تحميل

إبحث

وجوه وحكايات

عبد القادر الجزائري… سيفُ الكرامة والحرية

abdelkader_heroic

في مثل هذه الأيام، وفي زمنٍ عزَّ فيه الأبطال، وسطوةِ استعمارٍ أرادَ طمسَ الهويةِ وكسرَ الإرادة، بزغَ نجمُ الأميرِ عبد القادر الجزائري الحسني، ليُسطِّرَ بدمِه ومدادِه ملحمةً خالدةً من الصمودِ والتحدي. لم يكن مجردَ قائدٍ عسكري، بل كان مؤسسَ دولة، وعالمًا، وشاعرًا، وإنسانًا تجلَّت فيه أسمى قيمِ الفروسيةِ والإيمان

لهيبُ المقاومةِ

سبعةَ عشرَ عامًا، لم يهدأ فيها سيفُ الأمير، ولم تلِن له قناة. سبعةَ عشرَ عامًا واجهَ فيها أعتى قوةٍ استعماريةٍ في عصرِه، فرنسا، بكلِّ ما أوتيَ من عزمٍ وبسالة. لم تكن مجردَ مناوشات، بل كانت 116 معركةً ضارية، ذاقَ فيها الغزاةُ مرارةَ الهزيمة، وسقطَ منهم 97 ألفَ قتيل، شاهدين على بأسِ رجالٍ آمنوا بحقِّهم في الحريةِ والكرامة. لم يكن رقمًا عابرًا، بل كان ثمنَ صمودِ أمةٍ أبيَّةٍ بقيادةِ أميرِها.

لم تهتزْ لصولاتِه باريسُ فحسب، بل اهتزَّ عرشُها، وسقطَ ملكٌ (لويس فيليب)، وتهاوى 13 وزيرَ حربيةٍ فرنسي، وعُزِلَ 122 جنرالًا عجزوا عن كسرِ شوكةِ هذا الفارسِ الجزائري. أيُّ عمالةٍ هذه التي تُسقِطُ العروشَ وتُذلُّ الجنرالات؟!

في عام 1832م، لم يكن أمامَ فرنسا، رغمَ غطرستِها، إلا أن تُذعنَ لقوةِ الحق، فاعترفت به سلطانًا على أجزاءٍ واسعةٍ من الجزائرِ الحرةِ المستقلة. اتخذَ من معسكر عاصمةً لدولتِه الفتية، وقسَّمَها إلى ولاياتٍ ثمانٍ، ليضعَ أسسَ الجزائرِ الحديثة، دولةً لها سيادةٌ وقانونٌ وجيشٌ، في قلبِ التحدي وتحتَ نيرانِ المدافع.

من معركةِ المقطعِ إلى سيدي براهم، ومن بودواو إلى وادي العلايق، ومن الزمالةِ إلى تيزي وزو… أسماءٌ لمعاركٍ ليست مجردَ حبرٍ على ورق، بل هي فصولٌ من ملحمةِ البطولة، كلُّ واحدةٍ منها أغلى من ألفِ وسام، تروي قصةَ شعبٍ قاومَ المحتلَّ بقيادةِ أميرِه الشجاع.

مواجهةُ التشويه

وكعادةِ الخصومِ حين يعجزون عن كسرِ السيف، يلجؤون إلى تشويهِ السيرة. انطلقت حملاتٌ مسعورةٌ تتهمُ الأميرَ بالماسونيةِ والعمالة، محاولةً يائسةً لطمسِ هذا الرمزِ الشامخ، وحرمانِ الأمةِ من أحدِ أعظمِ أبطالِها في قرنٍ شحَّ فيه الرجال. استندوا في افتراءاتِهم على كتاباتِ حاقدين مثل تشرشل، وعلى نعيِ الماسونيةِ له بعد وفاتِه.

لكنَّ الحقيقةَ ساطعةٌ كالشمس. لم يكن نعيُ الماسونيةِ إلا محاولةً لسرقةِ بطلٍ لم يكن منهم يومًا. لقد نعوه إعجابًا بموقفِه الإنسانيِّ العظيمِ عام 1860م في دمشق، حين فتحَ بيتَه وقلبَه ليحميَ 15 ألفَ مسيحي من مذبحةٍ طائفية، ضاربًا أروعَ الأمثلةِ في التسامحِ والشهامةِ المستمدةِ من دينِه وقيمِه العربيةِ الأصيلة. هذا الموقفُ الذي أذهلَ العالمَ وجلبَ له التكريمَ من دولٍ شتى، حاولَ المشوهون تحريفَ سببه لجعله دليلَ خيانة! وقد نفى حفيدُه سعيدٌ الجزائري بشكلٍ قاطعٍ انتماءَ جدِّه للماسونية.

أما تهمةُ العمالةِ لفرنسا، فتُسقِطُها أرقامُ الضحايا الفرنسيين، وعددُ المعارك، والجنرالاتُ المهزومون، والوزراءُ المعزولون، والملكُ المخلوع. أيُّ عميلٍ هذا الذي يُكبِّدُ أعداءَه كلَّ هذه الخسائر ويُجبرُهم على الاعترافِ بدولتِه؟

ترجُّلُ الفارسِ وبقاءُ الأثر

لم يسقط الأميرُ في ميدانِ القتال، بل ترجَّلَ عن جوادِه حين تكالبَ عليه العالمُ، وأدركَ أعداؤُه خطورةَ مشروعِه التحرري. تحالفت فرنسا مع إسبانيا وأمريكا وبريطانيا، رغمَ ما بينهم من عداوات، فقط لإسقاطِ هذا البطل. حاصروا دولتَه برًا وبحرًا، ومنعوا عن جيشِه السلاح. في عام 1847م، وبعد أن أرهقَ فرنسا وأثخنَ فيها الجراح، سلَّمَ نفسَه بشروط، طالباً المنفى في عكا أو الإسكندرية، لكنَّ الغدرَ كان له بالمرصاد، فأُرسِلَ أسيرًا إلى سجونِ فرنسا لخمسِ سنوات.

حتى في أسره، كان شبحُه يُقلقُ ملوك فرنسا. أوصى لويس فيليب خليفتَه نابليون الثالث بالتشديدِ عليه. ولكنَّ الأخير، بعد أن استتبَّ له الأمرُ إمبراطورًا، أدركَ أن جزءًا من وصولِه للعرشِ مدينٌ لهذا الأميرِ الذي استنزفَ مملكةَ سلفِه وأسهمَ في إشعالِ ثورة 1848م التي أطاحت به. فأطلقَ سراحَ الأميرِ عام 1852م، تقديرًا، وربما خوفًا، من أثرِه الباقي.

الحكمةِ والكرامةِ في المنفى

لم تكسر سنواتُ الأسرِ عزيمةَ الأمير. انتقلَ إلى إسطنبول ثم استقرَّ في دمشقَ عام 1856م، عالمًا جليلًا ومدرسًا في المسجدِ الأموي. تسابقَ أهلُ الشامِ لإكرامِه، وبقيَ أميرًا في منفاه كما كان أميرًا في دولتِه. حتى في زيارتِه لمصرَ لدعمِ مشروعِ قناةِ السويس، عامله الخديويُّ إسماعيل معاملةَ الملوك، مُقدِّمًا إياه على نفسِه في المجالس، اعترافًا بمكانتِه الجهاديةِ والسياسيةِ والدينية.

في دمشق، جاءَ موقفُه البطوليُّ عام 1860م، ليُتوِّجَ سيرتَه العطرة، ويُثبتَ للعالمِ أنَّ البطولةَ ليست قتالًا فحسب، بل هي نُبلٌ وإنسانيةٌ وتسامح. أنقذَ الآلافَ من المسيحيين، فنالَ شهرةً عالميةً وأوسمةً، بما فيها وسامٌ من فرنسا نفسِها، ليس لعمالةٍ كما يزعمُ المفترون، بل لعملٍ إنسانيٍّ نبيلٍ أخرسَ ألسنةَ الحاقدين.

لم تكن مجردَ مناوشات، بل كانت 116 معركةً ضارية، ذاقَ فيها الغزاةُ مرارةَ الهزيمة، وسقطَ منهم 97 ألفَ قتيل، شاهدين على بأسِ رجالٍ آمنوا بحقِّهم في الحريةِ والكرامة
separator

إرثٌ لا يموت

في 26 مايو 1883م، رحلَ الأميرُ عبد القادر الجزائري في دمشق، المدينةِ التي أحبَّته واحتضنَته. دُفِنَ فيها، ليبقى رمزًا للعروبةِ والإسلامِ المتسامح، قبل أن يُنقلَ رفاتُه إلى أرضِ الوطنِ التي أحبَّها وقاتلَ من أجلِها، الجزائر، في عام 1966م.

رحلَ الأمير، لكنَّ سيرتَه بقيت نبراسًا يُضيءُ دروبَ الأحرار. قصةُ كفاحٍ ضدَّ الظلم، وصمودٍ في وجهِ المستحيل، ونُبلٍ في الحربِ والسلم. إنه الأميرُ عبد القادر الجزائري، البطلُ الذي لا يزالُ حيًا في ذاكرةِ الأمة، شاهدًا على أنَّ الحقَّ لا يموت، وأنَّ البطولةَ الحقيقيةَ لا تُشوِّهُها الأكاذيب.

 

 

العلامات

أترك تعليقاً

Your email address will not be published. Required fields are marked *

تفعيل التنبيهات نعم كلا