عصابات التسوّل في صيدا..إلى متى؟


إنَّهُم عِصابةٌ، بكُلِّ ما لِلكلمةِ مِن معنًى. عِصابةٌ مِن المُتسوِّلينَ والشَّحّاذينَ تَغزو شَوارِعَ صَيدا مُنذُ سَنَواتٍ، وتَتمدَّدُ وتَزيدُ، لِتُمارِسَ أنشِطَتَها المُزعِجَةَ على مَرأًى مِن الجَميع، ولا مَن يُحرِّكُ ساكنًا لِآفَةٍ باتَت تُؤثِّرُ على حَياةِ الصَّيداويّينَ ومَدينَتِهِم، وَآنَ لها أن تَنتَهي
في قلب صيدا، عند تقاطع ساحة إيليا الحيوي وإشارة سبينس على الأوتوستراد الشرقي، تتكرّر يومياً مشاهد مؤلمة تحكي قصة ظاهرة اجتماعية معقّدة تفاقمت مع الأزمات الاقتصادية. هنا، حيث تتوقّف السيارات عند الإشارات الضوئية، يظهر جيش من المتسوّلين، معظمهم من الأطفال والقاصرين، يحاولون كسب لقمة العيش بطرق تثير القلق والاستياء معاً.
ليست هذه مجرّد حالات فردية عفوية، بل ظاهرة منظّمة تقف خلفها شبكات تستغلّ براءة الأطفال وحاجة الأُسَر، في ظلّ غياب واضح للحلول الجذرية من قِبَل السلطات المعنية. فبينما يعاني المواطنون من إزعاج يومي يحدّ من حرية تنقّلهم، يدفع الأطفال المتسوّلون ثمناً أغلى بكثير: طفولتهم وكرامتهم وأحياناً سلامتهم الجسدية.
عندما يصبح المرور كابوساً يومياً
تحكي المواطنة ر.ج. عن تجربتها اليومية بنبرة تمزج بين الإحباط والخوف: “عندما أقترب من ساحة إيليا، أبادر إلى إقفال نوافذ السيارة خوفاً من إزعاج المتسوّلين الذين يحاولون فرض أنفسهم بتنظيف زجاج السيارة أو بيع ورق التنظيف، بطريقة غير لائقة”. هذه الشهادة تعكس واقعاً يعيشه آلاف المواطنين يومياً في مدينة صيدا، حيث تحوّلت عملية المرور العادية إلى تجربة مُرهِقة نفسياً.
من جهته، يعلّق المواطن ح.ه. باستغراب واضح: “غريب أمر هذه الظاهرة المزعجة، لا أحد يهتمّ بإيجاد حلول لها من أجل تسهيل مرور السيارات في ساحة إيليا”. هذا التساؤل يطرحه العديد من سكّان المدينة الذين يشعرون بالعجز أمام استمرار هذه الظاهرة رغم الشكاوى المتكرّرة.
لكن الأمر يتجاوز مجرّد الإزعاج ليصل إلى حدّ التهديد والعنف أحياناً. فقد شهدت المدينة حوادث متعدّدة، منها إطلاق النار على إحدى المتسوّلات عند إشارة سبينس، وحوادث صدم أخرى عند تقاطع إيليا، ما يؤكّد خطورة الوضع وحاجته إلى تدخّل عاجل.
أرقام صادمة وحقيقة مؤلمة
تشير الإحصائيات المحلّية إلى وجود أكثر من 120 متسوّلاً ومتسوّلة في مدينة صيدا، معظمهم من القاصرين والقاصرات. هذا الرقم، وإن بدا محدوداً مقارنة بالأرقام الوطنية، إلّا أنّه يكتسب أهمية خاصة عندما نعلم أنّ 90% من هؤلاء المتسوّلين ينتمون إلى مناطق محلّية في صيدا، تحديداً منطقة السكّة والبركسات، بينما يأتي 10% فقط من مناطق أخرى مثل العاقبية وخلدة.
هذا التوزيع الجغرافي يكشف عن طبيعة محلّية للمشكلة، ما يجعل إمكانية إيجاد حلول لها أكثر واقعية من الناحية النظرية. فالمتسوّلون ليسوا غرباء عن المدينة، بل هم جزء من نسيجها الاجتماعي، ما يعني أنّ معالجة أوضاعهم تتطلّب تدخّلاً اجتماعياً واقتصادياً محلّياً أكثر من كونها مسألة أمنية بحتة.
على المستوى الوطني، تشير التقارير إلى وجود أكثر من 1500 طفل متسوّل في لبنان، فيما تؤكّد إحصائيات أخرى أنّ أكثر من 3000 طفل يعيشون في الشوارع اللبنانية، علماً أنّ العدد الحقيقي قد يكون أكبر بثلاث مرّات. هذه الأرقام تضع مشكلة صيدا في سياق وطني أوسع، حيث تمثّل المدينة نموذجاً مصغّراً لأزمة اجتماعية تعصف بالبلاد.
الطفولة تُسرَق على قارعة الطريق
تروي إحدى الزميلات قصة مؤثّرة حدثت معها منذ سنوات، تكشف عن الوجه الأكثر قتامة لهذه الظاهرة: “أوقفت طفلة لا يتجاوز عمرها 12 عاماً، وسألتها عن سبب تسوّلها عند إشارة سبينس في صيدا”. الجواب كان صادماً في بساطته ووضوحه: “أهلي طلبوا مني ذلك، وأنّ عليّ تحصيل المال كي أعيش”.
لكن الأمر لم يتوقّف عند هذا الحدّ. فعندما سُئِلت الطفلة عن المشكلات التي تواجهها خلال تواجدها في الشارع، كانت صريحة جداً إذ قالت: “تعرّضت مرّتين للتحرّش الجنسي وحاول أحدهم نقلي بالسيارة بعد تحرّشه، وعندما أخبرت أمّي ووالدي كان الصمت جوابهما الوحيد”.
هذه الشهادة تكشف عن جريمة مضاعفة: استغلال الأطفال في التسوّل من جهة، وتعريضهم لمخاطر التحرّش والاعتداء من جهة أخرى، في ظلّ صمت أُسَري مريب يثير تساؤلات حول طبيعة الضغوط التي تُمارَس على هؤلاء الأطفال. فالطفلة لم تكن تتسوّل بدافع الحاجة الشخصية، بل تنفيذاً لأوامر عائلية، ما يشير إلى وجود منظومة استغلال منهجية.
شبكات منظّمة
تؤكّد مصادر متعدّدة وجود مشغّلين للمتسوّلين في صيدا، حيث يجري نقل بعضهم صباحاً إلى نقاط التسوّل ومتابعتهم من بعيد، فيما يأتي آخرون سيراً على الأقدام. هذا التنظيم يكشف عن طبيعة “مهنية” للظاهرة، حيث تتحوّل معاناة الأطفال إلى مصدر دخل لأطراف أخرى.
يشير أحد المواطنين إلى أنّ القوى الأمنية اللبنانية على معرفة بمن يعمل كميسّرين لأمور التسوّل في منطقة صيدا، لكن هذه المعرفة لا تُترجَم إلى إجراءات عملية لوقف هذا النشاط. هذا الوضع يطرح تساؤلات حول طبيعة العلاقات التي تحمي هذه الشبكات وتمنع تفكيكها.
الأمر الأكثر إثارة للقلق هو ما يشير إليه بعض المراقبين من وجود تغطية سياسية للجهات المشغّلة، ما يفسّر استمرار هذه الظاهرة رغم وضوحها وعلنيتها. فالتسوّل في صيدا ليس مجرّد ظاهرة اجتماعية عفوية، بل نشاط منظّم يحظى بحماية تمنع القضاء من اتّخاذ قرارات حاسمة بحقّ المسؤولين عنه.
هذا التنظيم يتجلّى أيضاً في توزيع المتسوّلين على نقاط استراتيجية محدّدة، حيث تشهد ساحة إيليا وتقاطع سبينس أعلى كثافة، بينما تنتشر مجموعات أصغر في نقاط أخرى من المدينة. هذا التوزيع المدروس يؤكّد وجود تخطيط مسبق وإدارة محكمة لهذا النشاط.
جهود متكرّرة وفشل مستمرّ
لم تقف السلطات المحلّية مكتوفة الأيدي أمام هذه الظاهرة، فقد حاولت الشرطة البلدية في بلدية صيدا منع القاصرين والقاصرات من التسوّل مراراً وتكراراً. لكن هذه المحاولات اصطدمت بعقبة قانونية أساسية: الشرطة البلدية ليست ضابطة عدلية، أي غير قادرة على توقيفهم أو اتّخاذ خطوات عقابية بحقّهم، والقوى الأمنية المسؤولة ترفض استلامهم.
هذا الوضع يكشف عن فجوة قانونية وإجرائية تسمح باستمرار الظاهرة رغم وجود القوانين التي تجرّمها. فبينما تملك البلدية الإرادة للتدخّل، تفتقر إلى الصلاحيات القانونية، وبينما تملك القوى الأمنية الصلاحيات، تفتقر إلى الإرادة أو التوجيهات للتدخّل الفعّال.
من جهة أخرى، شهدت المدينة مبادرات فردية مهمّة، أبرزها مبادرة عضو المجلس البلدي السابق د. محمد حسيب البزري، الذي حاول منع المتسوّلين من التسوّل وتأمين مساعدات وفرص عمل بديلة. لكن هذه المبادرات، رغم نُبل أهدافها وجدّية القائمين عليها، باءت بالفشل أمام حجم المشكلة وتعقيداتها الاجتماعية والاقتصادية.
الفشل المتكرّر لهذه المبادرات يطرح تساؤلات حول طبيعة الحلول المطلوبة. فالمشكلة لا تكمن في غياب الوعي أو الإرادة الفردية، بل في غياب استراتيجية شاملة تعالج الأسباب الجذرية للظاهرة وتوفّر بدائل حقيقية للمتسوّلين وعائلاتهم.
قوانين موجودة لكن التطبيق غائب
يتضمّن القانون اللبناني نصوصاً واضحة تجرّم التسوّل وتعاقب عليه. فالمادة 613 من قانون العقوبات تنصّ على معاقبة من يمتهن التسوّل بالحبس من ستة أشهر إلى سنتين مع التشغيل، فضلاً عن وضعه في دار للتشغيل كتدبير إجباري.
أمّا المادة 618 من القانون نفسه فتشدّد العقوبة على من يدفع قاصراً دون الثامنة عشرة من عمره إلى التسوّل، حيث تنصّ على الحبس من ستة أشهر إلى سنتين وغرامة تتراوح بين الحدّ الأدنى للأجور وثلاثة أضعافه. هذا النصّ يستهدف تحديداً الحالات التي نشهدها في صيدا، حيث يتمّ دفع الأطفال للتسوّل من قِبَل ذويهم أو مشغّليهم.
كما يشدّد القانون العقوبة في حالات معيّنة، منها التسوّل بالتهديد أو أعمال الشدّة، أو بحمل شهادة فقر كاذبة، أو بالتظاهر بجراح أو عاهات، أو بالتنكّر. هذه الحالات المشدّدة تنطبق على العديد من الممارسات المشاهدة في شوارع صيدا.
الغرامات المنصوص عليها في القانون تتراوح بين 100 و600 ضعف الحدّ الأدنى للأجور، وذلك وفق ظروف ارتكاب الجريمة وما ينتج منها من أذى، ووفق صفة الشخص المرتكب ودرجة قرابته من المتسوّل. هذه العقوبات، لو طُبِّقت فعلياً، لكانت كافية لردع الكثير من المشغّلين والمستفيدين من هذا النشاط.
لكن المشكلة تكمن في التطبيق. فرغم وضوح النصوص القانونية وشموليتها، إلّا أنّ تطبيقها على أرض الواقع يبقى محدوداً جداً. السلطات المركزية المعنية لم تتّخذ أية إجراءات تمنعهم من التسوّل، مع أنّ ذلك من صلاحياتها. والقضاء، حتى اللحظة، لم يبادر لأخذ قرارات بحقّ المشغّلين الذين يتحمّلون مسؤولية ما يحصل.
خارطة طريق للخروج من الأزمة
في ظلّ هذا الواقع المعقّد، يطرح ناشطون ومهتمّون حلولاً عملية قابلة للتطبيق. يقول أحد الناشطين في تجمّع “عل صوتك”: “الآن وبعد الانتخابات البلدية الأخيرة، على اللجنة البلدية المكلّفة بالموضوع أن تُعِدّ تقريراً واضحاً ومحدّداً عن المتسوّلين، أماكن سكنهم، المشغّلين، الحماية السياسية والقانونية لهم”.
هذا التقرير، بحسب المقترح، يجب أن يشكّل أساساً للطلب من الجهات الرسمية اتّخاذ القرارات المناسبة التي تمنع من استمرار الحال على ما هو عليه، وذلك من خلال منع التسوّل في النقاط المعنية في المدينة تحت طائلة المسؤولية.
الحلّ الثاني المقترح يتمثّل في تشكيل لجنة من الجمعيات الأهلية المعنية بالتعاون مع البلدية لوضع خطة لإعادة تأهيل الأطفال، وتمكينهم من مِهَن تساعدهم في حياتهم. لكن هذا الحلّ يواجه تحدّياً أساسياً، إذ أنّ الجمعيات التي تهتمّ بهذا الموضوع نادرة الوجود، ما يتطلّب جهداً إضافياً لتحفيز المجتمع المدني على الانخراط في هذا الملفّ.
الحلّ الثالث يركّز على الجانب الإعلامي والتوعوي، حيث يُقترَح تنظيم حملة إعلامية حول الموضوع وخطره على المتسوّلين أولاً وعلى المدينة ثانياً، والإعلان عن كلّ الخطوات التنفيذية والإشارة الواضحة لمعرقليها. هذا الحلّ يهدف إلى كسر حاجز الصمت المحيط بالموضوع وفضح الجهات التي تعرقل الحلول.
التكلفة ليست مالية بل سياسية
يؤكّد المراقبون أنّ معالجة هذه المشكلة التي يعاني منها المواطنون لا تحتاج إلى تمويل ولا إلى كلفة مالية، كما يحاول البعض اعتبار ذلك حجّة لمنع إيجاد حلول لمثل هذه المشكلات. المطلوب واضح ومحدّد: قرار ومتابعة لدى الجهات المعنية.
هذا التأكيد مهمّ لأنّه يكشف عن طبيعة العوائق الحقيقية أمام الحلّ. فالمشكلة ليست في نقص الموارد المالية أو التقنية، بل في غياب الإرادة السياسية والقرار الحاسم. الحلول موجودة، والقوانين متوفّرة، والإمكانيات متاحة، لكن ما ينقص هو القرار السياسي الجريء الذي يكسر شبكة المصالح المتشابكة حول هذا الملفّ.
