عاصمة الذَّكاء الاصطناعي في لبنان

حلم لم يبصر الضوء (العدسة الذكية)

بينما يستمرّ بعضُ الخطابِ السياسيّ العربيّ في اجترار مفاهيم العصور الأولى — “الفَتح”، “الجِزية”، “النصرُ المُبين” — ويتغذّى على حنينٍ مَرَضيٍّ لزمنِ السيوفِ والرايات، تُعيد المملكةُ العربيّةُ السعوديّةُ رسمَ المشهدِ الإقليمي، ولكن هذه المرّة بلغةِ الخوارزميات، والذَّكاء الاصطناعي، والاقتصاد المعرفي
في الأيام الماضية، أعلنت السعوديّة عن مشروعٍ طموحٍ بقيمة 5 مليارات دولار، لإقامةِ منطقةِ ذكاءٍ اصطناعيٍّ شاملة، ضمنَ خطّةٍ أوسع تهدفُ إلى تحويلِ المملكة إلى مركزٍ تقنيٍّ إقليمي يُوازي “وادي السيليكون” الأميركي.
قد يبدو الرقم مذهلًا، لكن المُذهل أكثر هو أنّ مثل هذه الخطط لم تَعُد في خانة “الأحلام المؤجَّلة”، بل في أجندةٍ تنفيذيةٍ صارمةٍ تحمل اسمًا: رؤية السعوديّة 2030.
من النفط إلى المعرفة
مشروعُ الذكاءِ الاصطناعيّ السعودي ليس معزولًا عن الرؤيةِ الكلية للمملكة. فبحسبِ تقاريرَ رسميّة، تستثمر المملكةُ اليومَ أكثرَ من 100 مليار دولار في قطاعِ التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، وهي تسعى لرفعِ مساهمةِ الاقتصاد الرقمي إلى 19٪ من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2030.
لهذه الغايات، تم تأسيس هيئةٍ متخصصةٍ للبياناتِ والذكاء الاصطناعي (SDAIA)، وأُطلقت مدنٌ مستقبليةٌ مثل “نيوم”، وتم عقدُ شراكاتٍ استراتيجيةٍ مع عمالقةِ التكنولوجيا مثل: Google، Microsoft، وAlphabet التي أعلنت مؤخرًا عن بناءِ مركزٍ شاملٍ للذكاء الاصطناعي في السعوديّة.
أكثرُ من 25,000 وظيفة مباشرة يُتوقع أن تُخلَق في هذا القطاع خلال السنوات الخمس القادمة، ناهيك عن الاقتصادِ الموازي في التعليم، والبنية التحتية، وأمنِ المعلومات، والتجارة الذكية.
رأس مال جاهز
لكن ماذا لو نظرْنا إلى التجربةِ السعودية بعيونٍ لبنانية؟ وصيداوية تحديدًا؟ ماذا لو سألْنا: لماذا لا تُطلقُ المدينةُ المتوسطيّة النابضة بالحياة مشروعًا مشابهًا ولو بحجمٍ مصغّر؟
صيدا ليست مدينةً هامشيّة. فبحسبِ إحصاءاتٍ صادرةٍ عن لجنة “الإسكوا” لعام 2023، تضم المدينة وجوارها أكثر من خمس جامعاتٍ ومعاهدَ تقنية، وتُخرّج سنويًا نحو 1,200 طالبٍ في اختصاصات STEM، وتُقدَّر نسبةُ التعليمِ الجامعي في المدينة بما يفوق 62٪، وهي أعلى من المعدّل الوطني.
يشكّل الشباب اليومَ أكثرَ من 65٪ من سكّان المدينة، ووفق دراسةٍ لمؤسسة البحوثِ الاستراتيجيّة (SRRL)، فإنّ ما يزيد عن 45٪ من خريجي التخصّصات التقنية من صيدا يسعون للهجرة أو الانتقال إلى العاصمة بيروت أو الخارج، بسبب غيابِ فرصِ التوظيفِ المحلي.
هذه مدينةٌ تمتلكُ رأسمالًا بشريًّا حقيقيًّا، لكنها تُدار — للأسف — بذهنية “المجاري، والزّفت، ومُحاصصة الإنارة الليلية”.
10 ملايين فقط
هل تحتاج صيدا إلى 5 مليارات دولار؟ لا. إطلاق حاضنةِ ذكاءٍ اصطناعي بموازنةٍ أوليّة من 8 إلى 10 ملايين دولار سيكون كافيًا للانطلاق.
المطلوب هو:
- إنشاء “مركز صيدا للذّكاء الاصطناعي والابتكار” بشراكةٍ بين القطاعين العام والخاص.
- تخصيص مساحةِ أرض من البلدية أو الأوقاف لإقامة المركز أو جهةٍ استثماريّة.
- إشراكُ الجامعات المحليّة في بناءِ المحتوى الأكاديمي والتدريبي.
- الحصولُ على دعمٍ تمويلي من جهاتٍ دولية أو خليجية، بما في ذلك السعوديّة أو الصناديق الأوروبيّة التنموية.
أما المردود المتوقع فيتمثل في:
- خلق 400 إلى 500 وظيفةٍ مباشرة خلال أول ثلاث سنوات.
- تمكين أكثر من 1,000 شابٍّ وشابةٍ من التدريب والعمل عن بُعد في السوق العالمية.
- إطلاق 20 إلى 30 شركةً ناشئةً محلية في أول خمس سنوات.
من التكبير إلى التفكير
الفارق بين التجربتين السعوديّة واللبنانية، ليس في المالِ ولا في المواردِ البشريّة، بل في القاموسِ السياسي.
في الرياض، يوقّع وليُّ العهد اتفاقياتٍ استراتيجية مع أميركا والصين وأوروبا، فيُتَّهم بالخيانة من قِبل ممانعين لا يزالون يعيشون في أروقة “الكرامة والجوع الشريف”. لكنّ الحقائقَ أكثرُ عنادًا من الشعارات. السعوديّة لا تدفعُ الجزية. هي تبني مستقبلًا.
بينما هنا، نُنازع على اسمِ شارع، أو حصةِ مستشفى، أو تعيينِ رئيسِ مصلحة أو ضابطِ أمن.
لذا يبرز السؤال الجوهري:هل نريدُ لمدننا أن تتطوّر، أم نُفضّل بقاءَها رهينةَ الأوهامِ العقائديّة؟ نستحق أن نحلم لماذا لا نمنحُ مدينةً مثل صيدا فرصةً لأن تكون “نيوم لبنان”؟ هل الخيالُ ممنوعٌ علينا؟ هل مشاريع الذكاء الاصطناعي حكرٌ على النفط؟ صيدا تمتلك كل ما تحتاجه: شباب، تعليم، موقع استراتيجي، وانفتاح ثقافي. ما ينقصها هو: قرارٌ سياسيّ، إرادةٌ مدنية، وتحرّرٌ من خطابات الماضي.
في زمنٍ تكتبُ فيه الأُممُ مصيرَها بسطرٍ برمجي، لا يليق بنا أن نبقى أسرى صفحاتِ التاريخ. الذكاءُ الاصطناعي ليس ترفًا، بل حقٌّ سيادي.
ولصيدا — إن وُجِد الحُلم والإرادة — أن تكون نموذجًا لبنانيًا مشرّفًا في زمنٍ يصنعه الذكاء، لا البلاغةُ الخشبيّة.
تضم المدينة وجوارها
5
جامعاتٍ ومعاهدَ تقنية عديدة (28 مركز مهني وتقني)

