تحميل

إبحث

في الصميم

الجنوبيون و”أشباح” يستأجرون الشقق ويغلقونها… أزمة جديدة في صيدا

لا شقق للإيجار في صيدا

أزمةٌ من نوعٍ مستجدٍّ تشهدها صيدا، عاصمةُ الجنوب، حيث تتزايدُ صعوبةُ العثورِ على شققٍ للإيجار بسببِ إقبالٍ متزايدٍ من أهالي الجنوب اللبناني على استئجارِ المساكن تحسُّبًا لاحتمال اندلاعِ جولةِ حربٍ ثانيةٍ مع إسرائيل. هذه الظاهرة، التي برزت بوضوح في الأشهر الأخيرة، تعكس حالةَ القلقِ والترقّبِ التي تسودُ المنطقةَ الحدودية، وتُلقي بظلالها على الحياةِ اليوميةِ للصيداويين الذين يجدون أنفسهم في مواجهةِ تحدياتٍ جديدة، بحيث إنّ المدينةَ تتفلّت من أيديهم

الخطة الطارئة
وفقًا لمصادرٍ صيداويةٍ محلية، بدأ مواطنون من أهل الجنوب باستئجارِ منازلَ في مناطقَ كانوا قد نزحوا إليها خلال الحربِ الإسرائيليةِ الأخيرةِ على لبنان، وذلك تحسُّبًا لأيِّ نزوحٍ جديدٍ قد يطرأ في حالِ اندلاعِ أيِّ توتر. هذه “الخطة الطارئة”، كما يُطلق عليها محليًّا، تشمل استئجارَ شققٍ في صيدا والمناطق المحيطة بها، بالإضافة إلى مناطقَ أخرى خارجَ نطاقِ الخطرِ المباشر.
تتميّزُ عملياتُ الإيجار هذه بعدةِ خصائصَ مهمة. أولًا، تتمُّ وفقَ أسعارٍ معقولةٍ وغيرِ مرتفعةٍ مقارنةً بالأوضاعِ الطارئةِ السابقة. ثانيًا، الشققُ التي يتمُّ استئجارُها لا يُجرى إشغالُها بشكلٍ مستمر، بل تُحفَظ كخيارٍ احتياطيٍّ للطوارئ.

تأثير الحرب الأخيرة
لفهمِ الوضعِ الحالي، لا بد من العودة إلى تداعياتِ الحربِ الإسرائيليةِ الأخيرةِ على لبنان. فقد أدّت الحربُ، منذ اندلاعها في 23 تشرين الأول 2023، إلى تهجيرِ أكثرَ من 120,000 شخصٍ من جنوبِ لبنان، اضطرّوا إلى تركِ منازلِهم وقُراهم وأراضيهم بحثًا عن الأمان. تفاقمت حركةُ النزوحِ القسري بشكلٍ كبير مع تصاعدِ الاعتداءات اعتبارًا من 23 أيلول 2024، حيث تجاوز عددُ النازحين المليونَ شخص.

واجه النازحون أوضاعًا مأساويةً في ظلِّ خطةِ طوارئَ غيرِ فعّالةٍ افتقرت إلى مقاربةٍ شاملةٍ لتأمينِ المأوى. وبسببِ عدمِ كفايةِ مراكزِ الإيواءِ الرسميةِ وتجهيزِها، اضطرّ جزءٌ كبيرٌ من النازحين (حوالي 38%) إلى اللجوء إلى الاستئجارِ ببدلاتٍ مرتفعة، مما استنزف مدّخراتِهم بشكلٍ واضح. فيما تمكّن ما يقارب نصفَ النازحين من تأمينِ مساكنَ عبرَ الإقامةِ مع العائلة أو الأصدقاء أو المعارف.

الوضع الحالي
تشهد صيدا اليوم تأثيراتٍ مباشرةً لهذه الأزمة. فالمدينة، التي كانت إحدى المحطاتِ الرئيسيةِ لاستقبالِ النازحين خلال الحرب، تواجه الآن ضغطًا جديدًا على سوقِ الإيجارات. شهدت المدينة خلال فترةِ النزوح زحمةَ سيرٍ خانقة باتجاه بيروت نتيجةَ حركةِ النزوحِ الكثيفة، كما تمَّ تقديمُ حتى 1000 وجبةٍ يوميًّا للمحتاجين في صيدا والجنوب.
تجمُّعُ صيدا القديمة، الذي يُعتبر من أكثرِ الأحياءِ اكتظاظًا بالسكان ويضم حوالي 7000 عائلة فلسطينية، يشهدُ ضغطًا إضافيًّا على المواردِ المتاحة. كما يواجهُ مخيمُ عين الحلوة في صيدا أزمةَ كهرباءٍ حادّة تتفاقم يومًا بعد يوم، مما يُضيف تحدّيًا إضافيًّا للوضعِ العام في المدينة.

مدينة تستحق أن تكون مركزًا معرفيًا متطورًا.. تحوّلت إلى حي فقير رقميًا

التأثير على الصيداويين
يواجه الصيداويون اليوم تحدّياتٍ جديدةً في العثورِ على سكنٍ مناسبٍ وبأسعارٍ معقولة. فالطلبُ المتزايدُ من أهالي الجنوب على الشققِ في المدينة يُؤدّي إلى ارتفاعٍ تدريجيٍّ كبيرٍ في الأسعار، رغم أن هذا الارتفاع لا يزالُ ضمنَ حدودٍ معقولةٍ مقارنةً بأزماتٍ سابقة. إلا أن هذا الوضع يخلقُ منافسةً إضافيةً في سوقٍ محدودٍ أصلًا.
كما يُؤثّر هذا الوضع على الحياةِ الاجتماعيةِ والاقتصاديةِ في المدينة. فوجودُ شققٍ مستأجرةٍ ولكن غيرِ مسكونةٍ بشكلٍ دائم، يُؤثّر على الحيويةِ التجاريةِ في بعضِ الأحياء، كما يخلقُ نوعًا من عدمِ الاستقرارِ في التركيبةِ السكانيةِ للمدينة.

السياق الأمني والسياسي
يأتي هذا التحرّك في ظلّ استمرارِ التوتّر على الحدودِ الجنوبية. فعلى الرغمِ من دخولِ اتفاقِ وقفِ إطلاقِ النار حيّزَ التنفيذ في 27 تشرين الثاني 2024، إلا أنّ إسرائيل ارتكبت أكثرَ من 3 آلاف خرقٍ للاتفاق، وفقًا للسلطاتِ اللبنانية. هذه الانتهاكاتُ المستمرة تُبقي أهالي الجنوب في حالةِ ترقّبٍ وقلقٍ دائم، مما يدفعهم إلى اتخاذِ إجراءاتٍ احترازيةٍ مثلَ استئجارِ شققٍ في مناطقَ آمنة.
الحربُ الأخيرة أسفرت عن أكثرَ من 4000 قتيلٍ ونحو 17 ألفَ جريح، وتسبّبت في خسائرَ تُقدَّر بـ15 مليارَ دولارٍ للبنان. هذه الأرقامُ المأساويةُ تُفسّر حالةَ الخوفِ والحذرِ التي تسودُ أهالي الجنوب، وتُبرّر سعيَهم لإيجادِ بدائلَ سكنيةٍ آمنة.

 

city_monster_simple
احتلال من نوع جديد لصيدا

التحديات والآفاق المستقبلية
تواجه صيدا تحدياتٍ متعددةً في التعاملِ مع هذا الوضعِ الجديد. فمن جهةٍ، تحتاج المدينةُ إلى تطويرِ قدراتِها الاستيعابية لمواجهةِ الطلبِ المتزايد على السكن. ومن جهةٍ أخرى، تحتاج إلى ضمانِ عدمِ تأثّرِ الصيداويين سلبًا بهذا الوضع.
كما تحتاج السلطاتُ المحلية إلى وضعِ خططِ طوارئَ أكثرَ فعاليةً للتعاملِ مع أيِّ موجةِ نزوحٍ مستقبلية، بحيث تكونُ أكثرَ تنظيمًا وعدالةً من التجربةِ السابقة. هذا يتطلّب تعاونًا وثيقًا بين البلدياتِ والحكومةِ المركزيةِ والمنظماتِ الدولية.

 

تعكسُ أزمةُ الإيجارِ الحاليةِ في صيدا واقعًا مؤلمًا يعيشه اللبنانيون، حيث أصبح التحسُّبُ للحرب جزءًا من التخطيطِ اليوميِّ للحياة. هذا الوضع يتطلّب حلولًا جذريةً تتجاوزُ مجرّدَ إدارةِ الأزمة إلى معالجةِ أسبابِها الجذرية، وأهمها تحقيقُ الاستقرارِ الأمنيِّ والسياسيِّ في المنطقة. في الوقتِ نفسه، تحتاج صيدا إلى دعمٍ خاصٍّ للتعاملِ مع هذه التحديات، سواءٌ من خلال تطويرِ البنيةِ التحتية، أو تقديمِ الدعمِ للصيداويين المتأثرين بهذا الوضع. فالمدينةُ التي لطالما كانت ملاذًا آمنًا لأهالي الجنوب، تستحق أن تحصلَ على الدعمِ اللازم لتستمرَّ في أداءِ هذا الدورِ الإنسانيِّ المهم، وأن يبقى فيها مكانٌ لأهلِها.
al-Post
العلامات

يعجبك ايضاً

أترك تعليقاً

Your email address will not be published. Required fields are marked *

تفعيل التنبيهات نعم كلا