يقف لبنان اليوم على مُفترقِ طُرُقٍ حاسم، فبعدَ حربِ 2024 المُدمِّرة التي أضعفت “حزب الله” بشكلٍ غير مسبوق، وفي ظلِّ الضغوط الدوليّة المتزايدة لنزع سلاح الجماعات المسلّحة، تُطرَح تساؤلاتٌ جوهريّة حول إمكانيّة تطبيق التجارب التاريخيّة الناجحة في تفكيك الميليشيات على الحالة اللبنانيّة المُعقّدة نجحت دولٌ عديدة عبر التاريخ الحديث في تفكيك ميليشياتها المسلّحة والانتقال نحو سلامٍ مُستدام. تُقدِّم هذه التجارب دروسًا قيّمة حول الآليّات والاستراتيجيات التي يمكن أن تُساعِد في فَهم إمكانيّة وشروط نجاح عمليّة مماثلة في لبنان. برامج نزع السلاح (DDR) تفكيك الميليشيات العسكريّة ليس مجرّد عمليّة تقنيّة لجَمع الأسلحة، بل هو عمليّة مُعقَّدة ومتعدّدة الأبعاد تتطلّب فَهمًا عميقًا للسياقات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة التي نشأت فيها هذه الجماعات. لقد طوّر المجتمع الدولي على مدى العقود الماضية إطارًا شاملًا لهذه العمليّة يُعرَف ببرامج نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج (DDR). تتألّف المكوّنات الثلاثة للبرامج من: نزع السلاح (Disarmament): يشمل الجمع الآمن والمُراقَب للأسلحة من المقاتلين والمدنيّين، ويتطلّب بناء الثقة وضمان الأمان. التسريح (Demobilization): يتضمّن التسريح الرسمي للمقاتلين من الهياكل العسكريّة وتوفير الدعم الانتقالي لهم ولأسرهم، ويُمثِّل نقطة “اللاعودة” في عمليّة التحوّل من الحرب إلى السلام. إعادة الإدماج (Reintegration): وهي العمليّة الأطول والأكثر تعقيدًا، حيث يتمّ إدماج المقاتلين السابقين في الحياة المدنيّة من خلال برامج التدريب المهني والتعليم وخلق فُرَص العمل، بالإضافة إلى الدعم النفسي والاجتماعي. نشأت برامج DDR في أوائل التسعينيّات استجابةً لتحدّيات ما بعد الحرب الباردة، وأظهرت التجارب أن النجاح لا يعتمد فقط على الجوانب التقنيّة، بل على فهمٍ عميقٍ للدوافع التي تُحرِّك المقاتلين، وأهميّة الشموليّة والعدالة في توزيع المنافع، وضرورة إشراك المجتمعات المحليّة. تتطلّب هذه اللحظة التاريخيّة قيادة حكيمة، وصبرًا استراتيجيًا، والتزامًا جماعيًا بتحقيق السلام والاستقرار الدائمين في لبنان والمنطقة تجارب ناجحة أيرلندا الشماليّة (1994-1998) تُعَدّ تجربة أيرلندا الشماليّة من أنجح قصص تفكيك الميليشيات. فبعد ثلاثة عقودٍ من الصراع الدموي بين الجيش الجمهوري الأيرلندي (IRA) والجماعات الموالية، نجحت عمليّة السلام في تحويل المقاتلين إلى سياسيّين. استغرقت المفاوضات أربع سنوات، وتُوِّجت باتفاق “الجمعة العظيمة” عام 1998، الذي وضع الأسس لهذا التحوّل. تمّ إنشاء “اللجنة الدوليّة المستقلّة لنزع السلاح” للإشراف على عمليّة تسليم الأسلحة وتدميرها، وكانت العمليّة طوعيّة وتدريجيّة، ما ساعد على بناء الثقة. عوامل النجاح شملت الإرادة السياسيّة الحقيقيّة من جميع الأطراف، والدور الفعّال للوسطاء الدوليين (خاصّة الولايات المتحدة وبريطانيا وأيرلندا)، وإدماج الجماعات المسلّحة في العمليّة السياسيّة عبر أحزابٍ سياسيّة، وتوفير ضمانات أمنيّة للمقاتلين السابقين، والتأييد الشعبي الواسع لعمليّة السلام. كولومبيا (2016) تُمثِّل تجربة كولومبيا مع جماعة “القوّات المسلّحة الثوريّة الكولومبيّة” (فارك) إنجازًا استثنائيًا في تفكيك واحدة من أقوى وأقدم الجماعات المسلّحة في أميركا اللاتينيّة. بعد أكثر من خمسة عقودٍ من الصراع، نجحت كولومبيا في تحويل 13,000 مقاتل من فارك إلى الحياة المدنيّة. بدأت المفاوضات الجادّة عام 2010 في هافانا بوساطة كوبية ونرويجية، واستغرقت ست سنوات من المحادثات المُعقّدة. في لحظة رمزيّة قويّة، تمّ تحويل جزء من أسلحة فارك إلى أقلام استُخدِمت في توقيع اتفاق السلام، في إشارة إلى التحوّل من العنف إلى السياسة. ورغم نجاح التسريح، واجهت العمليّة تحدّيات، منها اغتيال أكثر من 300 من قادة فارك السابقين، لكنّها نجحت في تسريح 76,442 شخصًا من مختلف الجماعات المسلّحة على مدى ثلاثة عقود. موزمبيق (1992-1994) بعد 16 عامًا من الحرب الأهليّة، نجحت موزمبيق في تفكيك ميليشيا “رينامو” عبر اتفاق السلام في روما عام 1992، بوساطة كنسيّة وإيطاليّة. تضمّن الاتفاق وقف إطلاق النار، وتسريح القوّات، وإجراء انتخابات ديمقراطيّة، ودمج مقاتلين في الجيش الوطني. شمل البرنامج تسريح 76,000 مقاتل، وتوفير مخصّصات وبرامج تدريب مهني، ودمج 30,000 مقاتل في الجيش. جنوب أفريقيا (1990-1994) تميّزت تجربة جنوب أفريقيا بكونها لم تقتصر على تفكيك الميليشيات بل على تفكيك نظام الفصل العنصري بأكمله. تطلّب ذلك دمج قوّات “المؤتمر الوطني الأفريقي” المسلّحة في الجيش الوطني الجديد. عوامل النجاح شملت القيادة الاستثنائيّة (نيلسون مانديلا ودي كليرك)، وآليّة العدالة الانتقاليّة (لجنة الحقيقة والمصالحة)، والضغط الدولي، والإرادة الشعبيّة الواسعة للتغيير. هذه التجارب تُظهر أن عوامل النجاح الأساسيّة هي: الإرادة السياسيّة، والدعم الدولي، والبدائل الاقتصاديّة، والضمانات الأمنيّة، والمشاركة السياسيّة. التحدّي الأكبر ليس “حزب الله” مجرّد ميليشيا عاديّة، بل هو كيان معقّد يجمع بين الأبعاد العسكريّة والسياسيّة والاجتماعيّة والدينيّة. تأسّس الحزب عام 1985 في ظلّ ظروف الحرب الأهليّة والاحتلال الإسرائيلي للبنان، كحركة مقاومة شيعيّة مدعومة من إيران. على مدى أربعة عقود، تطوّر حزب الله من مجموعة صغيرة من المقاتلين إلى “دولة داخل الدولة” تضمّ جناحًا عسكريًا قويًّا، وحزبًا سياسيًّا، وشبكة واسعة من الخدمات الاجتماعيّة، ومؤسّسات إعلاميّة وماليّة، وقاعدة شعبيّة واسعة. ما يميّز الحزب عن معظم الميليشيات الأخرى هو عقيدته الدينيّة العميقة، ودعمه المستمر من إيران، وتجذّره المجتمعي، وتنوّعه الوظيفي، وخبرته القتاليّة في صراعات إقليميّة متعدّدة. نقطة تحوّل تاريخيّة شكّلت حرب 2024 نقطة تحوّل جذرية في تاريخ حزب الله، حيث تعرّض لضربات قاسية لم يشهد مثلها منذ تأسيسه. بدأت الحرب بعمليّات استخباراتيّة معقّدة أدّت إلى اغتيال معظم قياداته وتدمير مراكز القيادة والسيطرة. كما شكّل مقتل الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، في 27 سبتمبر 2024، صدمة كبرى للحزب وقاعدته الشعبيّة. أدّت الحرب إلى خسائر عسكريّة فادحة، منها تدمير جزء كبير من الترسانة الصاروخية، وفقدان مناطق نفوذ تقليديّة، وتضرّر شبكة الأنفاق، وفقدان المئات من المقاتلين. سياسيًا، أضعفت الحرب موقف حزب الله، وتراجعت شعبيّته، وزادت الضغوط الدوليّة لنزع سلاحه، وتراجع نفوذه في القرار السياسي اللبناني. دخل اتفاق وقف إطلاق النار، الذي بدأ تنفيذه في 27 نوفمبر 2024، حيز التنفيذ، ووضع قيودًا جديدة على الحزب. وفي أغسطس 2025، كشفت تسريبات عن خطة أمريكيّة شاملة لنزع سلاح حزب الله بحلول نهاية العام، تبنّتها الحكومة اللبنانية رسميًا. أعلن الحزب رفضه القاطع لأي مساس بسلاحه، لكن قدرته على المقاومة الفعّالة تراجعت بشكل كبير. يمرّ حزب الله بمرحلة إعادة تشكيل صعبة بعد فقدان معظم قياداته التاريخيّة، وتواجه القيادات الجديدة تحديات جسيمة. كما يتأثّر موقع الحزب في “محور المقاومة” الإيراني بالتطوّرات الإقليميّة، حيث تواجه إيران ضغوطًا متزايدة، وتتغيّر المعادلات الإقليميّة مع التطبيع العربي-الإسرائيلي، وتواجه سوريا ضغوطًا لقطع خطوط الإمداد للحزب. يضع هذا الوضع الجديد حزب الله في موقف غير مسبوق: ضعيف عسكريًا، ومعزول سياسيًا، ومضغوط دوليًا. قد تخلق هذه الظروف فرصة تاريخية لتفكيك آخر الميليشيات الكبرى في المنطقة. لكنّ النجاح يتطلّب استراتيجية محكمة تتعلّم من دروس التجارب السابقة. إسقاط التجارب لفهم إمكانيّة تطبيق التجارب التاريخيّة على حالة حزب الله، يجب مقارنة السياقات والظروف. هناك أوجه شبه مع التجارب الناجحة، فحزب الله متعب من الحروب المتكرّرة (مثل الجيش الجمهوري الأيرلندي)، ويواجه ضغطًا دوليًا قويًا، وتراجعًا في الدعم الشعبي، ووجود إطار سياسي للمشاركة. كما يشبه كولومبيا في ضعفه العسكري بعد حرب 2024، ووجود حوافز اقتصاديّة لإعادة الإعمار، وتغيّرات إقليميّة تُشبه تراجع
في قلب بيروت، وتحديداً في القصر الجمهوري في بعبدا، ستشهد جلسة مجلس الوزراء المقررة اليوم الثلاثاء لحظة تاريخية قد تعيد تشكيل المشهد السياسي اللبناني والإقليمي برمته. للمرة الأولى منذ تأسيس حزب الله في ثمانينيات القرن الماضي، ستناقش الحكومة اللبنانية رسمياً وعلنياً موضوع “حصرية السلاح بيد الدولة”، في خطوة تمثل تحدياً مباشراً لأقوى فصيل مسلح في البلاد أتي هذه الجلسة تحت ضغوط دولية وإقليمية غير مسبوقة، وتطرح أسئلة جوهرية حول مستقبل لبنان ودوره في المنطقة. فهل ستنجح الدولة اللبنانية في استعادة احتكار السلاح الذي فقدته منذ عقود؟ وما هي التداعيات المحتملة لهذه الخطوة على الاستقرار الداخلي والتوازنات الإقليمية؟بحسب المعطيات المتوفرة، فإن هذه الجلسة ليست مجرد اجتماع روتيني، بل هي نقطة تحول حقيقية في مسار الدولة اللبنانية. فبعد سنوات من التجاهل أو التأجيل، يبدو أن الظروف الداخلية والخارجية قد تضافرت لتضع ملف سلاح حزب الله كأولوية، مما يجعل من هذا الاستحقاق اختباراً حقيقياً لقدرة النظام السياسي اللبناني على اتخاذ قرارات مصيرية. عودة إلى الوراء لفهم الأزمة الحالية، لا بد من العودة إلى جذورها التاريخية التي تمتد إلى فترة الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990). خلال تلك الحقبة، تفككت الدولة عملياً، وبرزت ميليشيات مسلحة متعددة. في هذا السياق، وُلد حزب الله عام 1985 كحركة مقاومة شيعية ضد الاحتلال الإسرائيلي للجنوب اللبناني، مستفيداً من الدعم الإيراني والسوري.اتفاق الطائف، الذي وُقع عام 1989، نص بوضوح على ضرورة حل الميليشيات وتسليم أسلحتها للدولة، مع استثناء مهم: المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي. هذا الاستثناء خلق منطقة رمادية استغلها حزب الله لتبرير احتفاظه بسلاحه حتى بعد الانسحاب الإسرائيلي عام 2000.بعد حرب تموز 2006، أصدر مجلس الأمن الدولي القرار 1701، الذي دعا إلى “نزع سلاح كل الجماعات المسلحة في لبنان، حتى لا تكون هناك أي أسلحة أو سلطة في لبنان عدا ما يخص الدولة اللبنانية”. لكن تطبيق هذا القرار واجه عقبات، أبرزها رفض حزب الله تسليم سلاحه وعجز الدولة عن فرض سلطتها. تحديات قانونية وسياسية من الناحية القانونية، اعتمد حزب الله على تفسير مختلف للنصوص، معتبراً سلاحه “مقاومة” وليس “ميليشيا”. أما سياسياً، فقد ارتبط ملف السلاح بالتوازنات الطائفية الحساسة، حيث يثير نزع سلاح حزب الله مخاوف لدى الطائفة الشيعية من فقدان “قوة الردع” التي تحميها.مع تشكيل الحكومة الحالية برئاسة نواف سلام، تضمن البيان الوزاري نصاً واضحاً حول “بسط سلطة الدولة على كل أراضيها”، وهو ما يمثل التزاماً دستورياً جديداً شارك فيه نواب حزب الله أنفسهم. ضغوط دولية وتغيير في الاستراتيجية تمثل الضغوط الأمريكية العامل الخارجي الأكثر تأثيراً، حيث قدم المبعوث الأمريكي توماس براك ورقة تتضمن مطالب واضحة، أبرزها سحب سلاح حزب الله. من جهتها، تتعامل إسرائيل مع الملف من منظور أمني بحت، وتعتبر نزع السلاح شرطاً أساسياً لأي تطبيع.تلعب السعودية دوراً محورياً في الضغط الدبلوماسي لتقليل النفوذ الإيراني، عبر تقديم حوافز اقتصادية ودعم مؤسسات الدولة. في المقابل، تقف إيران، الداعم الرئيسي لحزب الله، رافضةً أي تنازلات بشأن سلاح الحزب، الذي تعتبره جزءاً لا يتجزأ من استراتيجيتها الإقليمية. حزب الله ليس مجرد ميليشيا مسلحة، بل شبكة معقدة من المؤسسات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. نزع السلاح يتطلب التعامل مع هذه الشبكة المعقدة دون زعزعة الاستقرار الاجتماعي تغيير في المعادلة الداخليةعلى الصعيد الداخلي، يشهد المشهد السياسي تغييرات مهمة:فقدان الثلث المعطل: لم يعد بإمكان حزب الله وحلفائه عرقلة قرارات الحكومة.الإجماع الرئاسي-الحكومي: هناك توافق نادر بين رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء حول ضرورة حصرية السلاح.الضغط الشعبي: تتزايد الأصوات المطالبة بحصرية السلاح في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة.في مواجهة هذه الضغوط، يتبنى حزب الله استراتيجية تجمع بين الرفض القاطع والمناورة السياسية، مؤكداً أن سلاحه موجه لمواجهة إسرائيل فقط. سيناريوهات محتملةتسود أجواء من الترقب والتوتر، وتتنوع التوقعات حول مخرجات الجلسة بين عدة سيناريوهات:السيناريو الأول (الأكثر احتمالاً): الإقرار المبدئي مع الإحالة. يتضمن هذا السيناريو إقرار مبدأ حصرية السلاح وإحالة الملف إلى المجلس الأعلى للدفاع لوضع برنامج زمني للتنفيذ، مما يرضي الضغوط الدولية ويتجنب المواجهة المباشرة.السيناريو الثاني: القرار الحاسم بجدول زمني. وهو قرار يمثل استجابة كاملة للمطالب الدولية، لكنه يحمل مخاطر مواجهة مباشرة مع حزب الله وزعزعة الاستقرار الداخلي.السيناريو الثالث (الأسوأ): التأجيل أو الفشل. سيؤدي هذا السيناريو إلى فقدان الثقة الدولية وتعميق الأزمة السياسية والاقتصادية.تحديات التنفيذ وإعادة تشكيل الخريطة الجيوسياسيةحتى لو اتُخذ القرار، فإن تنفيذه يواجه تحديات عملية، أبرزها تفوق القدرة العسكرية لحزب الله على الجيش اللبناني، والتعقيدات الجغرافية، وتداخل الحزب مع مؤسسات الدولة.إن نزع سلاح حزب الله، إذا تحقق، سيكون له تأثير عميق على “محور المقاومة” الذي تقوده إيران، وسيضعف موقعها الاستراتيجي. بالنسبة لإسرائيل، سيمثل ذلك فرصة نادرة لتحقيق أمنها على الحدود الشمالية. أما عربياً، فسيعزز هذا التطور موقع السعودية ويقلل من النفوذ الإيراني. تغيير في المعادلةعلى الصعيد الداخلي، تشهد المعادلة السياسية اللبنانية تغييرات مهمة تصب في اتجاه الضغط على حزب الله. أبرز هذه التغييرات:أولاً، فقدان الثلث المعطل: فقد حزب الله وحلفاؤه “الثلث المعطل” داخل الحكومة، مما يعني أن القرارات الحكومية يمكن أن تمر دون موافقتهم الكاملة. هذا التغيير في التوازن السياسي يقلل من قدرة الحزب على عرقلة القرارات التي لا تناسبه.ثانياً، الإجماع الرئاسي-الحكومي: يشهد لبنان حالة نادرة من التوافق بين رئيس الجمهورية جوزيف عون ورئيس الوزراء نواف سلام حول ضرورة حصرية السلاح. هذا التوافق يخلق زخماً سياسياً قوياً لدفع هذا الملف.ثالثاً، الضغط الشعبي: تتزايد الأصوات الشعبية المطالبة بحصرية السلاح، خاصة في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة والحاجة للدعم الدولي. كثير من اللبنانيين يرون في نزع السلاح شرطاً ضرورياً لاستعادة الثقة الدولية والحصول على المساعدات. التهديد والفُرصة تُعدّ إسرائيل حزبَ الله التهديدَ الأمنيَّ الأكبر على حدودها الشمالية، وتتعامل مع ملف نزع السلاح من منظور أمنيٍّ بحت. الموقف الإسرائيلي واضحٌ ومباشر: نزع سلاح حزب الله هو شرطٌ أساسيٌّ لأيّ تطبيعٍ في العلاقات مع لبنان، ولأيّ دعمٍ دوليٍّ للبلاد. لا تبني إسرائيل سياساتها على انتظار التنازلات اللبنانية، بل “تستثمر بقاء السلاح كذريعةٍ للضغط والضربات”. وهذا يعني أنّ إسرائيل تستخدم ملف السلاح كأداةِ ضغطٍ مستمرة، مع التلويح بالعمل العسكريّ في حال عدم تحقيق تقدُّم. ويكمن التحدّي الإسرائيلي في عدم تقديم ضماناتٍ واضحةٍ بعدم الاعتداء على لبنان في حال نُزِع السلاح. هذا الغموض يُغذّي مخاوف اللبنانيين من أن يؤدّي نزعُ السلاح إلى ترك البلاد عرضةً للعدوان الإسرائيلي دون وسائل دفاعٍ كافية. المقاومة والمُناورة تقف إيران، الداعمُ الرئيسيّ لحزب الله، في الطرف المقابل من معادلة الضغوط. الموقف الإيراني واضح: رفضُ أيّ تنازلاتٍ بشأن سلاح حزب الله، اعتباراً لدوره في “محور المقاومة” ضدّ إسرائيل والنفوذ الأمريكي في المنطقة. تشير التحليلات إلى أنّ “إيران لم تُعطِ موافقتها لتسليم سلاح حزب الله”، وأنّها “تسعى للحفاظ على مصالحها في لبنان عبر الضغط على نبيه برّي”. هذا الموقف الإيراني يضع حزب الله في موقفٍ صعب، إذ يواجه ضغوطاً متزايدة من جهة، ومقاومةً من حليفه
لطالما كان ملفُّ سلاحِ حزبِ اللهِ اللبناني نقطةَ خلافٍ رئيسيّة في المشهدِ السياسيِّ اللبنانيِّ والإقليميِّ والدوليّ. فمنذ تأسيسه في أوائلِ الثمانينيّات، لعب الحزبُ دورًا محوريًّا في مقاومةِ الاحتلالِ الإسرائيلي، لكنَّ ترسانتَهُ العسكريّة أصبحت أيضًا مصدرًا للتوتّراتِ الداخليّةِ والخارجيّة مع تزايدِ الضغوطِ الإقليميّة والدوليّة لنزعِ سلاحِه، يبرزُ تساؤلٌ جوهريّ: ماذا لو لم يُسلِّم حزبُ الله سلاحَه؟ وما هي التوقّعاتُ والتداعياتُ المحتملةُ على الصعيدَين المحليِّ والدوليّ؟ السيناريوهاتُ المحتملةُ والتداعياتُ المترتبةُ على استمرارِ حزبِ الله في الاحتفاظِ بسلاحه كثيرةٌ ومتشعّبة، من ناحيةِ الأبعادِ السياسيّة والأمنيّة والاقتصاديّة على لبنان والمنطقة. انقسامٌ سياسيٌّ وتوتّرات سيؤدّي احتفاظُ حزبِ اللهِ بسلاحه خارجَ إطارِ الدولةِ اللبنانيّة حتمًا إلى تعميقِ الانقساماتِ السياسيّة القائمة في لبنان. فالقوى السياسيّة المناهضةُ للحزب، والتي تُطالِبُ بحصرِ السلاحِ في يدِ الدولة، ستجدُ نفسَها في مواجهةٍ مستمرّة مع حزبِ اللهِ وحلفائِه، ممّا قد يُشِلُّ عملَ المؤسّساتِ الدستوريّة ويُعيقُ اتخاذَ القراراتِ المصيريّة. قد يتطوّرُ هذا الانقسامُ إلى أزماتٍ حكوميّةٍ متكرّرة، ويزيدُ من صعوبةِ عملِ الحكومةِ لمعالجةِ الأزماتِ الاقتصاديّةِ والاجتماعيّة التي يُعاني منها لبنان. على الصعيدِ الأمنيّ، يُمثّلُ سلاحُ حزبِ اللهِ تحدّيًا كبيرًا لسلطةِ الدولة وقدرتِها على بسطِ سيادتِها على كاملِ أراضيها. فوجودُ قوّةٍ عسكريّةٍ موازيةٍ للجيشِ اللبناني يُضعفُ هيبةَ الدولة، ويخلقُ حالةً من عدمِ الاستقرارِ الأمنيّ. وقد يُؤدّي أيُّ احتكاكٍ بين عناصرِ حزبِ اللهِ والقوى الأمنيّةِ اللبنانيّة، أو بين الحزبِ وخصومِه السياسيّين، إلى توتّراتٍ أمنيّة قد تتطوّر إلى اشتباكاتٍ مسلّحة، ممّا يُهدّدُ السِّلمَ الأهليَّ ويُعيدُ إلى الأذهانِ شبحَ الحربِ الأهليّة. من الناحيةِ الاقتصاديّة، فإنَّ عدمَ تسليمِ حزبِ اللهِ لسلاحه سيُفاقمُ الأزمةَ الاقتصاديّة في لبنان. فالمجتمعُ الدوليّ والمؤسّساتُ الماليّةُ الدوليّةُ تربطُ تقديمَ المساعداتِ للبنان بضرورةِ إجراءِ إصلاحاتٍ هيكليّة، من ضمنِها معالجةُ قضيّةِ السلاحِ غيرِ الشرعيّ. وبالتالي، فإنَّ استمرارَ الوضعِ الراهن سيُعيقُ حصولَ لبنان على الدعمِ الماليِّ الذي هو بأمسِّ الحاجةِ إليه، ممّا سيزيدُ من تدهورِ قيمةِ الليرةِ اللبنانيّة، ويرفعُ معدّلاتِ التضخّمِ والبطالة، ويُفاقمُ من معاناةِ المواطنين اللبنانيّين. يُمثّلُ سلاحُ حزبِ اللهِ تحدّيًا كبيرًا لسلطةِ الدولة وقدرتِها على بسطِ سيادتِها على كاملِ أراضيها. فوجودُ قوّةٍ عسكريّةٍ موازيةٍ للجيشِ اللبناني يُضعفُ هيبةَ الدولة، ويخلقُ حالةً من عدمِ الاستقرارِ الأمنيّ توتّراتٌ إقليميّةٌ وعزلةٌ دوليّة على الصعيدِ الدوليّ، فإنَّ عدمَ تسليمِ حزبِ اللهِ لسلاحه سيُؤدّي إلى استمرارِ التوتّراتِ الإقليميّة، خاصّةً مع إسرائيل. فالحزبُ يعتبرُ نفسَه جزءًا من “محورِ المقاومة” المدعومِ من إيران، وسلاحُه يُمثّلُ ورقةَ ضغطٍ في الصراعِ الإقليميّ. هذا الوضعُ قد يُؤدّي إلى تصعيدٍ عسكريٍّ في أيِّ لحظة، ممّا يُهدّدُ الأمنَ والاستقرارَ في المنطقةِ بأسرِها. وقد رأينا كيف أنَّ أيَّ تصعيدٍ بين حزبِ اللهِ وإسرائيل يُؤثّرُ بشكلٍ مباشرٍ على دولِ الجوار، ويزيدُ من احتماليّةِ نشوبِ صراعٍ أوسع. كما أنَّ استمرارَ حزبِ اللهِ في الاحتفاظِ بسلاحِه سيُعرّضُ لبنان لعزلةٍ دوليّةٍ متزايدة. فالمجتمعُ الدوليّ، وخاصّةً الدولُ الغربيّة، يعتبرُ سلاحَ حزبِ الله تهديدًا للأمنِ الإقليميِّ والدوليّ، ويُطالِبُ بضرورةِ نزعِه. وبالتالي، فإنَّ عدمَ استجابةِ لبنان لهذه المطالبِ قد يُؤدّي إلى فرضِ عقوباتٍ اقتصاديّةٍ وسياسيّةٍ إضافيّة على البلاد، ممّا يزيدُ من معاناتِها، ويحدُّ من قدرتِها على التعاملِ مع الأزماتِ التي تُواجِهُها. هذا الأمرُ سيُؤثّرُ سلبًا على علاقاتِ لبنان مع الدولِ المانحةِ والمؤسّساتِ الدوليّة، ويُقلّلُ من فُرصِ حصولِه على المساعداتِ والاستثماراتِ اللازمةِ لإنعاشِ اقتصادِه. علاوةً على ذلك، فإنَّ عدمَ تسليمِ سلاحِ حزبِ الله يُعقّدُ جهودَ التسويةِ السياسيّة في المنطقة. فالحزبُ يُمثّلُ لاعبًا رئيسيًّا في المشهدِ السياسيِّ اللبنانيِّ والإقليميّ، وسلاحُه يمنحه نفوذًا كبيرًا. وأيُّ محاولةٍ للتوصّلِ إلى حلولٍ سياسيّةٍ للأزماتِ الإقليميّة، مثل الصراعِ الفلسطينيّ الإسرائيليّ أو الأزمةِ السوريّة، ستصطدمُ بواقعِ وجودِ سلاحِ حزبِ الله، ممّا يجعلُ التوصّلَ إلى تسوياتٍ شاملةٍ أمرًا صعبًا للغاية. هذا الوضعُ قد يُؤدّي إلى استمرارِ حالةِ الجمودِ السياسيّ في المنطقة، ويزيدُ من تعقيدِ الأزماتِ القائمة. يمكنُ القولُ إنَّ عدمَ تسليمِ حزبِ اللهِ اللبناني لسلاحِه يحملُ في طيّاتِه تداعياتٍ خطيرةً على المستويَين المحليِّ والدوليّ. فمحليًّا، سيُؤدّي إلى تعميقِ الانقساماتِ السياسيّة، وزيادةِ التوتّراتِ الأمنيّة، وتفاقمِ الأزمةِ الاقتصاديّة. ودوليًّا، سيُؤدّي إلى استمرارِ التوتّراتِ الإقليميّة، وعزلةِ لبنان الدوليّة، وتعقيدِ جهودِ التسويةِ السياسيّة في المنطقة. تتطلّبُ معالجةُ هذه القضيّة حوارًا وطنيًّا شاملًا، ودعمًا دوليًّا، وإرادةً سياسيّةً حقيقيّةً من جميعِ الأطرافِ لتقديمِ مصلحةِ لبنان وشعبِه على أيِّ اعتباراتٍ أُخرى، وصولًا إلى بناءِ دولةٍ قويّةٍ ومستقرّةٍ تتمتّعُ بالسيادةِ الكاملةِ على أراضيها وقرارِها.