الدَّولة البوليسيَّة… بَعضٌ مِن الفَطنَةِ و”الهَضَامَةِ”

في توصيف “مهضوم” لصحافية سابقة في إحدى الصحف، حين كان الكلام يتناول الزميل وسام سعادة، أنه “في الوقت الذي كان أقرانه يقرأون في طفولتهم قصص سوبرمان وسبايدر مان، كان هو منغمسًا في تحليل ماركس وإنجلز
ما جرى بالأمس مع سعادة، يُعتبر “دعسة ناقصة” للعهد الجديد. بصمة سوداء ستترك أثرًا وربما ندوبًا. مثل هكذا أمور ترسخ في أذهان الناس وترسخ فكرة أن شيئًا لم يتغير مع المرحلة الجديدة التي يخطوها البلد.
اقتحام منزل سعادة ومصادرة هاتفه وكومبيوتره تصرف يفتقد إلى الفطنة وبعد النظر مهما تكن الدوافع والمعطيات لاتخاذه. ألم يخطر في بال من قرر أن المستهدف هو صحافي، مع كل ما سيحمله الأمر من تداعيات؟ هل يتم التعامل مع رقم مشبوه في إسرائيل بهذه الطريقة؟ حكمًا لا. خاصّة إن كان سعادة نفسه هو الذي أبلغ السلطات الأمنية بذلك.
مجدّدًا يفتح هذا الأمر، بالمباشر، البحث في مفهوم “الدولة البوليسية” في لبنان، ودول العالم الثالث وحتى المتطوّرة.
الأمن ذريعة للقمع
يُعدّ مفهوم “الدولة البوليسية” (Police State) من أكثر المصطلحات إثارة للقلق في قاموس العلوم السياسية وحياة الناس وحقوق الإنسان. فهو يرسم صورة قاتمة لنظام حكم يتحول فيه “جهاز الأمن”، الذي يُفترض أن يكون أداة لحماية المواطنين وفرض القانون، إلى أداة قمع وسيطرة شاملة بيد السلطة التنفيذية، تخترق كل جوانب الحياة العامة والخاصة.
في الدولة البوليسية، يختفي الخط الفاصل بين القانون وممارسة السلطة، وتُستخدم ذريعة “الأمن القومي” أو “محاربة الإرهاب” أو “الحفاظ على الاستقرار” لتبرير انتهاكات ممنهجة لحقوق الإنسان وتقييد الحريات الأساسية.
لا يقتصر خطر الدولة البوليسية على الأنظمة الديكتاتورية الصريحة أو الشمولية الكلاسيكية التي عرفها التاريخ، بل يتسلل أيضًا إلى أنظمة تدّعي الديمقراطية، مستغلًا التطورات التكنولوجية الهائلة في مجال المراقبة وجمع البيانات، ومستفيدًا من حالات الطوارئ والأزمات لتوسيع صلاحيات الأجهزة الأمنية على حساب الحريات المدنية. إنها ظاهرة معقدة ومتغيرة، تتخذ أشكالًا مختلفة، من القمع الوحشي المباشر إلى السيطرة الناعمة والمقنّنة التي تخنق المجتمع ببطء.
الخصائص وتفكيك المفهوم
تطور مفهوم الدولة البوليسية ولم يعد يقتصر على النماذج الكلاسيكية للقمع الشمولي، لكن تبقى السمة الجوهرية هي هيمنة الأجهزة الأمنية (الشرطة، المخابرات، الجيش أحيانًا) وتغلغلها في مفاصل الدولة والمجتمع، بحيث تصبح هي السلطة الفعلية التي تدير البلاد، حتى لو وُجدت واجهات ديمقراطية شكلية.
- هيمنة السلطة التنفيذية: تتركز السلطة بشكل كبير في يد الجهاز التنفيذي (الرئيس، الحكومة)، الذي يسيطر على الأجهزة الأمنية ويوجهها لخدمة مصالحه وترسيخ حكمه، مع تهميش أو إضعاف السلطتين التشريعية والقضائية لضمان عدم وجود رقابة أو مساءلة حقيقية.
- تضخم دور الأجهزة الأمنية: يتجاوز دور الشرطة والأجهزة الأمنية مهامها التقليدية في حفظ النظام ومكافحة الجريمة ليصبح دورًا سياسيًا بامتياز، يهدف إلى قمع المعارضة، ومراقبة المواطنين، وجمع المعلومات عنهم، والتدخل في كافة مناحي الحياة.
- غياب سيادة القانون: غالبًا ما يتم انتهاك القانون والدستور بشكل ممنهج من قبل السلطة وأجهزتها الأمنية. قد يتم سن قوانين قمعية تحت ذرائع مختلفة (مثل قوانين الطوارئ، مكافحة الإرهاب، الجرائم الإلكترونية) لتوفير غطاء “شرعي” للممارسات القمعية، ولكن حتى هذه القوانين يتم تطبيقها بشكل انتقائي وتعسفي.
- الشرطة السرية والمراقبة الواسعة: تعتمد الدول البوليسية بشكل كبير على أجهزة الشرطة السرية والمخابرات التي تعمل خارج نطاق الرقابة العامة والقانونية. تمارس هذه الأجهزة مراقبة واسعة النطاق للمواطنين، سواء عبر الوسائل التقليدية (المخبرين، التنصت) أو التقنيات الحديثة (مراقبة الإنترنت، كاميرات التعرف على الوجوه، تحليل البيانات الضخمة)، مما يخلق جوًا من الخوف وانعدام الثقة.
- تقييد الحريات الأساسية: يتم قمع حرية التعبير، وحرية الصحافة، وحرية التجمع السلمي، وحرية التنظيم بشكل كبير. يُنظر إلى أي صوت معارض أو مستقل على أنه تهديد يجب إسكاته، وتُستخدم الاعتقالات التعسفية، والمحاكمات غير العادلة، والتعذيب، والاختفاء القسري كأدوات لترهيب المعارضين والمواطنين عمومًا.
- السيطرة على المعلومات والإعلام: تسعى الدولة البوليسية للسيطرة على تدفق المعلومات وتوجيه الرأي العام من خلال التحكم في وسائل الإعلام الرسمية والخاصة، ونشر الدعاية، وحجب المواقع الإلكترونية، وملاحقة الصحفيين المستقلين والنشطاء على وسائل التواصل الاجتماعي.
إن فهم هذه الخصائص والآليات ضروري لتشخيص الظاهرة ومواجهتها، سواء في أشكالها الصارخة أو في تجلياتها الأكثر دهاءً وتخفّيًا في عالمنا المعاصر.
كيف تعمل؟
لا تكتفي الدولة البوليسية بوجود أجهزة أمنية قوية، بل تطوّر وتستخدم مجموعة واسعة من الأدوات والممارسات لضمان السيطرة الشاملة وإخماد أي معارضة محتملة. تتنوع هذه الأدوات بين القمع المباشر والسيطرة الناعمة، وغالبًا ما يتم توظيف التكنولوجيا الحديثة لزيادة فعاليتها. من أبرز هذه الممارسات:
• المراقبة الشاملة (Surveillance): تُعد المراقبة حجر الزاوية في عمل الدولة البوليسية. يتم مراقبة المواطنين بشكل مكثف، سواء في الفضاء العام أو الخاص. يشمل ذلك مراقبة الاتصالات (الهاتف، الإنترنت)، ورصد النشاط على وسائل التواصل الاجتماعي، واستخدام شبكات واسعة من المخبرين، ونشر كاميرات المراقبة المتقدمة (بما في ذلك تقنيات التعرف على الوجوه). الهدف ليس فقط كشف المعارضين، بل أيضًا بث شعور دائم بالرقابة والخوف لدى المواطنين، مما يدفعهم إلى الرقابة الذاتية وتجنب أي نشاط قد يُعتبر “مشبوهًا”.
• القمع المباشر والعنف: تستخدم الدولة البوليسية القوة المفرطة وغير المشروعة لقمع أي شكل من أشكال الاحتجاج أو المعارضة. يشمل ذلك استخدام العنف ضد المتظاهرين السلميين، والاعتقالات التعسفية، والاحتجاز دون محاكمة، والتعذيب وغيره من ضروب المعاملة السيئة في مراكز الاحتجاز، وفي الحالات القصوى، عمليات الإعدام خارج نطاق القضاء والاختفاء القسري. تهدف هذه الممارسات إلى ترهيب المعارضين وتلقين المجتمع درسًا حول عواقب تحدي السلطة.
• تقييد الحريات المدنية والسياسية: يتم تقييد حرية التعبير والصحافة والتجمع والتنظيم بشكل صارم. تُفرض رقابة مشددة على وسائل الإعلام، ويتم حجب المواقع الإلكترونية ومنصات التواصل الاجتماعي، وتُستخدم قوانين فضفاضة (مثل “نشر أخبار كاذبة” أو “إهانة رموز الدولة” أو “المساس بالأمن القومي”) لملاحقة الصحفيين والنشطاء والمعارضين. كما يتم تقييد عمل الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني المستقلة أو حظرها تمامًا.
• توظيف القانون والقضاء: بدلاً من أن يكون القضاء حصنًا للعدالة وحماية الحقوق، يتم في الدولة البوليسية تحويله إلى أداة للقمع. تُستخدم المحاكم، وخاصة المحاكم الاستثنائية أو العسكرية، لإصدار أحكام قاسية ضد المعارضين بناءً على تهم ملفقة أو قوانين قمعية، وغالبًا ما تفتقر هذه المحاكمات لأبسط معايير العدالة. يتم الضغط على القضاة والمحامين أو استبعادهم لضمان صدور الأحكام المطلوبة.
• الدعاية والسيطرة على السردية: تعمل الدولة البوليسية على احتكار السردية وتشكيل الرأي العام من خلال الدعاية المكثفة عبر وسائل الإعلام التي تسيطر عليها. يتم تمجيد الحاكم والنظام، وشيطنة المعارضين، وتبرير الإجراءات القمعية بأنها ضرورية للحفاظ على الأمن والاستقرار ومواجهة “المؤامرات الخارجية”.
• السيطرة الاقتصادية والاجتماعية: قد تمتد سيطرة الدولة البوليسية لتشمل التحكم في الاقتصاد والمجتمع. يتم استخدام الموارد الاقتصادية لمكافأة الموالين ومعاقبة المعارضين، وقد يتم التدخل في التعيينات والترقيات في القطاعين العام والخاص بناءً على الولاء السياسي. كما قد تسعى الدولة للسيطرة على المؤسسات الدينية والتعليمية والثقافية لضمان توافقها مع أيديولوجية النظام.
تتكامل هذه الأدوات والممارسات لتشكل شبكة معقدة من السيطرة والقمع تهدف إلى إحكام قبضة السلطة على المجتمع وتجريد المواطنين من قدرتهم على المشاركة أو الاعتراض.

إن سيطرة الدولة البوليسية وقمعها الممنهج لا يمران دون تكلفة باهظة يدفعها المواطنون والمجتمع ككل، بل والدولة نفسها على المدى الطويل وتؤدي إلى:
تدهور حقوق الإنسان والحريات الأساسية: هذا هو الأثر الأكثر مباشرة ووضوحًا. يُحرم المواطنون من حقوقهم الأساسية في الحياة، والأمان الشخصي، وحرية التعبير، والتجمع، والتنظيم.
تدمير الثقة بين المواطن والدولة: عندما تتحول أجهزة الدولة، وخاصة الأمنية، من حامية للمواطن إلى أداة لقمعه، تنهار الثقة تمامًا بين الطرفين. ينظر المواطنون إلى مؤسسات الدولة بعين الشك والريبة، ويفقدون أي شعور بالانتماء أو الولاء.
خنق الإبداع والتنمية: البيئة القمعية التي تفرضها الدولة البوليسية تخنق الإبداع والمبادرة في كافة المجالات. الخوف من الملاحقة والرقابة يثبط عزيمة المفكرين والعلماء والفنانين ورجال الأعمال. يتراجع الاستثمار، وتهاجر الكفاءات والعقول، ويتدهور الاقتصاد نتيجة انتشار الفساد المرتبط غالبًا بالأجهزة الأمنية
تفكك النسيج الاجتماعي: تؤدي الدولة البوليسية إلى تآكل الروابط الاجتماعية. يشجع نظام المراقبة والمخبرين على الوشاية وانعدام الثقة بين الأفراد، حتى داخل الأسرة الواحدة. كما أن القمع قد يؤدي إلى استقطاب حاد في المجتمع بين مؤيدين للنظام ومعارضين له، أو قد يغذي الانقسامات الطائفية أو العرقية
تطرف وعنف مضاد: على المدى الطويل، قد يؤدي القمع الشديد وإغلاق كافة قنوات التعبير السلمي إلى دفع بعض فئات المجتمع نحو التطرف والعنف كوسيلة وحيدة للتغيير أو الانتقام
العزلة الدولية وتشويه السمعة: غالبًا ما تواجه الدول البوليسية إدانات دولية وعقوبات اقتصادية وسياسية بسبب سجلها السيئ في حقوق الإنسان. يؤدي ذلك إلى عزلتها على الساحة الدولية وتشويه سمعتها، مما يضر بمصالحها الاقتصادية والسياسية.

هل من أمل؟
الدولة البوليسية، وإن بدت قوية ومسيطرة في الظاهر، إلا أنها تحمل في طياتها عوامل ضعفها وتدميرها الذاتي. فالقمع لا يمكن أن يستمر إلى الأبد، والثمن الذي يُدفع مقابل السيطرة الأمنية غالبًا ما يكون باهظًا جدًا على المستويين الإنساني والمجتمعي.
كيف نواجه؟
إن مواجهة خطر الدولة البوليسية تتطلب يقظة دائمة، ودفاعًا مستمرًا عن المبادئ الأساسية للديمقراطية، وحقوق الإنسان، وسيادة القانون. يتطلب الأمر تعزيز المؤسسات الرقابية المستقلة، وخاصة القضاء المستقل، والإعلام الحر، والمجتمع المدني النشط، لضمان مساءلة السلطة التنفيذية وأجهزتها الأمنية. كما يتطلب وعياً مجتمعياً واسعًا بأهمية الحريات المدنية ورفض أي محاولة للمقايضة بين الأمن والحرية، فالتاريخ يثبت أن الأمن الحقيقي والمستدام لا يمكن أن يتحقق إلا في ظل العدالة والحرية واحترام كرامة الإنسان.النضال ضد الدولة البوليسية ليس مجرد معركة سياسية، بل هو دفاع عن جوهر إنسانيتنا…