهم المواقف العربيَّة المتضاربة؟ وهل صفة “الخيانة” يمكن أن تُسقَط على مواقف بعض الأنظمة العربيَّة في لحظات تاريخيَّة حاسمة؟ التوحش والعصبيَّة وتأثير الدِّين لم يتناول ابن خلدون في مقدمته صفة “الخيانة” بشكل مباشر كسمة متأصِّلة في العرب، بل ركَّز على تحليل طبائعهم وسلوكهم الاجتماعي والسياسي من منظور أعمق. يمكن تلخيص رؤيته للعرب في فئتين رئيسيتين: وصف ابن خلدون هذه الفئة بأنَّها: “أبعدُ الأمم عن سياسة الملك”، ويَعزو ذلك إلى عوامل متأصِّلة في طبيعتهم البدويَّة: التوحُّش: يرى ابن خلدون أنَّ العرب، بحكم طبيعة حياتهم في الصحراء، يتَّسمون بالتوحُّش، وهو ما يعني عدم انقيادهم للسُّلطة المركزيَّة، وصعوبة خضوعهم للحكم. هذا التوحش يجعلهم يميلون إلى الفوضى وعدم الاستقرار، ويهدمون العمران بدلًا من بنائه. فالعرب، في نظره، “إذا تغلَّبوا على أوطانٍ أسرع إليها الخراب”، لأنَّهم لا يميلون إلى الاستقرار والبناء، بل إلى النهب والتخريب. حبُّ الرِّياسة والأنفة: يتميَّز عرب البداوة بحبٍّ شديد للرِّياسة والأنفة، ممَّا يجعلهم: “منافسين في الرياسة، وقلَّ أن يُسلِّم أحدٌ منهم الأمر لغيره ولو كان أباه أو أخاه أو كبير عشيرته، إلا في الأقل وعلى كُرهٍ من أجل الحياء”. هذا التنافس المستمر يؤدِّي إلى تعدُّد الحكَّام والأمراء، واختلاف الأيدي على الرعيَّة، ممَّا يُفسد العمران ويُنقِصه. العصبيَّة: تُعتبر العصبيَّة من أهم المفاهيم الخلدونيَّة، وهي تعني التضامن والولاء القبلي أو العائلي. يرى ابن خلدون أنَّ العصبيَّة هي أساس قيام الدول والممالك، ولكنها في الوقت نفسه يمكن أن تكون سببًا في سقوطها عندما تتحوَّل إلى صراعات داخليَّة بين الفروع المختلفة للعصبيَّة الواحدة. يتميَّز عرب البداوة بحبٍّ شديد للرِّياسة والأنفة، ممَّا يجعلهم: “منافسين في الرياسة، وقلَّ أن يُسلِّم أحدٌ منهم الأمر لغيره ولو كان أباه أو أخاه أو كبير عشيرته العرب بعد الإسلام يقدِّم ابن خلدون رؤيةً مختلفةً للعرب بعد ظهور الإسلام. فالدِّين، في نظره، يلعب دورًا محوريًّا في تهذيب طباع العرب وتوجيه طاقتهم نحو البناء والتعمير.يرى ابن خلدون أن العرب: “لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينيَّة من نبوَّة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة”. فالإسلام، بما يحمله من قيم ومبادئ، هذَّب طباعهم المتوحِّشة، ووحَّد عصبيتهم المتفرِّقة، ووجَّهها نحو هدف أسمى، وهو نشر الدعوة وبناء الحضارة. وهذا ما يُفسِّر، في رأيه، الفتوحات العظيمة التي قام بها العرب بعد الإسلام، وإقامتهم للدول والممالك، وبنائهم للحضارة. ولم يصف ابن خلدون العرب بـ”الخيانة” كصفة متأصِّلة، بل ركَّز على تحليل سلوكهم الاجتماعي والسياسي بناءً على ظروف حياتهم (بداوة أو حضارة) وتأثير الدِّين عليهم. فـ”التوحش” و”حبُّ الرِّياسة” و”العصبيَّة” هي الصفات التي تناولها في سياق تحليل قيام وسقوط الدول. النكبة كانت حرب 1948 أوَّل مواجهة عسكريَّة واسعة النطاق بين الدول العربيَّة الوليدة وإسرائيل. شاركت فيها جيوش من مصر، سوريا، الأردن، لبنان، والعراق. ورغم أن الهدف المعلن كان منع قيام الدولة اليهوديَّة وحماية الأراضي الفلسطينيَّة، إلَّا أن التنسيق بين الجيوش العربيَّة كان ضعيفًا، وكانت هناك خلافات حول القيادة والأهداف. انتهت الحرب بهزيمة الجيوش العربيَّة وتوسُّع إسرائيل، وتهجير مئات الآلاف من الفلسطينيين.يمكن تفسير هذا التشرذم في القيادة والأهداف، جزئيًّا، بـ”حبِّ الرياسة والأنفة” الذي تحدَّث عنه ابن خلدون، حيث إنَّ عدم الانقياد لسلطة موحَّدة يمكن أن يؤدِّي إلى الفشل حتَّى في مواجهة عدوٍّ مشترك. النكسة كانت حرب 1967 كارثة على الجيوش العربيَّة، حيث شنَّت إسرائيل هجومًا مفاجئًا واحتلَّت خلال أيَّام قليلة الضفَّة الغربيَّة، قطاع غزَّة، مرتفعات الجولان، وشبه جزيرة سيناء. هذه الهزيمة السريعة كشفت عن ضعف الأنظمة العسكريَّة العربيَّة، وعدم جاهزيَّتها، بالإضافة إلى غياب التنسيق الفعَّال. ورغم الشعارات القوميَّة التي كانت سائدة، إلَّا أن الواقع أظهر أن “العصبيَّة” القبليَّة أو القطريَّة كانت لا تزال أقوى من العصبيَّة القوميَّة الجامعة، ممَّا أثَّر على الأداء العسكري والسياسي. حرب أكتوبر 1973 تُعتبر حرب 1973 نقطة تحوُّل في الصراع، حيث شنَّت مصر وسوريا هجومًا مفاجئًا على إسرائيل وحقَّقتا نجاحات أوليَّة. أظهرت هذه الحرب قدرة الجيوش العربيَّة على التخطيط والتنفيذ، وحقَّقت بعض المكاسب العسكريَّة والنفسيَّة. ورغم أنَّها لم تُؤدِّ إلى استعادة كامل الأراضي المحتلَّة، إلَّا أنَّها مهَّدت الطريق لمفاوضات السلام.يمكن رؤية هذه الحرب كنموذج لتأثير “الصبغة الدينيَّة” و”العصبيَّة” الموجَّهة نحو هدف مشترك، حيث إنَّ الإعداد الجيِّد والتنسيق النسبي، بالإضافة إلى الروح المعنويَّة العالية، ساهمت في تحقيق هذه النجاحات. اتفاقيَّات السلام بعد حرب 1973، بدأت بعض الدول العربيَّة في التوجُّه نحو السلام مع إسرائيل، حيث وقَّعت مصر معاهدة سلام عام 1979، تلتها الأردن عام 1994. كما أدَّت اتفاقيَّات أوسلو إلى إنشاء السلطة الوطنيَّة الفلسطينيَّة.هذه الاتفاقيَّات، وإن كانت تهدف إلى إنهاء الصراع، إلَّا أنَّها أدَّت إلى انقسامات داخل الصف العربي، حيث اعتبرها البعض “خيانة” للقضيَّة الفلسطينيَّة، بينما رآها آخرون ضرورة واقعيَّة. هذا التباين في المواقف يعكس مدى تعقيد “العصبيَّة” العربيَّة، وكيف يمكن أن تتشكَّل وتتغيَّر الولاءات بناءً على المصالح السياسيَّة والاقتصاديَّة. هل تتكرَّر “الطبائع الخلدونيَّة”؟ تشهد غزَّة اليوم مجازر مروِّعة، وقصفًا مكثَّفًا، وحصارًا خانقًا، أدَّى إلى كارثة إنسانيَّة غير مسبوقة، ومجاعة في بعض المناطق. وفي ظل هذه الظروف، يبرز الموقف العربي الرسمي والشعبي، والذي يمكن تحليله في ضوء ما سبق من آراء ابن خلدون حول طبائع العرب. شجب وتنديد وواقعيَّة سياسيَّة تميَّز الموقف الرسمي العربي من العدوان على غزَّة بـ”المحتشم والضعيف”، واقتصر في الغالب على الشجب والتنديد والبيانات الفضفاضة. ورغم توالي الإدانات الدوليَّة للمجازر، إلَّا أنَّ التحركات العربيَّة الرسميَّة بقيت محدودة. يمكن تفسير هذا الموقف بعدَّة عوامل: المصالح القطريَّة: العديد من الدول العربيَّة تُعطي الأولويَّة لمصالحها الوطنيَّة، وعلاقاتها الدوليَّة، واستقرارها الداخلي، ممَّا يجعلها تتجنَّب المواجهة المباشرة مع إسرائيل أو الدول الداعمة لها. هذا يعكس “حبَّ الرياسة” و”الأنفة” على المستوى القطري، حيث تُغلَّب مصالح الدولة الفرديَّة على المصلحة الجماعيَّة للأمَّة. غياب العصبيَّة الجامعة: رغم وجود جامعة الدول العربيَّة، إلَّا أنَّ “العصبيَّة” الجامعة التي تحدَّث عنها ابن خلدون، والتي توحِّد الصفوف وتدفع للعمل المشترك، تبدو غائبة أو ضعيفة في مواجهة الأزمات الكبرى. فالخلافات بين الدول العربيَّة، وتضارب المصالح، يمنع تشكيل موقف عربي موحَّد وقوي. الواقعيَّة السياسيَّة: يرى البعض أنَّ الموقف العربي هو نتاج واقعيَّة سياسيَّة، حيث تدرك هذه الدول موازين القوى الإقليميَّة والدوليَّة، وتُفضِّل عدم الدخول في مواجهات قد تؤثِّر على استقرارها أو مصالحها. غضب وتضامن على النقيض من الموقف الرسمي، شهد الشارع العربي غضبًا وتضامنًا واسعًا مع غزَّة، حيث خرجت مظاهرات حاشدة في العديد من العواصم والمدن العربيَّة