لطالما شكَّلت آراءُ المفكِّر العربي الكبير عبدُ الرَّحمن بن خلدون حول طبائع الأمم والشعوب، وخاصَّة العرب، مادَّةً خصبةً للجدل والتحليل. ففي مقدمته الشهيرة، قدَّم ابن خلدون رؤًى عميقةً حول العصبيَّة، والتوحُّش، وطبيعة الملك، وتأثير الدِّين على المجتمعات… مع تصاعد الأحداث في المنطقة العربيَّة، وتحديدًا الصراع العربي ـ الإسرائيلي الذي بلغ ذروته في المجازر التي تشهدها غزَّة اليوم، يبرز تساؤل مُلحّ: هل يمكن لآراء ابن خلدون أن تقدِّم لنا إطارًا لفهم المواقف العربيَّة المتضاربة؟ وهل صفة “الخيانة” يمكن أن تُسقَط على مواقف بعض الأنظمة العربيَّة في لحظات تاريخيَّة حاسمة؟ التوحش والعصبيَّة وتأثير الدِّين لم يتناول ابن خلدون في مقدمته صفة “الخيانة” بشكل مباشر كسمة متأصِّلة في العرب، بل ركَّز على تحليل طبائعهم وسلوكهم الاجتماعي والسياسي من منظور أعمق. يمكن تلخيص رؤيته للعرب في فئتين رئيسيتين: وصف ابن خلدون هذه الفئة بأنَّها: “أبعدُ الأمم عن سياسة الملك”، ويَعزو ذلك إلى عوامل متأصِّلة في طبيعتهم البدويَّة: التوحُّش: يرى ابن خلدون أنَّ العرب، بحكم طبيعة حياتهم في الصحراء، يتَّسمون بالتوحُّش، وهو ما يعني عدم انقيادهم للسُّلطة المركزيَّة، وصعوبة خضوعهم للحكم. هذا التوحش يجعلهم يميلون إلى الفوضى وعدم الاستقرار، ويهدمون العمران بدلًا من بنائه. فالعرب، في نظره، “إذا تغلَّبوا على أوطانٍ أسرع إليها الخراب”، لأنَّهم لا يميلون إلى الاستقرار والبناء، بل إلى النهب والتخريب. حبُّ الرِّياسة والأنفة: يتميَّز عرب البداوة بحبٍّ شديد للرِّياسة والأنفة، ممَّا يجعلهم: “منافسين في الرياسة، وقلَّ أن يُسلِّم أحدٌ منهم الأمر لغيره ولو كان أباه أو أخاه أو كبير عشيرته، إلا في الأقل وعلى كُرهٍ من أجل الحياء”. هذا التنافس المستمر يؤدِّي إلى تعدُّد الحكَّام والأمراء، واختلاف الأيدي على الرعيَّة، ممَّا يُفسد العمران ويُنقِصه. العصبيَّة: تُعتبر العصبيَّة من أهم المفاهيم الخلدونيَّة، وهي تعني التضامن والولاء القبلي أو العائلي. يرى ابن خلدون أنَّ العصبيَّة هي أساس قيام الدول والممالك، ولكنها في الوقت نفسه يمكن أن تكون سببًا في سقوطها عندما تتحوَّل إلى صراعات داخليَّة بين الفروع المختلفة للعصبيَّة الواحدة. يتميَّز عرب البداوة بحبٍّ شديد للرِّياسة والأنفة، ممَّا يجعلهم: “منافسين في الرياسة، وقلَّ أن يُسلِّم أحدٌ منهم الأمر لغيره ولو كان أباه أو أخاه أو كبير عشيرته العرب بعد الإسلام يقدِّم ابن خلدون رؤيةً مختلفةً للعرب بعد ظهور الإسلام. فالدِّين، في نظره، يلعب دورًا محوريًّا في تهذيب طباع العرب وتوجيه طاقتهم نحو البناء والتعمير.يرى ابن خلدون أن العرب: “لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينيَّة من نبوَّة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة”. فالإسلام، بما يحمله من قيم ومبادئ، هذَّب طباعهم المتوحِّشة، ووحَّد عصبيتهم المتفرِّقة، ووجَّهها نحو هدف أسمى، وهو نشر الدعوة وبناء الحضارة. وهذا ما يُفسِّر، في رأيه، الفتوحات العظيمة التي قام بها العرب بعد الإسلام، وإقامتهم للدول والممالك، وبنائهم للحضارة. ولم يصف ابن خلدون العرب بـ”الخيانة” كصفة متأصِّلة، بل ركَّز على تحليل سلوكهم الاجتماعي والسياسي بناءً على ظروف حياتهم (بداوة أو حضارة) وتأثير الدِّين عليهم. فـ”التوحش” و”حبُّ الرِّياسة” و”العصبيَّة” هي الصفات التي تناولها في سياق تحليل قيام وسقوط الدول. النكبة كانت حرب 1948 أوَّل مواجهة عسكريَّة واسعة النطاق بين الدول العربيَّة الوليدة وإسرائيل. شاركت فيها جيوش من مصر، سوريا، الأردن، لبنان، والعراق. ورغم أن الهدف المعلن كان منع قيام الدولة اليهوديَّة وحماية الأراضي الفلسطينيَّة، إلَّا أن التنسيق بين الجيوش العربيَّة كان ضعيفًا، وكانت هناك خلافات حول القيادة والأهداف. انتهت الحرب بهزيمة الجيوش العربيَّة وتوسُّع إسرائيل، وتهجير مئات الآلاف من الفلسطينيين.يمكن تفسير هذا التشرذم في القيادة والأهداف، جزئيًّا، بـ”حبِّ الرياسة والأنفة” الذي تحدَّث عنه ابن خلدون، حيث إنَّ عدم الانقياد لسلطة موحَّدة يمكن أن يؤدِّي إلى الفشل حتَّى في مواجهة عدوٍّ مشترك. النكسة كانت حرب 1967 كارثة على الجيوش العربيَّة، حيث شنَّت إسرائيل هجومًا مفاجئًا واحتلَّت خلال أيَّام قليلة الضفَّة الغربيَّة، قطاع غزَّة، مرتفعات الجولان، وشبه جزيرة سيناء. هذه الهزيمة السريعة كشفت عن ضعف الأنظمة العسكريَّة العربيَّة، وعدم جاهزيَّتها، بالإضافة إلى غياب التنسيق الفعَّال. ورغم الشعارات القوميَّة التي كانت سائدة، إلَّا أن الواقع أظهر أن “العصبيَّة” القبليَّة أو القطريَّة كانت لا تزال أقوى من العصبيَّة القوميَّة الجامعة، ممَّا أثَّر على الأداء العسكري والسياسي. حرب أكتوبر 1973 تُعتبر حرب 1973 نقطة تحوُّل في الصراع، حيث شنَّت مصر وسوريا هجومًا مفاجئًا على إسرائيل وحقَّقتا نجاحات أوليَّة. أظهرت هذه الحرب قدرة الجيوش العربيَّة على التخطيط والتنفيذ، وحقَّقت بعض المكاسب العسكريَّة والنفسيَّة. ورغم أنَّها لم تُؤدِّ إلى استعادة كامل الأراضي المحتلَّة، إلَّا أنَّها مهَّدت الطريق لمفاوضات السلام.يمكن رؤية هذه الحرب كنموذج لتأثير “الصبغة الدينيَّة” و”العصبيَّة” الموجَّهة نحو هدف مشترك، حيث إنَّ الإعداد الجيِّد والتنسيق النسبي، بالإضافة إلى الروح المعنويَّة العالية، ساهمت في تحقيق هذه النجاحات. اتفاقيَّات السلام بعد حرب 1973، بدأت بعض الدول العربيَّة في التوجُّه نحو السلام مع إسرائيل، حيث وقَّعت مصر معاهدة سلام عام 1979، تلتها الأردن عام 1994. كما أدَّت اتفاقيَّات أوسلو إلى إنشاء السلطة الوطنيَّة الفلسطينيَّة.هذه الاتفاقيَّات، وإن كانت تهدف إلى إنهاء الصراع، إلَّا أنَّها أدَّت إلى انقسامات داخل الصف العربي، حيث اعتبرها البعض “خيانة” للقضيَّة الفلسطينيَّة، بينما رآها آخرون ضرورة واقعيَّة. هذا التباين في المواقف يعكس مدى تعقيد “العصبيَّة” العربيَّة، وكيف يمكن أن تتشكَّل وتتغيَّر الولاءات بناءً على المصالح السياسيَّة والاقتصاديَّة. هل تتكرَّر “الطبائع الخلدونيَّة”؟ تشهد غزَّة اليوم مجازر مروِّعة، وقصفًا مكثَّفًا، وحصارًا خانقًا، أدَّى إلى كارثة إنسانيَّة غير مسبوقة، ومجاعة في بعض المناطق. وفي ظل هذه الظروف، يبرز الموقف العربي الرسمي والشعبي، والذي يمكن تحليله في ضوء ما سبق من آراء ابن خلدون حول طبائع العرب. شجب وتنديد وواقعيَّة سياسيَّة تميَّز الموقف الرسمي العربي من العدوان على غزَّة بـ”المحتشم والضعيف”، واقتصر في الغالب على الشجب والتنديد والبيانات الفضفاضة. ورغم توالي الإدانات الدوليَّة للمجازر، إلَّا أنَّ التحركات العربيَّة الرسميَّة بقيت محدودة. يمكن تفسير هذا الموقف بعدَّة عوامل: المصالح القطريَّة: العديد من الدول العربيَّة تُعطي الأولويَّة لمصالحها الوطنيَّة، وعلاقاتها الدوليَّة، واستقرارها الداخلي، ممَّا يجعلها تتجنَّب المواجهة المباشرة مع إسرائيل أو الدول الداعمة لها. هذا يعكس “حبَّ الرياسة” و”الأنفة” على المستوى القطري، حيث تُغلَّب مصالح الدولة الفرديَّة على المصلحة الجماعيَّة للأمَّة. غياب العصبيَّة الجامعة: رغم وجود جامعة الدول العربيَّة، إلَّا أنَّ “العصبيَّة” الجامعة التي تحدَّث عنها ابن خلدون، والتي توحِّد الصفوف وتدفع للعمل المشترك، تبدو غائبة أو ضعيفة في مواجهة الأزمات الكبرى. فالخلافات بين الدول العربيَّة، وتضارب المصالح، يمنع تشكيل موقف عربي موحَّد وقوي. الواقعيَّة السياسيَّة: يرى البعض أنَّ الموقف العربي هو نتاج واقعيَّة سياسيَّة، حيث تدرك هذه الدول موازين القوى الإقليميَّة والدوليَّة، وتُفضِّل عدم الدخول في مواجهات قد تؤثِّر على استقرارها أو مصالحها. غضب وتضامن على النقيض من الموقف الرسمي، شهد الشارع العربي غضبًا وتضامنًا واسعًا مع غزَّة، حيث خرجت مظاهرات حاشدة في العديد من العواصم والمدن العربيَّة
في سبتمبر/أيلول 2004، خرج شاب فلسطيني لم يتجاوز الثامنة عشرة، يضع لثامًا أسود يخفي ملامحه. ثلاث ساعات فقط فصلت بين تكليفه بالمهمة الأولى وصعوده إلى المنصة ليقرأ بيانًا عسكريًا باسم كتائب القسّام. كانت لحظة عابرة في ظاهرها، لكنها صنعت ميلاد شخصية ستصبح لاحقًا واحدة من أكثر الرموز حضورًا في الصراع العربي–الإسرائيلي: أبو عبيدة لم يكن الفتى حينها يدرك أن دقائق قليلة خلف الميكروفون ستغيّر حياته للأبد. فقد حصل على مجموع دراسي يؤهله لدخول كلية الطب، لكنه اختار دراسة الشريعة. قرأ أول بيان رسمي قبل أن تطأ قدماه قاعة جامعية، واختار أن يحمل رسالة جماعية بدل أن يحمل حقيبة طبيب.صناعة أيقونةمنذ ذلك اليوم، لم يعد أبو عبيدة مجرد ناطق رسمي. صار صوتًا لمجتمع محاصر، ورمزًا إعلاميًا وعسكريًا في آن واحد. لثامه الأسود تحوّل إلى شعار للسرّية والمقاومة، وعيناه وسبابته أصبحتا لغة بصرية يحفظها الملايين.الإعلام الإسرائيلي نفسه أقرّ بأن ظهوره “يهزّ المعنويات”، إذ يرتبط اسمه غالبًا بالإعلان عن عمليات نوعية أو رسائل تهديد مباشرة. تقارير عبرية عام 2021 ذكرت أن اسمه تكرر في نشرات الأخبار العبرية أكثر من وزراء في الحكومة الإسرائيلية.خطبة في زمن الحربخطابه مزيج بين نبرة الواعظ ولغة القائد العسكري. فهو يستشهد بالآيات القرآنية، ويستحضر التاريخ، ويطرح تهديدات محددة. هذه اللغة جعلت بياناته ذات وقع مزدوج:عربيًا: مصدر إلهام ورفع للمعنويات.إسرائيليًا: إنذار وتحذير يترقبه الجنود وعائلاتهم بقلق.أظهرت إحصاءات لوسائل الإعلام أنه:خلال حرب 2021، تصدّر اسم “أبو عبيدة” الترند على تويتر 14 مرة في دول عربية وإسلامية.في حرب 2023–2024، حققت أول كلمة له بعد اندلاع المواجهة أكثر من 50 مليون مشاهدة في 48 ساعة عبر الفضائيات والمنصات الرقمية.اظهر استطلاع رأي أجراه مركز فلسطيني عام 2023 أن 70% من الشباب الفلسطيني يعتبرون أبو عبيدة رمزًا للقوة والصمود. مدينة تستحق أن تكون مركزًا معرفيًا متطورًا.. تحوّلت إلى حي فقير رقميًا بعينين وسبابَةوراء لثام أسود، لم يظهر من وجهه سوى العينين. ومع كل خطاب، كان يرفع سبابته للتأكيد على رسالته. هذه الإشارات تحوّلت إلى لغة بصرية كاملة؛ انتشرت في رسوم وكاريكاتيرات وميمز على مواقع التواصل، لتصبح جزءًا من الثقافة الشعبية العربية.في مقابل عشرات الزعماء العرب الذين يملكون جيوشًا ودولًا، ظهر هو بجسد نحيل وصوت متعب ليؤكد أن الرمزية لا تُقاس بحجم الدولة، بل بحجم الفعل والإصرار.حين يتكلم اللثامالأثر الأكبر لأبو عبيدة ربما لم يكن عسكريًا بقدر ما كان نفسيًا. ففي حرب 2014، حين أعلن عن أسر الجندي شاؤول آرون، سُجّلت في إسرائيل واحدة من أكبر حالات الصدمة الجماعية، إذ تضاعفت مكالمات العائلات إلى خطوط الجيش بنسبة 40% في يوم واحد.في حرب 2023–2024، بمجرد أن ألمح إلى مصير بعض الأسرى الإسرائيليين، تصدّر نشرات الأخبار العبرية، متجاوزًا تصريحات رئيس الوزراء ووزير الدفاع. محللون نفسيون إسرائيليون وصفوا خطابه بأنه جزء من “المعركة على الوعي”.يعتمد أبو عبيدة على أسلوب “التصعيد الموزون”: يبدأ بآية أو دعاء، ثم يطلق وعدًا أو تهديدًا محددًا، قبل أن يذكّر بواقعة سابقة تحققت، ما يعزز المصداقية. وبحسب تقديرات مراكز بحث إسرائيلية، فإن 70% من وعوده العسكرية في العقدين الأخيرين تحققت كليًا أو جزئيًا، ما جعل بياناته موثوقة في نظر الجمهور الإسرائيلي قبل العربي.لا تنفصل ظاهرة أبو عبيدة عن تجارب مشابهة عالميًا. فالحركات الثورية عادة تختار وجوهًا إعلامية: نيلسون مانديلا كتب بياناته من السجن، وتشي غيفارا صار رمزًا عالميًا بفضل صوره وخطاباته. لكن المختلف في حالة أبو عبيدة أن الفضاء الرقمي ضاعف أثره، فجعل بيانه الصادر من غزة يصل إلى جاكرتا وإسطنبول خلال دقائق. لا تنفصل ظاهرة أبو عبيدة عن تجارب مشابهة عالميًا. فالحركات الثورية عادة تختار وجوهًا إعلامية ظهور أخير.. أم بداية جديدة؟ في آخر تسجيلاته، ظهر أبو عبيدة بملامح متعبة وصوت مثقل، لكنه حافظ على نبرة التحدي. كأنما يودّع أو يوصي، أو يفتتح فصلًا جديدًا. "يا أحرار هذا العالم …”.. لم تكن الكلمات دعاءً عابرًا، بل تلخيصًا لمسيرة بدأت في عمر الثامنة عشرة حين وُضع اللثام، واستمرت حتى صار رمزًا لجيل بأكمله يعيش بالحرب ويتكلم بالبيان.
“أغنياء صيدا الفلسطينيون”، ظاهرةٌ نشأت في المدينة منذ سنوات، لكنها فرضت نفسها بسرعةٍ بحكم “الأمر المفروض” في الفترة الأخيرة بعد سيطرة مجموعة من “حديثي الثراء” بشكلٍ تدريجي على قطاعاتٍ أساسية في المدينة، يُصنَّف بعضها بحسب المعايير الدولية ضمن “استراتيجيات الأمن المجتمعي”، لما لها من تأثير مباشر وغير مباشر على حياة الناس وسلوكياتهم وقراراتهم، والتي لا يمكن أن تُترك بأيدي من هم من غير الأهلية لذلك، بحسب القانون. ولأن صيدا “قريةٌ كبيرة”، والكل يعرف بعضه، طرحت هذه الظاهرة الكثير من الأسئلة التي تُقال سراً وعلانية، برضى أو بسخط، أبرزها طبعاً: من أين لكم هذا؟