في القصة الحقيقية غير المرويّة، التي غالبًا ما لا تُقال في بلدٍ كلبنان تتناهشه الطوائف والمذاهب والعصبيّات، فإنّ هناك علاقةً اضطراديّة قد لا يفهمها أحمد الشرع نفسه عن الأحداث الجارية في محافظة السويداء السوريّة وإقفال مسلخ صيدا في جنوب لبنان نلبناء بلد، كيانٍ نهائيّ لجميع أبنائه متساوون بالحقوق والواجبات، فإنّ التذاكي لا ينفع، بل الصدق والمصارحة والمواجهة بعقلانيّة وهدوء من دون نوايا خبيثة. التوقيت الغريب! لماذا أقدم محافظ الجنوب منصور ضو على إقفال مسلخ صيدا منذ أيّام فقط، في هذا التوقيت بالذات، مع العلم أنّ القاصي والداني يعلم بمخالفة هذا المرفق الأساسي للمدينة للشروط الصحيّة المطلوبة للسلامة العامّة؟ وأنه يجب معالجته ومعالجة العاملين فيه منذ سنين.في الظاهر يبدو الجواب تطبيقًا للقوانين المرعيّة الإجراء التي أُنيطت بالمحافظ بحسب، لكن يبدو في الباطن أنّ للقصة – بحسب مطّلعين – فصولًا أخرى لم تُروَ بعد. منظر كبرنا عليه مَنظر “المشايخ الدروز” من أهل مناطق حاصبيا والعرقوب، وهم يفترشون شوارع عاصمة الجنوب لبيع التين والصبْر “المميّز” في هذا الموسم من العام، مشهدٌ كبر عليه آلاف الصيداويين حتى صار جزءًا متأصّلًا من ذاكرتهم الجماعيّة. ظاهرة ودودة محلّ ترحيب، من دون تكلّف أو اصطناع، من أهل صيدا الطيّبين والمشايخ اللّبِقين الذين يُحبّهم كلّ من يتعامل معهم. الذي تغيّر في هذا المشهد الجميل هذا العام، قرار بلديّة صيدا المحقّ بمنع التفلّت العشوائي في انتشار بسطات الخضار والفواكه والبضائع في شوارع المدينة، بعدما زاد عن حدّه وبات أمرًا مؤذيًا في السنوات الأخيرة. بشكلٍ غير مباشر طال هذا القرار “البائعين الدروز” من زوّار المدينة في موسم التين والصبْر، الذين اعتادوا القيام بما يقومون به منذ سنين وسط أهلهم وناسهم. لكن شكوى أصحاب البسطات الصيداويين من السماح لهؤلاء ببيع بضائعهم، ومنعهم في المقابل من القيام بذلك، دفعت البلديّة إلى تطبيق القانون على الجميع، وذلك من منطلق المساواة أمام القانون كما ينصّ عليه الدستور و”وثيقة الوفاق الوطني”، كي لا ننساها كلازمة ميثاقيّة حتى ولو كان الحديث عن “تين البيّاضة” و”صبير كفرشوبا”! حتى ليخال للمرء بأن المحافظ باقفاله مسلخ لحوم, وانتصاره للتين والصبير, فإن المدينة مقبلة على فصل من تاريخها الحديث يخطُه “النباتيون الجدد” (vegans). فالسماح ببسطة موسميّة سيخلق بسطة صيداوية دائمة مقابلها، سيصعب إزالتها لاحقًا. وهذا عدلٌ في السويّة تُكافأ المدينة عليه لا تُعاقب، كما بدأت تكثر “الخبريّات”. كلو بيرد شمص وعلى الطريقة اللبنانيّة، يلجأ الناس في مآزقهم إلى “أمراء طوائفهم” لحلّ الأمور، فكان أن لجأ هؤلاء إلى محافظ الجنوب، الذي هو بحكم القانون من الطائفة الدرزيّة. فكان الردّ بإقفال مسلخ صيدا، كما تقول مصادر محليّة في المدينة لـ”البوست”، علمًا أنّ المحافظ من الأشخاص المشهود لهم بالتعاون والتفهّم والمساعدة على حلّ مشكلات المدينة طوال فترة توليه وظيفته الرسمية. كي لا تظهر صيدا مرّة جديدة مدينة هزيلة بسياسيّيها ومجلسها البلدي والقائمين على شؤونها، وتُكرّس مقولة أنّ “السنّة” هم الحلقة الأضعف في حروب الطوائف، اقتضى التوضيح والعمل على حلّ مشكلات الناس جميعًا لا تفاقمها. لأنّنا في مرحلة تتّسم بالدقّة، فإنّ الخطوات المتخذة من الصغير قبل الكبير وجب أن تحكمها الحكمة والعقل وبعد النظر، وإن ظهرت أدق من الشعرة كَم كان جَميلًا لو أنّ ظاهرةَ البائِعينَ الدُّروز، الّتي تتكرَّر في صيدا كُلَّ عام، قد تمَّ تنظيمُها بحُلَّةٍ جَميلة، من دونِ كُلفةٍ تُذكَر، في مكانٍ مُؤهَّلٍ وقابِلٍ للوُصول من كُلِّ الرّاغبين، لكان الجَميعُ يَبتسمُ اليوم. قليل من الفطنة، النية الحسنة.
منذ أكثر من أسبوع، يعيش الصيداويون على وقع أزمة “اللحم المجهول”. فالمسلخ البلدي في المدينة أقفل بقرار من محافظ الجنوب، بعد أن تبيّن أنّه لا يلبّي الحدّ الأدنى من الشروط الصحية والفنية والسلامة العامة، إذ كشف تقرير المعاينة عن انتشار الجرذان والحشرات داخله بشكل يهدّد الصحة العامة. لكن السؤال البديهي الذي يفرض نفسه: إذا كان المسلخ الرسمي مقفلاً، فمن أين تأتي اللحوم التي تُباع في صيدا اليوم؟ وبأي شروط صحية وشرعية وغذائية يجري استهلاكها؟
في اجتماعٍ “نُخبويّ” لعددٍ من “المهندسين الخبراء” عُقد في بلدية صيدا قبل أيّام، وتمّت الدعوة إليه على “الطريقة الصيداويّة”، أي عبر تواصل رئيس البلدية مصطفى حجازي مع عددٍ من المهندسين المدعوّين تحت عنوان “عقارات البلدية”، بينما أخبر عضو المجلس البلدي محمد الدندشلي آخرين دعاهم بأنّ الاجتماع مخصّص لبحث مستقبل “الواجهة البحريّة لصيدا” عقارات الواجهة البحرية في هذا اللقاء، الذي فاض تنظيراً وإعادةً للكلام الممجوج نفسه الذي يسمعه الصيداويون منذ سنين، جرت مناقشة موضوعٍ بالغ الأهميّة لحاضر ومستقبل المدينة. إنّه موضوع العقارات الأربعة الرئيسة الواقعة على الواجهة البحريّة الشماليّة للمدينة (الممتدّة من الملعب البلدي حتى تخوم المسبح الشعبي الحالي)، وهو موضوع قديم/جديد يطفو على السطح بين فترةٍ وأخرى ثم يختفي، من دون أن يفهم أحد لماذا يحصل ذلك. مشروع الفندق المثير للجدل في الاجتماع الذي حضره “المهندسون الخبراء”، تمّ البحث في طرق الاستفادة من هذه العقارات التي تُعَدّ من أملاك البلدية. وقد بدا واضحاً توجّهٌ يتّسم بالخفة والاستسهال المفرط من قِبَل أحد الأعضاء الجدد في المجلس إذ تحدّث عن وجود مستثمر “متحمّس وجاهز” يرغب ببناء فندق يضمّ كلّ المرافق المرافقة من مسابح ومطاعم ومقاهٍ وتوابعها، مقدّماً بعض الصور عن مخطّطٍ توجيهي للمشروع عرضها أمام الحاضرين. هذا الطرح، إن تمّ بالشكل المعروض، يعني انتقال استثمار الملكيّة إلى قطاعٍ خاص لن يراعي إلّا مصالحه الربحيّة والتجاريّة في استثمار أيّ دولار سينفقه. وهذا بدوره يعني –بحكم المنطق– أنّ البلدية لن تمتلك القدرة على فرض شروطها عليه، وإلّا فلن يرغب أحد بالاستثمار من دون عوائد مجزية، خصوصاً في الظروف التي يعيشها البلد حالياً. وعليه، فإنّ وجود فندق يُدار من قِبَل شركةٍ خاصة يعني حكماً وجود مسابح و”بيكيني” ومطاعم تقدّم الخمور، وصولاً إلى صالات ميسر على الساحل الشرقي للبحر المتوسّط. لُوحظ في اللقاء غَزَلٌ واضح بين “الغريمَين” حجازي والدندشلي، فبينما كان الثاني يخاطبه بـ”الريس”، كان الأوّل يبادله بـ”شيخ المهندسين” من الصعب أن تفهم مَن زرع في رؤوس القيّمين على "تطوير" المدينة أنّ المنافسة السياحيّة لا تكون إلّا على خُطى البترون وجونية والكسليك. ففي عالم اليوم بات التخصّص سِمَة النجاح، ولصيدا ميزاتٌ كثيرة غير "التعري"، ولو أُحسن استثمارها لكانت قيمةً سياحية مضافة، ليس على مستوى لبنان فحسب، بل على صعيد المنطقة بأكملها. هناك كمية هائلة من الأفكار التي من ممكن بحسن إدارة وقليل من الفطنة والنية الحسنة أن تنتج دورة اقتصادية فعلية في شرايين المدينة بشكل مستدام. وليس ترقيعا أو تقليدا أعمى لجهات ومناطق لن تستطيع صيدا الحالية منافستها، إلا إن تحولت إلي صيدا أخرى…وهو احتمال غير منطقي في الوقت الراهن!