في مدينة كانت تغسل وجهها بماء البحر كل صباح، صار الرماد عنوانها دائم. صيدا التي لطالما تغنّت بأنها “مدينة الشمس والسمك”، تحولت بفعل التراكم السياسي والبيئي إلى مدينة النفايات والرماد… البارحة، اندلع حريق هائل في جبل النفايات جنوب المدينة. لكن النيران التي تصاعدت لم تكن مجرد اشتعال عرضي في كومة نفايات، بل كانت صفعة جديدة لذاكرة المدينة، ورمزًا محترقًا لعقود من الفشل، والفساد، والتواطؤ
جبل من النسيان واللاقرار
بدأت قصة هذا الجبل عام 1982، مع اجتياح بيروت وتكدّس النفايات فيها، حيث أنشئ مكب مؤقت جنوب صيدا، قرب الشاطئ، ليُصبح لاحقًا “جبلًا” بمعنى الكلمة. ففي خلال ثلاثة عقود، راكم المكب أكثر من 1.5 مليون طن من النفايات، على مساحة تفوق 60,000 متر مربع، وبارتفاع تجاوز 60 مترًا – أي ما يعادل بناية من 20 طابقًا مكوّنة من قذارة وقرارات مؤجلة.
كان المفترض أن تنتهي هذه المأساة مع تدشين معمل النفايات في منطقة سينيق عام 2012. بُني المعمل بتمويل مشترك بين بلدية صيدا والجهات الدولية، بطموح أن يعالج 500 طن من النفايات يوميًا. لكن الطموح في لبنان غالبًا ما يكون أول الضحايا، فتجاوز المعمل قدرته منذ اليوم الأول، واستقبل نفايات من خارج المدينة: من جزين، الزهراني، النبطية… بل وحتى من بلديات البقاع، لتتحوّل صيدا إلى “منفى النفايات الوطني”.
حين عجز المعمل عن المعالجة، بدأت النفايات تتراكم من جديد بجانب البحر. ورغم كل الشعارات البيئية والوعود الانتخابية، لم يُبذل جهد حقيقي لحل الأزمة جذريًا، بل اعتمدت سياسة التخدير: ردم، تعتيم، ثم حريق.
صدفة أم تلويح بالنار؟
الحريق الذي اندلع مؤخرًا، كان كبيرًا ومفتعلًا حسب تقديرات الدفاع المدني. لم يكن اشتعالًا بفعل حرارة الصيف فقط، بل “رسالة”، على ما يبدو، بلغة اللهب، في موسم انتخابي باتت فيه صيدا ساحة صراع مستتر بين مرشحين “مستقلين” بظهر حزبيّ، ونواب سابقين عادوا يرتدون قناع التكنوقراط.
من المفارقات المؤلمة أن هذا الجبل “البيئي” عاش تحت أعين كل البلديات المتعاقبة، وتحت رايات كل الأحزاب الصيداوية. من المجلس البلدي الذي جلس على الكراسي ولم يتحرك، إلى الإدارات المتعاقبة التي تركت النفايات تأكل المدينة، كان الجميع – وبلا استثناء – إما متواطئًا وإما مقصرًا.
هكذا وُلد "جبل النفايات الجديد" أو كما يسميه البعض بسخرية "جبل الجمهورية البيئية اللبنانية"
تلوث البحر… والوعي
جبل النفايات لم يبقَ حبيس اليابسة. أجزاء كبيرة منه انهارت في البحر، ملوثة الساحل بمئات الأطنان من البلاستيك والمواد السامة، ومسببة هروب الأسماك من الشاطئ الصيداوي. الدراسات البيئية تشير إلى أن بعض المواد البلاستيكية الموجودة في قاع البحر تحتاج إلى 400 سنة لتتحلل. 400 سنة من أثر قرار بلدي خاطئ، أو بالأحرى، غياب القرار.
جبل النفايات ليس تلالًا من القمامة فقط، بل تلالًا من الأكاذيب. كل من جلس في البلدية، أو دخل المجلس النيابي ممثلًا عن المدينة، أو رفع شعارات الإصلاح، كان يومًا ما شاهد زور على هذه الجريمة البيئية المتواصلة.
والأدهى، أن بعض المرشحين اليوم يعِدون بـ”حل جذري لأزمة النفايات”، وكأنهم لم يكونوا شركاء فيها بالأمس. لا تصدقوا مرشحًا مستقلاً في صيدا… فلكل مرشح ظهر، ولكل ظهر حزب أو نائب سابق يسنده من الخلف.
أرقام تكشف الفضيحة
1.5 مليون طن نفايات متراكمة في المكب القديم
60,000 م² مساحة الجبل المحاذي للشاطئ
60 مترًا ارتفاع الجبل
500 طن يوميًا قدرة المعمل التصميمية، مقابل أكثر من 750 طنًا فعليًا ترده يوميًا
20 ألف متر مربع من المساحات البحرية الملوثة
4 ملايين دولار مجموع المستحقات المتأخرة للمتعهدين في السنوات الأخيرة
0 صفر محاسبة حتى اليوم
هل من أمل؟
الحل لا يكون بترقيع جبل بنار، بل بإرادة حقيقية، وخطة وطنية مستدامة، تشمل:
مطمر صحي
إنشاء مطمر صحي نموذجي بمواصفات علمية
الفرز من المصدر
تفعيل الفرز من المصدر في البيوت
هيكلة المعمل
إعادة هيكلة المعمل الحالي وضبط الكميات التي يستقبلها
هيئة رقابية
إنشاء هيئة رقابية مستقلة لمراقبة الأداء البيئي للبلدية والمعمل
المحاسبة
محاسبة كل من تسبب أو تستر أو سكت
إن الحريق الذي رأيناه هو مجرد عارض مرئي لأزمة خفية أكبر: أزمة في الوعي، في الإدارة، وفي الضمير. وصيدا، التي عاشت سنواتها على أمل البحر، صارت اليوم مدينة تنظر من شرفاتها إلى جبل من القمامة… وتحترق معه.