في تحوّلٍ استراتيجي، يعيد الاتّحاد الأوروبي تقييم علاقاته مع تركيا، ليس من منطلق تقاربٍ أيديولوجي، بل استجابةً لضروراتٍ أمنيّة وحقائق جيوسياسيّة. فالخوف من الطموحات الروسيّة، وضبابيّة السياسة الأمريكيّة، مقرونَين بالنفوذ التركي المتنامي في ملفّاتٍ تمسّ أمن أوروبا، يجبران القارّة العجوز على تبنّي مقاربةٍ أكثر واقعيّة. لقد ولّت أيّام تهميش أنقرة؛ فاليوم تفرض الحقائق نفسها، وتضع تركيا في قلب معادلة الأمن الأوروبي، كشريكٍ لا يمكن تجاهله في عالمٍ متغيّر. قوّة عسكريّة وموقع استراتيجي تمتلك تركيا ثاني أكبر جيشٍ في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ما يمنحها ثقلاً عسكريّاً يفوق أيّ دولةٍ أوروبيّة داخل الحلف. هذا الثقل، المعزَّز بموقعها الجغرافي، يجعلها حجر زاوية في الأمن الإقليمي. ففي البحر الأسود، لا يقتصر دورها على تطبيق اتّفاقيّة مونترو، بل يمتدّ إلى تزويد الناتو وأوكرانيا بمعلوماتٍ استخباراتيّة بحريّة، مع الحفاظ في الوقت نفسه على قدرتها على الحوار مع موسكو. وفي البحر المتوسّط، البوّابة الجنوبيّة لأوروبا، عزّزت أنقرة نفوذها بما يؤثّر مباشرةً في المصالح الأوروبيّة. وقد أظهرت تركيا قدرةً فريدة على الموازنة بين التزاماتها بالحلف ومصالحها الوطنيّة، وهو ما بات الأوروبيّون ينظرون إليه كميزةٍ استراتيجيّة. ويمتدّ هذا الدور المحوري إلى مكافحة الإرهاب وإدارة ملفّ الهجرة، وهما قضيتان تحتلّان أولويّة قصوى في أمن أوروبا الداخلي، حيث أثبتت تركيا أنّها شريكٌ لا غنى عنه في هذا المجال، بما يمثّل ركيزةً أساسيّة للأمن الأوروبي. من منافس إلى شريك تتجاوز أهميّة تركيا الجانب العسكري لتشمل الصناعات الدفاعيّة، التي أصبحت أوروبا تنظر إليها كمكمّلٍ لإنتاجها، لا كمنافسٍ له. فقد حقّقت شركات الدفاع التركيّة نجاحاً لافتاً، ولا سيّما في مجال الطائرات المسيّرة التي أثبتت فعاليّتها في صراعاتٍ إقليميّة عدّة. هذا النجاح لم يجعل تركيا مورّداً رئيسيّاً للتكنولوجيا المتقدّمة لحلفاء الناتو فحسب، بل فتح الباب أيضاً أمام تعاونٍ صناعيّ أوسع، كما يتجلّى في صفقة طائرات «يوروفايتر تايفون». هذه الصفقة لا تسدّ فجوةً في قدرات القوّات الجويّة التركيّة فحسب، بل تدمج القاعدة الصناعيّة التركيّة بشكلٍ أعمق في المنظومة الدفاعيّة الأوروبيّة، عبر نقل التكنولوجيا والإنتاج المشترك، ما يخلق مصالح متبادلة طويلة الأمد. ويشمل هذا التعاون أيضاً تطوير أنظمةٍ بحريّة وبرّيّة، بما يعزّز قدرة أوروبا على مواجهة التحدّيات الأمنيّة المستقبليّة بصورةٍ جماعيّة. أبعاد اقتصاديّة وأمن الطاقة على الصعيد الاقتصادي، ترتبط أوروبا وتركيا بعلاقاتٍ راسخة لا يمكن فصلها عن الاعتبارات السياسيّة. فقد خلقت اتّفاقيّة الاتّحاد الجمركي لعام 1995 منطقةً اقتصاديّة متكاملة، إذ تجاوز حجم التجارة الثنائيّة 210 مليارات يورو في عام 2024. كما تدير آلاف الشركات الأوروبيّة مصانع في تركيا، مستفيدةً من انخفاض تكاليف الإنتاج وسهولة الوصول إلى الأسواق الأوروبيّة. هذا التكامل الصناعي يخلق حافزاً قويّاً لدى مجتمعات الأعمال الأوروبيّة للحفاظ على علاقاتٍ مستقرّة وبنّاءة مع أنقرة. كما أنّ تحديث الاتّحاد الجمركي ليشمل قطاعاتٍ جديدة، كقطاعي الخدمات والتجارة الرقميّة، من شأنه أن يطلق العنان لإمكاناتٍ اقتصاديّة هائلة للطرفين، ويعزّز النموّ الاقتصادي المشترك. وفي مجال الطاقة، يبرز دور تركيا كممرٍّ حيويّ لأمن الطاقة الأوروبي. فأراضيها تحتضن خطوط أنابيب رئيسيّة تنقل الغاز من بحر قزوين وآسيا الوسطى، ما يساهم مباشرةً في استراتيجيّة أوروبا لتنويع مصادر الإمداد بعيداً عن الهيمنة الروسيّة. ومع طموح أنقرة المشروع للتحوّل إلى مركزٍ إقليميّ للطاقة، تتزايد أهميّتها الاستراتيجيّة لأوروبا، التي تجد في تركيا شريكاً موثوقاً لتحقيق أمن الطاقة على المدى الطويل. إنّ تطوير البنية التحتيّة اللازمة لزيادة قدرة تركيا على تصدير الغاز إلى أوروبا يمثّل استثماراً استراتيجيّاً لكلا الجانبين. انقسامات أوروبيّة على الرغم من هذه المصالح المشتركة، فإنّ الطريق نحو شراكةٍ استراتيجيّة كاملة ليس سهلاً. فالمواقف داخل الاتّحاد الأوروبي متباينة؛ إذ تدفع دول مثل بولندا وإيطاليا وإسبانيا نحو تعميق العلاقات، مدفوعةً بمصالح أمنيّة واقتصاديّة، فيما تتّخذ دول أخرى، كفرنسا واليونان، موقفاً أكثر تحفّظاً، نتيجةً للتنافس الجيوسياسي والنزاعات التاريخيّة. هذا الانقسام الداخلي يعقّد عمليّة صنع القرار في بروكسل، ويجعل من الصعب على الاتّحاد الأوروبي تبنّي سياسةٍ موحّدة تجاه تركيا، كما يُبقي طموح أنقرة بالانضمام إلى الاتّحاد بعيد المنال في الوقت الراهن. وتجاوز هذه الخلافات يتطلّب حواراً صريحاً وبنّاءً، وتركيزاً على المصالح المشتركة التي تفوق نقاط الخلاف. الواقعية السياسية تدخل العلاقة بين أوروبا وتركيا مرحلةً جديدة تتّسم بالواقعيّة السياسيّة البحتة. فالمصالح المشتركة، ولا سيّما في مجالي الأمن والطاقة، أصبحت أقوى من أيّ وقتٍ مضى، وتدفع الطرفين نحو تعاونٍ أعمق. قد لا تتطوّر هذه العلاقة إلى تحالفٍ استراتيجيّ كامل في المدى المنظور، لكن المؤكّد أنّ أوروبا لم تعد قادرة على تهميش تركيا، بل باتت ترى في دمجها ضرورةً لا غنى عنها لضمان أمنها واستقرارها في مواجهة عالمٍ يزداد اضطراباً. إنّ مستقبل هذه الشراكة يعتمد على قدرة الطرفين على إدارة خلافاتهما ببراغماتيّة، والبناء على المصالح المشتركة لتحقيق مستقبلٍ أكثر أمناً وازدهاراً للجميع. إنّها بالفعل شراكة تفرضها ضرورات الواقع، وتتطلّب حكمةً سياسيّة ورؤيةً استراتيجيّة من الجانبين لضمان نجاحها واستمراريّتها.
تُنتج الشركاتُ العالميةُ سنويًّا ملياراتِ القطَعِ من الملابس، أكثر بكثيرٍ ممّا يستهلكه البشرُ على هذا الكوكبِ المُثقَلِ بالأزماتِ والمشاكل. لكن، مَن منّا طرح مرّةً على نفسه هذا السؤال: ماذا يحدث عندما يُصبحُ إنتاجُ الألبسة أسرعَ من الطلبِ عليها؟ وأين تذهبُ كلُّ هذه الملابس الزائدةُ عن الحاجة؟ تُخفي صناعةُ الأزياء اليوم، خلفَ واجهاتِ المتاجرِ البرّاقةِ وعروضِ التخفيضاتِ الجذّابة، قصةً أكثرَ تعقيدًا تتسابقُ فيها الشركاتُ على إنتاجِ كميّاتٍ هائلةٍ من الملابسِ بتكلفةٍ منخفضةٍ وسرعةٍ محمومة، في ما يُعرَف بظاهرة “الموضة السريعة” Fast Fashion. وباتت الشركاتُ تطرحُ مجموعاتٍ جديدةً كلَّ بضعةِ أسابيع، بدلًا من بدايةِ كلِّ موسم، في نموذجٍ مُفرِطٍ في الاستهلاكيّة، قائمٍ على دورةٍ لا تنتهي من الإنتاجِ والشراءِ والبيعِ والإتلاف. أين تذهب كلُّ هذه الملابس؟ في الواقع، تقول الإحصاءاتُ إنَّ نحوَ ثلثِ ما يُنتَج لا يُباعُ أبدًا، وإنّ بعضَ الشركاتِ تعمدُ إلى تخزينهِ مؤقّتًا ومن ثمَّ بيعهِ إلى الأسواقِ الثانوية، فيما بعضها الآخرُ يحرقُه أو يطمُرُه لتجنّبِ بيعهِ بأسعارٍ منخفضةٍ “تُضعِف” من قيمةِ العلامةِ التجارية. ففي عام 2024، بلغت كميّاتُ النفاياتِ من الملابسِ التي يتخلّصُ منها العالم قرابة 120 مليون طنٍّ متري، ومن المتوقّع أن تتجاوزَ هذه الكمية 150 مليون طنٍّ سنويًّا خلال السنواتِ القادمة. أمّا القيمةُ الاقتصاديةُ الخامُّ للمنسوجاتِ غيرِ المسترجَعة (أي التي لا يُعاد تدويرُها) فتُقدَّر بنحو 150 مليار دولارٍ أميركيّ سنويًّا. في عام 2018، اعترفت شركةُ بوربري بحرقِ ما قيمتُه أكثرُ من 28 مليون جنيهٍ إسترليني (أي نحو 37 مليون دولار) من الملابسِ والأكسسواراتِ والعطورِ الجديدةِ غيرِ المباعة، للحفاظِ على “صورتها الفاخرة”، بحسب مقالةٍ لــ “بي بي سي نيوز”. ظهرَ هذا الاعترافُ في تقريرِ الشركةِ السنويّ، وتبيّنَ أنها ليست المرّة الأولى، وأنّ الشركةَ معتادةٌ على اتخاذِ هذا الإجراء. أثار هذا الخبر ردودَ فعلٍ غاضبةً من جماعاتِ حمايةِ البيئةِ والمساهمين والجمهور، في وقتٍ تُتَّهَمُ فيه صناعةُ الأزياء أصلًا بالتلويثِ والإفراطِ في الإنتاج. يُظهِرُ مثلُ هذا الإجراءِ استخفافًا بالاستدامة، وصَفَتْهُ منظمةُ “السلام الأخضر” ومنظماتٌ أخرى بأنّه “رمزٌ لكلّ ما هو خاطئٌ في صناعةِ الأزياء”. في سبتمبر 2018، وعقبَ موجةِ الغضب تلك، أعلنت بوربري أنّها ستتوقّفُ فورًا عن إتلافِ البضائعِ غيرِ المباعة، كما تعهّدت بإعادةِ استخدامِ أو إصلاحِ أو إعادة تدويرِ المنتجاتِ غيرِ المباعة أو التبرّعِ بها، بدلًا من حرقها. تقول الإحصاءاتُ إنَّ نحوَ ثلثِ ما يُنتَج لا يُباعُ أبدًا، وإنّ بعضَ الشركاتِ تعمدُ إلى تخزينهِ مؤقّتًا ومن ثمَّ بيعهِ إلى الأسواقِ الثانوية، فيما بعضها الآخرُ يحرقُه أو يطمُرُه لتجنّبِ بيعهِ بأسعارٍ منخفضةٍ “تُضعِف” من قيمةِ العلامةِ التجارية تحاول بعضُ الشركاتِ الكبرى اليومَ تلميعَ صورتِها من خلالِ إطلاقِ مبادراتٍ لإعادة تدويرِ الملابسِ القديمة. لكن الدراساتِ تشيرُ إلى أنّ أقلّ من 1% فقط من الألبسةِ المستعملةِ يُعادُ تدويرُها فعلًا. أمّا الباقي فيُنقَلُ بعضُهُ إلى دولٍ فقيرةٍ في إفريقيا وآسيا حيث يُباعُ كملابسَ مستعملة، أو يُرمى في مكبّاتٍ ضخمةٍ تُلوّثُ التربةَ والينابيع والأنهار والهواء. ما الحلّ؟ إنّ تغييرَ هذا الواقع يبدأُ من المستهلكِ نفسه. وحريٌّ بنا قبل شراءِ أيّ قطعةِ ملابسٍ أن نطرحَ مجموعةً من الأسئلة:هل أحتاجُها فعلًا؟هل سأحافظُ عليها؟وماذا أفعلُ بالملابسِ المُعلّقةِ في خزانتِي منذُ سنوات؟هل كانت رحلةُ هذه الملابسِ قبلَ أن تحطَّ في خزائنِنا مُنصِفةً للأيدي التي صنعتها؟ استغلال الطبقة العاملة لقد وثّقت دراساتٌ كثيرةٌ انتهاكًا واضحًا لحقوقِ العاملين في صناعةِ الألبسة، حتى تلك التي تحملُ علاماتٍ تجاريةً عالمية. ففي كمبوديا مثلًا، أشارت التقاريرُ إلى أنّ العمالَ يحصلونَ على أجورٍ ضئيلةٍ ويعملونَ ساعاتٍ طويلةً وبشروطٍ صعبة. وفي بنغلاديش وغيرها، اشتكى العمالُ من التأخيرِ في دفعِ الأجور، إن دُفِعت، ومن حرمانِهم من حقوقِهم، لأنّ شركاتِ الألبسةِ تعتمدُ على خفضِ التكلفةِ لزيادةِ أرباحِها، والحلقةُ الأضعفُ هي العمّال. وبقيّةُ القصةِ معروفة: مُورّدونَ يتنافسون لتقديمِ أرخصِ الأسعارِ باقتطاعِ ما يستطيعونَ من أجورِ اليدِ العاملة في ظروفِ عملٍ غيرِ إنسانيةٍ في أغلبِ الأحيان. أمّا الأضرارُ على البيئة، فحدِّثْ ولا حرج. مياهٌ مهدورة، ومواردُ منهوبة، وطاقةٌ مستنزفة، وانبعاثاتٌ كربونية، وبوليستر، وأليافٌ بلاستيكيةٌ ملوِّثة. إنه مشهدٌ فحسبُ في قصةِ صناعةِ الموضةِ القاتلة. أمّا عن تسليعِ الأجسادِ التي ترتديها في زمنِ الصورةِ والسوشال ميديا، فذلك حديثٌ آخر… طويلٌ وحزين.