تتّجه أنظارُ كثير من الناس حول العالم اليوم إلى القدسِ المحتلّة مع انطلاق محاكمةِ الشيخِ عكرمة صبري، إمامِ وخطيبِ المسجدِ الأقصى ورئيسِ الهيئةِ الإسلاميةِ العليا في القدس، البالغ من العمر (86 عاماً) في خطوةٍ تُوصف بأنّها تصعيدٌ خطيرٌ يستهدفُ أعلى مرجعيّةٍ دينيّة في المدينة وأحد أبرز الأصواتِ المدافعةِ عن المسجدِ الأقصى وقضيّتِه. يُعدّ الشيخُ عكرمة صبري من أبرزِ علماءِ القدسِ وفلسطين. شغل منصبَ مُفتي القدسِ والديارِ الفلسطينية لسنوات، ولا يزالُ حتى اليوم خطيبًا للمسجدِ الأقصى ورئيسًا للهيئةِ الإسلاميةِ العليا. ارتبط اسمُه بكلِّ محطاتِ الدفاعِ عن الأقصى، من هبّاتِ المقدسيين المتتالية، إلى مواجهتِه العلنيّة لمحاولاتِ تغييرِ الوضعِ التاريخيّ والقانونيّ للمسجد، ما جعله في مرمى الاستهدافِ الدائم من قبلِ سلطاتِ الاحتلال عبر الإبعاداتِ المتكررة والتهديداتِ والاستدعاءات. خلفيّة الاتهامقدّمت النيابةُ العامةُ في دولةِ الاحتلال ضدّ الشيخِ صبري لائحةَ اتّهامٍ تتضمّن ما تسمّيه “التحريضَ على الإرهاب” على خلفيّة كلماتِ تعزيةٍ وخُطبٍ ألقاها في مناسباتٍ مختلفة، بينها تأبينُ شهداء فلسطينيين وخطبةٌ في المسجد الأقصى.الشيخُ من جهته يؤكّد أنّ ما قاله يندرجُ في إطارِ الواجبِ الدينيّ والوطنيّ، وأنّ الاتهاماتِ تأتي في سياقِ “محاكمةِ الموقفِ والكلمة”، لا محاكمةِ مخالفةٍ قانونيّةٍ حقيقية، معتبرًا أنّ الهدفَ هو زرعُ الخوفِ في قلوبِ الناس ومنعُهم من التعبيرِ عن رفضهم للاحتلال وجرائمه بحقّ القدس والأقصى. استفرادٌ بالمرجعيّة الدينيّةخطورةُ ما يجري لا تكمُنُ فقط في مضمونِ الاتهامات، بل في شخصِ المستهدَف؛ فالشيخُ عكرمة صبري يمثّل مرجعيّةً دينيّةً وروحيّة واسعةَ التأثير داخل القدس وخارجها.تفتحُ محاكمتُه البابَ، أمامَ سابقةٍ قضائيةٍ تسمحُ للاحتلال بملاحقةِ كلّ عالمٍ أو خطيبٍ أو شخصيةٍ دينيةٍ تتخذُ موقفًا واضحًا في مواجهةِ سياساته، تحت لافتةِ “التحريض”، ما يعني عمليًا إعادةَ تشكيلِ المشهدِ الدينيّ في المدينة بما يخدمُ الرؤيةَ الإسرائيلية.وتزامنًا مع الملفّ القضائيّ، تشهدُ محيطُ منزلِ الشيخِ بين الحين والآخر تحرّكاتٍ لمجموعاتٍ من المستوطنين المتطرفين، يردّدون هتافاتٍ تحريضيّةً وتكفيريّةً بحقّه، في ظلّ حمايةٍ من الشرطة، وسط مخاوفَ حقيقيةٍ من تحوّلِ التحريضِ الإعلاميّ والسياسيّ إلى استهدافٍ جسديّ، في ظلّ صمتٍ رسميّ عربيّ وإسلاميّ مُقلق. تفتحُ محاكمتُه البابَ، أمامَ سابقةٍ قضائيةٍ تسمحُ للاحتلال بملاحقةِ كلّ عالمٍ أو خطيبٍ أو شخصيةٍ دينيةٍ تتخذُ موقفًا واضحًا في مواجهةِ سياساته، تحت لافتةِ “التحريض” الأقصى في قلب المعركةلا يمكنُ فصلُ محاكمةِ الشيخِ صبري عن الصراعِ المفتوح على المسجدِ الأقصى.فالشيخُ كان في مقدّمةِ من تصدّى لإجراءاتِ الاحتلال عند بواباتِ الأقصى، وشارك في قيادةِ الحراكِ الشعبيّ الذي أحبط محاولاتِ فرضِ بواباتٍ إلكترونية وكاميراتٍ ذكيّة على مداخلِ المسجد، كما كان من أوائلِ من حذّروا من مخططاتِ التقسيمِ الزمانيّ والمكانيّ وسعيِ الجماعاتِ الاستيطانية لتحويلِ الاقتحاماتِ اليومية إلى أمرٍ واقعٍ دائم.من هنا، يقرأُ كثيرون هذه المحاكمة باعتبارِها حلقةً في سلسلةٍ طويلة تهدفُ إلى إبعادِ الرموزِ المؤثّرة عن مشهدِ الدفاعِ عن الأقصى، سواء عبر قراراتِ الإبعاد والمنعِ من الدخول، أو عبر المحاكماتِ والضغوطِ الأمنيةِ والقانونية. صمتٌ عربيّ وإسلاميّفي مقابلِ هذا التصعيد، يُلاحظُ ضعفُ التفاعلِ الرسميّ العربيّ والإسلاميّ مع ملفّ الشيخِ عكرمة صبري، والاكتفاءُ ببياناتٍ خجولةٍ لا ترقى إلى مستوى الحدث ولا إلى مكانةِ الرجل ولا إلى خطورةِ استهدافِه.هذا الصمتُ يرسلُ، برأي كثيرين، إشاراتٍ خاطئةً للاحتلال تُشجّعه على المضيّ قُدمًا في سياسةِ “ترويض” المرجعياتِ الدينيّة في القدس واحدةً تلو الأخرى. في المقابل، يراهنُ الشيخُ صبري على التفافِ الشارعِ الفلسطينيّ والعربيّ والإسلاميّ حول القدسِ والأقصى، وقد دعا مرارًا إلى تحويلِ محاكمتِه من قضيةٍ شخصية إلى قضيةِ رأيٍ عام تُعبّر عن رفضِ محاكمةِ الكلمةِ والموقف، وعن التمسّكِ بحقِّ الدفاعِ عن المسجدِ الأقصى والقدس بكلِّ الوسائلِ السلميةِ والقانونيةِ المتاحة. ليست محاكمةُ الشيخِ عكرمة صبري مجرّدَ ملفٍّ قضائيّ عابر، بل اختبارًا جديدًا لإرادةِ الأمة تجاه القدس. فإذا نجح الاحتلالُ في محاكمةِ أعلى مرجعيةٍ دينيةٍ في المدينة بتهمةِ “التحريض”، فسيفتح البابَ واسعًا أمام محاكماتٍ أخرى تطالُ كلَّ من يرفع صوتَه دفاعًا عن الأقصى.وعليه، تتحوّلُ هذه القضيةُ إلى نداءٍ عاجلٍ للهيئاتِ الدينية، والمنظماتِ الحقوقية، ووسائلِ الإعلام، والشارعِ العربيّ والإسلاميّ، للتحرّك من أجل حمايةِ حريةِ الكلمة والدفاعِ عن هويةِ القدس، قبل أن يصبحَ استهدافُ العلماءِ والأئمةِ والمقدسات أمرًا اعتياديًا لا يثيرُ إلا القليلَ من ردودِ الفعل.
توقّفَ مصدرٌ سياسيٌّ صيداويٌّ مُتابِع، في إحدى اللقاءاتِ الجامعةِ التي انعقدَت أخيرًا على مستوى المدينة، عندَ التظاهرةِ الشعبيّةِ الحاشدةِ التي نظّمَها أنصارُ الشيخِ أحمدَ الأسير منذ أيّامٍ عندَ دُوّارِ إيليّا، للمطالبةِ بإقرارِ العفوِ العامِّ عن الموقوفينَ في هذا الملفِّ وإطلاقِ سراحِهم. وقالَ المصدرُ إنّ “ظاهرةَ الشيخِ الأسير”، على الرغمِ من كلِّ التنكيلِ والتشويهِ اللذينِ تعرّضت لهما خلالَ السنواتِ الماضيةِ بهدفِ شيطنتِها وطمسِها، إلّا أنّها أظهرت أنّها باقيةٌ ومستمرةٌ، بل وتتنامى في الأوساطِ الصيداوية، خاصّةً بعدما أظهرتِ الفيديوهاتُ التي تمَّ نشرُها في الآونةِ الأخيرةِ حقيقةَ الافتراءِ والكذبِ الذي شهدتهُ أحداثُ عبرا، ومشاركةُ حزبِ الله وسرايا المقاومةِ في المعركةِ دونَ أن تتمَّ مساءلتُهم في محاكمةٍ عادلةٍ، وصوابيّةُ الخطابِ الذي كانَ يقولهُ الرجلُ، وأثبتهُتْهُ الأيّامُ وتبنّاهُ لبنانُ “العهدُ الجديد” رسميًّا. وأكّدَ المصدرُ أنّ عددَ المشاركينَ الذي شهدهُ الحشدُ لا يمكنُ اعتبارُهُ مشهدًا عابرًا في المدينة، في وقتٍ قد تعجزُ بعضُ القوى السياسيّةِ الفاعلةِ عن حشدِ مثلِهِ في مثلِ هذه الظروف. وأنّ عددَ المشاركينَ وإنْ كانَ مُؤشِّرًا، إلّا أنّ دلالتَهُ تكمنُ في التأثيرِ الأعمّ. لافتًا إلى أنّ هناكَ مصلحةً مشتركةً من قبلِ القوى السياسيّةِ الصيداويةِ لإبقاءِ ملفِّ الشيخِ الأسيرِ مُغلَقًا، خوفًا من أن خروجَه قد يغيّرَ في حساباتِ هذه القوى بالنسبةِ لمجرياتِ المعركةِ الانتخابيةِ المقبلة، وهو السببُ الذي يُفسِّرُ عدمَ إقدامِ هذه القوى على التطرّقِ لهذا الأمرِ بعد كلِّ ما ظهرَ فيه.